شهر شعبان بين علو الهمة ومحاسبة النفس

الحمد الله والصلاة والسلام علي رسول الله محمد بن عبد الله وعلي آله وصحبه ومن والاه وبعد :
فإن الله تبارك وتعالي قبل أن يخلق آدم عليه السلام قال للملائكة ” إني جاعل في الأرض خليفة ” وخلافة آدم عليه تعني إقامة شرع الله علي الأرض . ولذا حدد الله رسالته فقال : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )(الذريات:56)والعبادة بمفهومها الصحيح تشمل كل حركة الحياة : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين َ)(الأنعام:162) (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام:163) والعبادة ككل شيء لها مواسم وأوقات فاضلة ومن أفضل الأوقات شهر رمضان الذي يعتبر في عرف المسلمين بداية السنة العبادية للمؤمن وبالتالي يعتبر شهر شعبان نهاية السنة العبادية للمؤمن ويترتب علي هذا أمران :-
الأول :- أم المؤمن يبدأ بعلو الهمة في شعبان استعداداً لرمضان .
الثاني : يحب علي كل مسلم أن يحاسب نفسه علي ما قدم في السنة الماضية ونبدأ بالأمر الأول وهو علو الهمة في شعبان فنقول وبالله التوفيق .
أ- يقول الله تعالي : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21) كما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ومالك في الموطأ .. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها ” وما رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط ، إلا شهر رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صيامأً في شعبان ” ، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما – قال : قلت يا رسول الله ، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ، ما تصوم من شعبان ! قال ” ذلك شهر يفغل الناس عنه بين رجب ورمضان ، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلي رب العالمين فأحب أن يرفع عملي ، وأنا صائم ” رواه النسائي وأحمد وصححه أبن خزيمة أما تخصيص صيام النصف من شعبان فليس فيه نص صحيح ولكن يدخل في صيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر .
وقد أختلف في ( الحكمة ) من إكثاره صلي الله عليه وسلم من صوم شعبان فقيل كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفراً وغيره فتجتمع فيقضيها في شعبان أشار إلي ذلك أبن بطال ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت ( كان رسول الله يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم شعبان ) .
وقيل كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان ويؤيد ه ما أخرجه الترمذى عن أنس قال ” سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان فقال شعبان لتعظيم رمضان فقيل أن الحكمة في ذلك :-
أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان فكان يصوم معهن . وقيل الحكمة أنه يتعقبه رمضان وصومه مفترض فكان يكثر من الصوم قدر ما يصوم في شهر ين غيره لما يفوته من التطوع الذي يعتاده بسبب صوم رمضان . والأولي أن الحكمة في ذلك غفلة الناس عنه لما أخرجه النسائي وأبو داود وصححه أبن خزيمة من حديث أسامة السابق قال ( قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان قال ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلي رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ) .
ب- ولا يقتصر علو الهمة في شعبان علي الصيام فحسب ولكن هناك من الأعمال الكثير كتلاوة القرآن والمحافظة علي الأذكار والتسبيح والتهليل ، و قيام الليل ومن العجب أن الله تبارك وتعالي فرض قيام الليل في أول الأمر علي النبي صلي الله عليه وسلم ومن معه من الجماعة المؤمنة لمدة عام كامل .( نيل الأوطار للشوكانى صـ 346 جـ 4 ) .فقاموا حتى تورمت منهم الأقدام قال تعالي 🙁 يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(المزمل 1 : 4) .وبعد سنة كاملة نزل التخفيف وصار قيام الليل نافلة وأنزل الله تعالي : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ)(المزمل: من الآية20)ومع ذلك ظل النبي صلي الله عليه وسلم والمسلمون يقومون الليل تطوعاً علي مدار العام قال تعالي :في صفات عباد الرحمن .. ( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان:64) وفي صفات المحسنين قال تعالي : ( وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(الذريات:18) . روي أبو هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ” رحم الله امرأ قام من الليل فصلي وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبي نضحت في وجهه الماء ” رواه أبو داود والنسائي وأبن ماجة وأحمد و الحاكم ،وعنه أيضاً أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال ” إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلي ركعتين جميعاً كتب في الذاكرين والذاكرات ” رواه أبو داود وأبن ماجة .
روي الترمذي وأبن ماجة وأحمد والحاكم قال عبد الله بن سلام أول ما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه فكنت ممن جاءه فلما تأملت وجهه واستبينته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب قال فكان أول ما سمعت من كلامه أن قال ” أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ” .
وفي الحديث الأخير من أعمال الخير غير قيام الليل إفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام وكلها تحتاج إلي علو الهمة علي مدار العام خصوصاً ما شاع بين المسلمين من تقطع الأرحام فهل يكون شعبان استعداداً لرمضان وفرصة كوقفة مع النفس ومحاسبتها وهذا هو الذي نريد أن تقف عنده ليسأل كل منا نفسه محاسبا .
الأمر الثاني : أ- ماذا قدم كل لنفسه في عامه المنصرم ؟ هل حافظ علي صيام ثلاثة أيام من كل شهر ؟ قال أبو ذر الغفاري أمرنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ” أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض ثلاث عشرة وأربعة عشرة وخمس عشر ة وقال هي كصوم الدهر ” رواه النسائي وصححه ابن حبان .
ب- هل حافظ علي صيام الاثنين والخميس ؟ عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس فقيل له فقال ” إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس فيغفر الله لكل مسلم أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين فيقول أخروهما ” رواه أحمد .
ج- هل حافظ علي ذكر الله ؟ قال تعالي : ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد: من الآية28) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً)(الأحزاب:41) ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ” رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه بالدمع ” رواه البخاري .
د- وهل داوم المسلم علي تلاوة القرآن علي مدار العام ؟ أم أن المسلمين درجوا علي قراءة القرآن في رمضان فقط . لقد كان السلف رضوان الله عليهم يقرأون القرآن في كل أسبوع مرة يبدأ أحدهم يقرأ ثلاث سور في أول ليلة ( البقرة – آل عمران – النساء ) وفي الثانية خمس وفي الثالثة سبع فتسع فإحدي عشر ة فثلاث عشرة وفي السابعة يقرأ من سورة ( ق ) حتى الناس وهكذا كل أسبوع علي مدار العام وعلي أقل تقدير كانوا يقرؤون القرآن في كل شهر مرة – قال تعالي : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(صّ: من الآية29) وكانوا يجعلون ورداً للتلاوة وورداً للتدبر .
وهل يحاسب المسلم نفسه في أمور اجتماعية كبر الوالدين وصلة الأرحام والعلاقة بالجيران وتقديم كل خير نافع للمسلمين .
هـ- بالجملة يجب علي كل مسلم أن يقف مع نفسه وقفة يحاسب فيها نفسه ويتذكر فيها الموت و البلى والقبر وضمته والحساب ودقته والصراط وحدته ويوم القيامة وروعته يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم وتهيئوا للعرض الأكبر ) وصدق الله العظيم إذ يقول : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)(الفرقان:62) .
تنبيــــــــــــــــه : ما ورد من النهي عن الصيام في النصف الثاني من شعبان والنهي عن وصل رمضان بصوم يوم أو يومين من شعبان لا يتعارض مع من كانت له عادة كصيام الاثنين والخميس أو صوم يوم وفطر يوم فمن كانت له عادة فليستمر فيها حتى نهاية الشهر . والله أعلم .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...