الهجرة وحب الله

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
{والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم}.
من قلب محمد (صلى الله عليه وسلم)
الذي فاض بالحب والرحمة للعالمين
فاحتوى الدنيا بأسرها واستجلى معالم الطريق واضحة أمام ناظريه فمضى دون عقبات، ومن خلفه تلك المجموعة المصطفاة من البشر يضيئون الدنيا بجلال الدين، فيضعون عن البشرية إصرها.. ويحررون قلوب الناس من أسر الهوى والنفس والشيطان.. فلا تجد ملاذها إلا في السجود بين يدي الرحمن، حيث السيادة الحقة والحرية المطلقة.
إنها سيمفونية حب ما زالت تتردد على مسامع الزمان والمكان.. تتناقلها أفئدة وعت الغاية وتذوقت لذة السير على الدرب، فكأن نغماتها قد سجلت بحروف من نور على جُدر القلوب… قلوب من نسجوها في حينها.. وقلوب من عشقوها من بعدهم جهادًا ونية.
سيمفونية حب تسامى بالبشر عن بشريتهم فكأنهم ملائكة يقتاتون إياه.. فهو دفق الدماء في عروقهم ونبض الحياة في قلوبهم.
معزوفة متفردة تبزغ على دنيانا سنويًّا كشمس تبدد ظلمات النفوس إذ نحلق سويًّا مع بعض مقطوعاتها لعلها تقود قلوبنا إلى ذات الطريق.. طريق الحب.
أما المقطوعة الأولى فهي الخيط المتين الذي انتظم حبات القلوب في عقد لؤلؤي ما زال يتألق على جِيدِ الحياة.. إنه حب الله لرسوله وللفئة المؤمنة من أصحابه المهاجرين والأنصار.
فأما رسوله فيبشره وهو مطارد من دياره.. يتقلب أصحابه بين التشريد والبقاء تحت لفحات العذاب في هجير مكة المتقدة حقداً على الدين الجديد.. يبشره قائلاً: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}.
نصر؟!.. أفي التشريد والإبعاد والمطاردة نصر؟!
نعم نصر.. {إن تنصروا الله ينصركم}، ولقد نصره رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حينما انتصروا على أنفسهم فضحوا بالنفس والمال والولد والوطن وكل شيء فداء لدينهم، فكان حقًّا على الله نصرهم.
إنه حب الله لعباده الصالحين.. حين تحسه في رسائل ربانية، تتخطى حاجز الذنوب وتذيب قسوة القلوب لتستشعرها، وقد مست روحك في أشد اللحظات ظلمة، فإذا شعاع الأمل والرضا واليقين يتألق فيها من جديد.. فتستمر الحياة مورقة في عينيك برغم كبدها وعنائها.. إن لك ربًّا خلقك لتتعامل مع مفردات الحياة بكل أصنافها وأنواعها.. بآلامها وآمالها.. أفراحها وأتراحها.. قسوتها وحنانها.. لكن.. إذا مادت بك السبل وضلت قدماك الطريق وضاقت عليك الحياة بما رحبت فإنه هناك ينتظرك ويطمئنك بأنه القادر أن يمسح عن قلبك دمع الأسى بلمسة ربانية حانية حين يقلب نواميس الكون لصالحك فيقول للشيء {كن فيكون}…
هو الله الذي تجلى حبه لعباده المهاجرين والأنصار، إذ يقول فيهم: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}.
{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم}.
{والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
نعم.. لقد شهدت كل أقوالهم وأفعالهم بل خطرات قلوبهم أنهم صدقوا فكان حقًّا على الله أن يصدقهم.
إنهم أولئك الذين خرجوا من دفء الحياة ونعيمها إلى حر البيداء وشقائها في طريق طويل لم يتزودوا له سوى بأفئدة فاضت حبًّا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. وإخوانهم من الأنصار الذين مهما لاقوا من عنت الحياة وشظفها بذلوا وما بخلوا… عاطفة ومالاً وجهادًا.. فإذا بهؤلاء المعثرين المطاردين الذين يقتسمون القليل من متع الحياة يمتلكون قصور كسرى وضِياع قيصر في بضع سنين، وتعلوا رايتهم أربعة أخماس الكرة الأرضية بعد أن ضاقت بهم بطحاء مكة، وضجت رمالها من أنين دماء المعذبين منهم.فهل قدمنا مثل هذا الحب لديننا حتى نستحق مثلهم.. حب الله؟!
الآن.. الآن يا رسول الله
“إني أحبك يا رسول الله”.. فاض بها قلب الفاروق عمر ذات مرة فأطلقها لسانه للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإذا رسول الله يأخذ بيدي الفاروق ليعلمه كيف عليه وعلى كل مؤمن يأتي من بعده أن يحبه صلى الله عليه ويسلم، فيسأله إن كان هذا الحب يفوق أهله وأولاده؟ أيفوق حبه لماله؟ أيفوق حبه لوالديه؟
وتكون إجابة الفاروق قوية.. حازمة.. قاطعة.. “نعم”، إلى أن يسأله صلى الله عليه وسلم “أهو أحب إليه من نفسه؟” فيتألق صدق ابن الخطاب.. فنعم هذه المرة لا تملأ كيانه، ولا تستلب كل ذرة في وجدانه.. ومن ثم فلا يحق له أن ينطق بها لسانه.. ويعود إلى نفسه أيامًا يرودها ويربيها على هذا المستوى من حب رسول الله قبل أن يعود إليه قائلاً: “الآن يا رسول الله”.. فيبتسم المصطفى مجيباً: “الآن يا عمر”..
إنه صدق الحب.. الذي وإن ترعرع أمامنا على يد عمر فإنه ولد على يد الصديق أبي بكر، الذي أسمع الدنيا أجمل ترانيم الحب.. فهو العازف الأول في سيمفونية الهجرة بعد مايسترو الحب محمد، صلى الله عليه وسلم.
إنه أبو بكر.. يهاجر تاركاً خلفه بناته وصغاره بين يدي طغاة قريش دون مال أو حماية سوى يقينه بأنه ترك لهم الله ورسوله.. ويمضي على درب الهجرة بين مكة التي أخرجتهم بدموع الفراق، وقد استبد القلق بها؛ إذ ترى الفخاخ التي نصبها لهم مطاردو قريش، والمدينة التي تنتظرهم بأكاليل الشوق ولهفة الأرض الجدباء إلى تَنَزُّلِ الغيث لتؤرخ لبداية دولة النور.. دولة الإسلام.
إنه أبو بكر.. المنشد الأول في قافلة الحب.. الذي برغم يقينه بأن الله يعصم نبيه من الناس فإنه لم يملك سوى أن يدور حوله -صلى الله عليه وسلم- من كل جانب حتى إذا أتى سهم غادر أصاب أبا بكر وأخطأ النبيَّ، فيفتديه بروحه ونفسه، فإن لم يأت السهم فلربما كانت بين جنبات الغار أفعى رابضة في الظلام تنتظر دفء جسد نابض بالحياة لتسلبه إياها.. فليكن إذن جسد أبي بكر لا جسد النبي -صلى الله عليه وسلم-.. حتى آهة الألم من إثر لدغة تنتزع الحياة لا يصح أن يطلقها فتؤرق النبيَّ الذي أسند رأسه إلى حجر الصديق وأخلد للنوم.. فإن حياة أبي بكر قاطبة لا توازي لحظة غفوة تتبدد من عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. ولكن الحب الذي جمع بين قلبيهما لا يحتاج إلى أدوات كالكلمات والأصوات والإيماءات ليستشعر كل منهما بنبض الآخر، وكأنما قلب كل منهما يخفق بين جوانح صاحبه، فيستيقظ الحبيب ليجد دموع الأمل تكابد جاهدة لتتحرر من قيد الجفون، وتسيل على وجنة الصديق، ولكن أنّى لها ذلك أمام إرادة الحب الفولاذية، فيدرك المصطفى ما أصاب صاحبه فيمسح على مكان اللدغة، ويدعو له فيتبخر الألم كأنما لم يوجد من قبل.
إنه حب أغلى من الحياة.. فمتى تقول أنت كما قال عمر؟ “.. نعم.. الآن.. الآن يا رسول الله”.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...