من وحي الهجرة (نبي مُطارَد)

محمد عبدالرحمن صادق:

– إن الإنسان المُطارَد في توجُّس دائم وترقُّب مُستمر ، فهو يتوقع المكروه وما لا تُحمد عُقباه في أي لحظة . فالمُطارَد أراه مُهاجراً قد قل بل ندُر ناصروه ، أراه وقد هجر الأهل والأحباب إلى مصير مجهول لا يعلم ماذا سيحدث فيه ولا متى سينتهي فهو إذا أمسى لا ينتظر الصباح وإذا أصبح لا ينتظر المساء .

– إن سلوى المُطارَد الوحيدة في هذه الأجواء المُضطربة والأمواج الهائجة واللهيب اللافح والصقيع القارس أنه يسير على درب مُوحش قد قل سالكوه وهو درب الأنبياء والصالحين ومن هم على شاكلتهم ، وسلواه أن ما يحدث له إنما هو سُنة من سُنن الدعوات فلقد طورد إبراهيم وموسى ومحمد وكل الأنبياء عليهم السلام وكل سلواه أيضاً أنه موصول بالله تعالى ويثق تمام الثقة أنه في معية الله تعالى وأن تضحيته مأجورة ومنزلته عند الله تعالى مرفوعة ، وسلواه كذلك أن الباطل إلى زال وأن وعد الله تعالى بنُصرة أوليائه كائن لا محالة .

قال تعالى : ” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {55} ” ( النور 55 ) .

هذا الوعد من الله تعالى يُثلِج الصدور ويُخفف من لوعة المُطاردة ، ويكون كالنسمة التي تُبدِّد اللهيب اللافح بالبقاء تحت سطوة الجلاد والصقيع القارس بفراق الأهل والأحبة .

– ليعلم كل مُطارَد أن مُطاردة النبي صلى الله عليه وسلم ومُلاحقته والتنكيل به وبأصحابه وتشويه سيرته العطرة بدأت منذ أن صعد على جبل الصفا وصدح بالحق وأعلن عن نبوته صلى الله عليه وسلم . هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ والإنذار الذي ترتب عليها أن انفجرت مكة بمشاعر الغضب ، وماجت بالغرابة والاستنكار ، حين سمعت صوتاُ وكأنه يجهر بتضليل المشركين ليصدهم عن عبادة الأصنام كأنه صاعقة قصفت السحاب ، فرعدت وبرقت وزلزلت الجو الهادئ وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة ، ويُخشي أن تأتى على تقاليدها وموروثاتها .

– إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم عامة وهجرته من مكة إلى المدينة خاصة تُجَسِّد كل هذه المعاني وتُعطي نموذجاً عملياً يتأسى به الدعاة إلى يوم القيامة .

قال تعالى : ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً {21} ” ( الأحزاب 21 ) .

وسوف أستعرض هنا دروساً سريعة من هجرته صلى الله عليه وسلم لتكون بمثابة معالم على طريق المطاردين وأنيساً لهم في الوحدة والوحشة وداعياً لمواصلة التضحية ودافعاً للثبات حتى الممات بإذن الله تعالى .

1- التعفف والاستعداد النفسي والمادي قبل كل حدث : لقد كان أبو بكر رضي الله عنه كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً ” فيطمع أبو بكر أن يكونه . هذا عن الاستعداد النفسي .

أما عن الاستعداد المادي فلقد اشترى أبو بكر الصديق رضي الله عنه راحلتين ، فاحتبسهما في دار يعلفهما إعداداً لذلك . فلم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر رضي الله عنه واستقر الثمن ديناً بذمته .

– فعلى الداعية أن يُحسن تقدير الأمور وتدبيرها ويُحسن الأخذ بالأسباب وأن يكون مُتوكلاً وليس مُتواكلاَ .

2- اتخاذ صُحبة من الثقات لتكون مُعينة على نوائب الدهر : فلقد كان توظيف الأفراد توظيفاً مثالياً حيث تم وضع الفرد المناسب في المكان المناسب فكان التوفيق حليفاً للجميع والنتيجة مرضية للجميع .

3 – الباطل لا يتوقف عن بطشه وكيده ومكره بالدعاة بل يُسَخِّر كل إمكانياته لذلك : فهذه قريش تجتمع في دار الندوة لتفكر كيف تفتك بمحمد صلى الله عليه وسلم ويُوحي لهم شيطانهم أن يجمعوا من كل قبيلة شاباً جلداً للفتك به صلى الله عليه وسلم وعندما أبطل الله كيدهم لم يتوقفوا عن الكيد والمكر بل رصدوا مُكافئة لا مثيل لها ولم تسمع بها العرب من قبل لمن يأتي به صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً . فأنت أيها الداعية المُطارد كما أنك غال عزيز على دعوتك فكذلك معارضوك يعتبرونك صيداً ثميناً وإلا ما أجهدوا أنفسهم هذا الجهد وكلفوها هذا العناء المادي والمعنوي ليصلوا إليك ، فوجودك يقد مضاجعهم ويُزلزل عُروشهم ولا يترددوا لحظة واحدة لكي يتخلصوا منك بالتصفية الجسدية ( أو ميتاً ) وهم على استعداد لخرق كل القوانين والأعراف والتقاليد لتحقيق غايتهم الدنيئة ، فحفاظك على نفسك مكسباً لك ولدعوتك وغيظاً ومكيدة للطغاة البُغاة فاحرص على ذلك .

4- مُراعاة الجانب النفسي للأهل ولرفاق الدرب : تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها : ” لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه ، احتمل أبو بكر ماله كله معه : خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم ، فانطلق بها معه ، فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره ، فقال : ” والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه ” ، قلت : ” كلا يا أبت ، إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً ” ، قالت : وأخذتُ أحجاراً فوضعتها في كُوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ، ثم وضعت عليها ثوباً ، ثم أخذت بيده فقلت : ” يا أبت ضع يدك على هذا المال ” ، قالت : فوضع يده عليه فقال : ” لا بأس ، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم ” ، قالت : ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك ” . فيجب عليك في تضحيتك أن تكون صابراً مُحتسباً فلا تُكثر التشكي ولا يصل لأهلك وأحبابك عنك إلا كل ما يبعث على الثبات والطمأنينة وإيقاظ بل إشعال الهمة . ليصلهم عنك دفء الأنس بالله ولطفه بك ورعايته وحفظه لك فتقر أعينهم وتذهب لوعتهم وتزداد بشارتهم .

5- ثق بمعية الله تعالى وتسخيره لجنود لا تراها ولا تتوقعها : من كان يتوقع يوماً أن يكون أبو جهل مُدافعاً عن حُرمة بيت محمد صلى الله عليه وسلم ومانعاً للمشركين من أن يقتحموا البيت ليلاً فيُفزِّعوا بناته وزوجاته صلى الله عليه وسلم ؟

– من كان يظن أن سُراقة بن مالك الذي سال لعابه ليفوز بالجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً سيعود مُنكباً على وجهه بعد أن رأى آيات الله عز وجل وبعد أن بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بسواري كِسرى فعاد أدراجه يُعَمِّي من يطاردون النبي صلى الله عليه وسلم للفتك به .

– من كان يعتقد أن الله تعالى سيُسخر عبد الله بن أريقط – وكان على دين قومه من قريش – هو الذي سيتولى توصيل الراحلتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه عند غار ثور بعد ثلاثة أيام . وهناك الأمثلة العديدة التي لا يتسع المقام لذكرها .

– فلتعلم أيها المُطارد أن ” القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء ” ولتوقن بأن قدر الله تعالى هو الغالب وما قدره الله هو الكائن ، ولتتأكد ” أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ” .

6- عدم التخلي عن الدعوة في أحلك الظروف : إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شِغاف قلبه لا يفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس إلى دين الله تعالى ، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مُضطربة ، والأمن مفقود ، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى .

– ففي طريق الهجرة لقي النبي صلى الله عليه وسلم بُريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي ، فدعاه إلى الإسلام وفتح الله تعالى لقومه أبواب الهداية على يديه فقال صلى الله عليه وسلم : ” أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، أما والله ما أنا قلته ولكن الله قال ” .

ـ وفي طريق الهجرة أسلم لصان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لصان من قبيلة أسلم يقال لهما المُهانان ، فقصدهما صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المُهانان ، فقال : بل المُكرمان ، وأمرهما أن يقدما عليه المدينة .

– فالدعوة بالنسبة للداعية هي الروح التي تسري في أوصاله فلا قيمة له بدونها وبقدر عطائه لهذه الدعوة بقدر الدفء الذي يشعر به وانشراح الصدر وطمأنينة النفس بل والشعور برضا الله تعالى بأن استعمله لخدمة هذا الدين .

7- الرحب والسعة أشد ابتلاءً للمُطارد من الضيق والقهر : إذا منَّ الله تعالى على المُطارد بالأمن والاستقرار ورغد العيش فليعلم أن ذلك اختباراً من الله عز وجل فلا تغره الدنيا وزينتها ولا يُكثِر من حطامها ولا يُنافس طلابها بل يُكثِر من شُكر الله تعالى على هذه النعمة وليُضاعف عطائه لهذه الدعوة ولا ينسى أنه عاهد الله تعالى على الاستقامة والثبات وليتخذ القدوة والأسوة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم فعندما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة :-

– أصلح بين الأوس والخزرج للحفاظ على لُحمة المجتمع قوية صلبة وليتخلوا عن نزعة الجاهلية .

– آخى بين المُهاجرين والأنصار للحفاظ على تقوية الروابط الاجتماعية بينهما وليعلموا أنهم في الله إخوة .

– اختار مكاناً مُناسباً لبناء المسجد لتقوية الجانب الإيماني فهو السياج الذي يحفظ للأمة الإسلامية هويتها .

– أسس سوقاً لضمان قوة الجانب الاقتصادي حتى لا يتسول المسلمون قوتهم من غيرهم .

* إذاً هو مجهود مُضني لا راحة فيه وعمل شاق لا هوادة معه . فإياك ثم إياك أن تقع تحت قوله تعالى : ” وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ {77} ” ( التوبة 75 – 77 ) .

– فالهجرة لم تكن فراراً من الشدائد والآلام بمكة ، ولا بحثاً عن الراحة والدعة بالمدينة ، ولا طلباً للدنيا وحُطامها ، ولكنها أولا وقبل كل شيء استجابة لأمر الله ورسوله ، وطلباً لمرضاة الله ونصرة لدينه حيث قال تعالى : ” لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} ” ( الحشر 8 ) .

– الله أسأل أن يُنعم علينا بنعمة الأمن ونعمة الصبر ونعمة الثبات والعمل والجهاد والتضحية وصرف الله عن أمتنا ما ألم بها من ظلم الظالمين وكيد الكائدين ومكر الماكرين وحفظ الله كل مطارد وجمع شمله وتقبل جهاده إنه ولي ذلك والقادر عليه .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...