أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم

رعاية الله له صلى الله عليه وسلم :
إن من يتتبع مسار حياة محمد صلى الله عليه وسلم ويتأمل فى مجرياتها ، من بدايتها إلى نهايتها ، يكتشف أن الله عز وجل حفظه ورعاه فى كل مراحل حياته ، قبل مولده ، وبعد مولده ، وفى شبابه ، وكهولته ، وفى تأديته لرسالة ربه على الوجه الذى كلفه به .
لقد حفظه الله ورعاه جنيناً ، وطفلاً رضيعاً ، ويتيماً فقيراً ، وذكَّره الله بنعمته عليه ، بعد أن بعثه رسولا ، ورحمة إلى العالمين ، فقال سبحانه :  أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) ووَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى (7) ووَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ 
[الضحى:6/11] وأى منصفٍ عاقلٍ مجردٍ عن الهوى يتأمل حياة محمد صلى الله عليه وسلم يظهر له بوضوح أنه أشرف الخلق ، وأطهرهم ، وأنقاهم ، وأعظمهم ، وأتقاهم .
أما رعاية الله له قبل مولده : فان الله اختار له خير الأصلاب ، وخير الأرحام ، وقد أجمع المؤرخون على أن نسبه الشريف ينتهى إلى سيدنا إسماعيل بن سيدنا إبراهيم ـ الخليل ـ عليهما السلام.
وقد روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : (( خير العرب مُضر ، وخير مُضر عبد مناف ، وخير عبد مناف بنو هاشم ، وخير بنى هاشم عبد المطلب ، والله ما افترقت فرقتان منذ خلق الله آدم إلا كنت فى خيرهما )) .
ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى هاشما من قريش ، واصطفانى من بنى هاشم ( ) )) .
كما يشهد له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بعثت من خير قرون آدم قرناً فقرناً ، حتى بعثت من القرن الذى كنت فيه )) ( ) .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر )) ( ) .
وكما نجى الله تبارك وتعالى إسماعيل عليه السلام من الذبح ، وهو الجد الأكبر لمحمد صلى الله عليه وسلم وفداه الله بذبح عظيم ، نجى الله عبد الله بن عبد المطلب ـ والد النبى صلى الله عليه وسلم ـ من الذبح ، وفاء بنذر أبيه ، وفداه الله بمائة ناقة ، ذبحها عبد المطلب وذلك لكى يؤدى مهمته ، التى خُلق من أجلها ، وهى إنجاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد توجه عبد المطلب بابنه عبد الله إلى دار وهب بن عبد مناف ، وهو سيد بنى زهرة شرفاً ونسباً ، وزوجه من آمنة بنت وهب ، وكانت أفضل امرأة فى قريش نسباً وموضعاً وطهراً وكمالاً ، وما إن دخل بها حتى حملت ، ثم سافر فى قافلة التجارة ، ولم يعد حيث وافته المنية بعد أن وضع البذرة المباركة .
قصة حمله وولادته صلى الله عليه وسلم
يروى ابن الجوزى ، وابن كثير قصة حمله وولادته صلى الله عليه وسلم كما يلى :
( لما حملت به آمنة بنت وهب كانت تقول : ما شعرت أننى حملت به ولا وجدت له ثقلاً كما تجد النساء إلا أننى أنكرت رفع حيضتى فأتانى آت وأنا بين النائمة واليقظانة فقال : هل شعرت أنك حملتى ؟ ، فكأنى أقول لا أدرى ، فقال : إنك حملتى بسيد هذه الأمة ونبيها ، وتقول : ثم أمهلنى حتى إذا دنت ولادتى أتانى ذلك الآت فقال : قولى أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ( ) ، وعند وضعه صلى الله عليه وسلم يقول ابن الجوزى : قالت آمنة : لقد رأيت ليلة وضع رسول الله نورا أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها ( ) وفى رحلتى الأولى إلى الشام وهو غلام مرافق لعمه أبى طالب فى قافلة تجارة أهل مكة مرت القافلة فى طرقها قريباً من صومعة راهب نصرانى يقال له (بحيرة) وشاهد الراهب بعض الأمارات التى يعرفها وحينئذ صنع للقافلة طعاما ودعاهم عنده فلما حضروا إلى صومعته سألهم : هل تخلف منكم أحد ؟ ، قالوا : غلام ، قال لهم : ادعوه فليحضر هذا الطعام ، فلما حضر جعل بحيرة يتأمله ويناقشه ويدقق النظر فيه بحثا عن علامات يعرفها ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه الشريفين فسال عمه : ما هذا الغلام ؟ ، قال : ابنى ، قال الراهب : ما ينبغى أن يكون لهذا الغلام والدٌ حىٌ ، قال : فإنه ابن أخى ، قال بحيرة : فما فعل أبوه ؟ ، قال : مات وأمه حبلى فيه ، قال بحيرة : صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود ، فوالله لئن رأوه وعرفوه ليبلغنه شراً ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيم ( ) .
ويروى أن محمداً حضر سوق بصرى فباع سلعته التى خرج بها واشترى فكان بينه وبين رجل اختلاف فى سلعة فقال له الرجل : أتحلف باللات والعزى ؟ ، فقال محمد : ما حلفت بهما قط ، وإنى لأمر بهما فاعرض عنهما ، قال الرجل : القول قولك ، ثم قال لميسرة حين خلى به : يا ميسرة هذا نبى والذى نفسى بيده انه لهو هو ، ويجده أحبارنا منعوتا فى كتبهم ( )
عصمة الله له صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة :
وروى عن على رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما هممت بشىء مما كان فى الجاهلية يعملون به غير مرتين كل ذلك يحول الله تعالى بينى وبين ما أريد ، فإنى قلت مرة لغلام من قريش كان يرعى معى بأعلى مكة : لو أبصرت إلى غنمى حتى ادخل مكة فاسمر بها ما يسمر الشباب ؟ ، فقال : ادخل ، فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقلت : ما هذا ، قالوا : فلان ابن فلان تزوج فلانة ابنة فلان ، فجلست انظر إليهم فضرب الله على أذنى فنمت ما أيقظنى إلا مس الشمس ، قال : فجئت صاحبة فقال : ما فعلت ؟ ، قلت ما صنعت شيئا أخبرته الخبر ، قال : ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك فقال : إفعل ، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت ودخلت مكة تلك الليلة فجلست انظر فضرب الله على أذنى فنمت ما أيقظنى إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبى فأخبرته الخبر ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمنى الله الرسالة ( )
شهادة أبى سفيان لرسول الله :
ويعلق الإمام الماوردى على هذه الرواية فيقول : فهذه أحوال عصمته قبل الرسالة وصده عن دنس الجهالة فاقتضى أن يكون بعد الرسالة أعظم ، وهذا أبو سفيان ابن حرب قبل أن يسلم لم يمنعه كفره بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول فيه الحق حين سأله عنه هرقل ، وكان رسول الله قد أرسل رسالة إلى هرقل يدعوه مع قومه إلى الدخول فى الإسلام وكان هرقل قد رأى من الشواهد والإمارات ما يدل على ظهور النبى الجديد وأراد أن يزداد تثبيتاً ويقينا فأمر رجاله أن يأتوه بأحد من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ووصلت فى تلك الحالة قافلة تجارة لأهل مكة فيهم أبو سفيان بن حرب فلما مثلوا بين يدى هرقل وحوله عظماء الروم سألهم : أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذى يزعم بأنه نبى ؟ ، فأجاب أبو سفيان : أنا أقربهم نسباً ، فأدناه هرقل منه وجعل أصحابه خلفه عند ظهره وطلب منه عن طريق المترجم إذا كذب أبو سفيان فى إجابته عن أسئلة هرقل أن يكذبوه ، قال هرقل لأبى سفيان : كيف نسبه فيكم ؟ ، فأجاب أبو سفيان قائلا : هو فينا ذو نسب ، قال : هل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ ، قال أبو سفيان : لا ، قال : هل كان من آبائه ملك ؟ ، قال أبو سفيان : لا ، قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفائهم ؟ ، قال أبو سفيان : بل ضعفائهم ، قال : أيزيدون أم ينقصون ؟ ، قال أبو سفيان : بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد منهم سخطاً لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ ، قال أبو سفيان : لا ، قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ ، قال أبو سفيان : لا ، قال : فهل يغدر؟ ، وهنا يتلوى أبو سفيان فى الإجابة ويقول : لا ، ثم يضيف ونحن فى مدة أى عهد صلح لا ندرى ما هو فاعل فيها ، قال : هل قاتلتموه ؟ ، قال أبو سفيان : نعم ، قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ ، فيقول أبو سفيان : الحرب سجال بيننا وبينه ينال منا وننال منه ، قال : بماذا يأمركم ؟ ، وبرغم أنف أبى سفيان يشرح مبادئ الإسلام ويقول : قال لنا اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آبائكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ، وبهذا ظهر الحق واضحاً لهرقل وإن كان قد نكث على عقبه بعد أن شعر أن قومه سيتمردون ضده ولم يكن فى شجاعة النجاشى ملك الحبشة ولا فى مضاء عزيمته ، وبعد أن سمع هرقل مقالة أبى سفيان قال له : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها ، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول ؟ فذكرت أن لا ، فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله ، وسألتك هل كان من آبائه من ملك ، فذكرت أن لا ، قلت فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، فذكرت أن لا ، فقد كنت أعرف أنه لا يترك الكذب على الناس ويكذب على الله ، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أو ضعفائهم ، فذكرت أن ضعفائهم اتبعوه وهو اتباع الرسل ، سألتك أيزيدون أم ينقصون ، فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم ، وسألتك أيرتد أحد سُخْطََهً لدينه بعد أن يدخل فيه ، فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب ، وسألتك هل يغدر ، فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك بم يأمركم ، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف ، فإن كان ما يقوله حقا فسيملك موضع قدمى هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم اكن أظن أنه منكم فلو أنى اعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقائه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ( )
البوذيون يشهدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
وها هو رجل من علماء البوذية يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم أنى لأجد فى رسول الإسلام خلالاً وأخلاقاً جمة لم أرها مجتمعة فى تاريخ العالم الإنسانى لواحدٍ فى آن واحد فقد كان ملكاً دانت له أوطانه كلها يصرف الأمر كله بيد ربه وتراه فى غنى عظيم تأتيه الإبل موقورة بالخزائن إلى عاصمته ويبقى هو مع ذلك محتاجاً لا يوقد فى بيت من بيوته نارٌ لطعامٍ طوال أيام كثيرة وتراه قائداً عظيماً يقود الجند القليل العدة الضعيف العدد فيقاتل بهم ألوفاً من الجند المدجج بالأسلحة الكاملة ثم يهزمهم شر هزيمة وتجده محباً للسلام مؤثراً للصلح ويوقع شروط المعاهدة على قرطاسٍ بقلب مطمئن وجأش هادئ ومعه الوفد من أصحابه كلا منهم شجاع باسل وصاحب حماسة وحمية تملأ جوانحه وتشاهد بطلاً شجاعاً يصمد وحده لألوف من أعدائه غير مكترث بكثرتهم وهو فى ذلك رقيق القلب رحيم رؤوف متعفف عن سفك نقطة دم وتراه مشغولا بجزيرة العرب كلها بينما هو لا يفوته أمر من أمور بيته وأزواجه وأولاده ولا أمر من أمور الفقراء والمساكين ويهتم بأمر العالم كله وهو مع هذا متبتل إلى الله منقطع عن الدنيا ، فهو فيها وليس فيها لأن قلبه لا يتعلق إلا بالله وبما يرضى الله ( )
هذا هو أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم كما عرفته الدنيا وهذه أقوال المنصفين فيه وأما المغرضون من أصحاب الهوى الذين أعماهم التعصب ولم يروا الحقيقة الناصعة فقد تفننوا فى اختراع الأكاذيب وتلفيق الأباطيل وروجوا لها وتناقلتها أجيالهم وتلقفتها أوكارهم وظنوا أن ترجمتها ونشرها فى لغات متعددة يمكن أن يشوه وجه الحقيقة الناصعة أو يطمس معالمها المشرقة ونحن على ثقة من خذلانهم وكفران سعيهم لأن الله يقول وقولـه الحق :  يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون 
[التوبة :32]

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...