تأملات فى سورة ابراهيم

أسلوب ضرب المثل :
وهذا أيضاً من الأساليب القرآنية المعهودة والتي تعمل على تقريب المعنى من خلال ضرب الأمثلة المعروفة، ولقد جاء في هذه السورة مثلان من أروع ما ضرب من الأمثال القرآنية دقةَ بيان وروعة أسلوب ووضوح معنى، أحدهما يتعلق بما توهمه الكفار من أعمال لهم يرجون ثوابها في الآخرة، والاخر ينطوي في الحقيقة على مثالين أحدهما للكلمة الطيبة والآخر للكلمة الخبيثة، فلنتدبر:

المثل الأول : كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف:
ضرب الله تعالى مثلاً لمن عبد مع الله غيرَه سبحانه وتعالى كيف يكون مآل أعمالهم، فيقول تعالى:”مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد” ؛ فهؤلاء يأتون بأعمال ظاهرها حَسن في دنيا أو هكذا يتوهمون فيرجون ويطلبون ثوابها يوم القيامة، وما شعر هؤلاء أن أعمالهم هذه ليست بشيء وأن ما يجدونه منها يوم القيامة مشابه لما يجده من طلب ذرات الرماد التي بعثرتها ريح عاصفة شديدة، فلا يجد هؤلاء شيئاً لأنهم بنوا أعمالهم على غير أساس صحيح، وهذا مثل قوله تعالى:“مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريحٍ فيها صِرٌّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته” ، قلت: ولكن الآية في سورة إبراهيم عامة في كل الأعمال والآية في آل عمران خاصة في الإنفاق وهو من باب التنويع البياني في القرآن الكريم حيث يذكر العام في موضع ويذكر بعض أفراده في موضع آخر ليتحقق التكامل البياني على مدى سور القرآن الكريم.

المثل الثاني: كشجرة طيبة أو خبيثة:
تنوعت أساليب القرآن الكريم في توصيل رسالة التوحيد للناس، وما ذلك إلا لأنها – أعني رسالة التوحيد – أعظم حقيقة في الكون وحري بها أن تكون محط عناية القرآن الكريم، والمتدبر في هذه الصورة القرآنية يدرك مدى ثقل هذه الكلمة واهتمام القرآن بها حتى جاء ترسيخها في عقول وقلوب الناس بهذه الصورة الرائعة والمثل البديع، قال تعالى:” ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار” ، فهذا مثل قد ضربه الله تعالى للكلمة الطيبة (شهادة أن لا إله إلا الله) فشبهها بالشجرة الطيبة ذات الجذور الراسخة الضاربة في الأرض ثباتاً والفروع المتشعبة عن أصلها الطيب فإذا بها يانعة الثمار صالحة النتاج، (فكذلك شجرة الإيمان أصلها ثابت في قلب المؤمن علماً واعتقاداً، وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والأخلاق المرضية والآداب الحسنة) ، قلت: وهذا في غاية الحسن من حيث ضرب المثل للمعاني المعقولة بالأشياء المحسوسة المستقرة في بداهة العقول والتي تتراءى للناس في معايشهم كل يوم، وإن منتهى الحسن في نتاج هذه الشجرة ذلك التثبيت عند سؤال الملكين في القبر ثم نوال رضا الله تعالى وثوابه يوم القيامة، كما قال تعالى بعد ضرب هذا المثل:”يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة” ، فلقد ثبت هذا المعنى من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فذلك قوله :” يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة”” ، ويأتي تكامل المشهد في عرض الصورة المناقضة، فبضدها تتميز الأشياء؛ ففي مقابل كلمة التوحيد وشجرة الإيمان – التي شبهتها بعض الأحاديث بالنخلة – تأتي الكلمة الخبيثة كلمة الكفر كالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل (لا أصل لها ولا ثبات، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شيء)

والحقيقة أن التفصيل في عناصر وحيثيات هذين المثالين يحتاج بحثاً مفرداً وإنما أردت التنويه بهذا العرض الموجز إلى ورود هذا الأسلوب في الخطاب الدعوي للسورة المباركة وتسخيره تسخيراً ناجحاً في رسم المعنى المنشود وتوضيحه أيما إيضاح، كيف لا وهو كلام الحق تبارك وتعالى. فحري بالداعية إذاً أن يتعلم كيفية تطبيق واستعمال هذه الأمثلة التي ضربها الله تعالى للناس “لعلهم يتذكرون”.

خامساً: أسلوب القصص:
لقد أخذ القصص القرآني بُعده وتبوأ مكانه كأسلوب خطابي دعوي في سور متعددة من القرآن الكريم بعضها قصير وبعضها طويل، وبعضها – أي القصص – تعرضت له سور في آيات قلائل وبعضها الآخر استغرقت سوراً بأسرها ، ولا شك أن لهذا العرض المتنوع أهدافه التي منها استدعاء السياق معنى من معاني القصة أو جانباً من جوانبها فيقتصر على موضع الشاهد منه مع إبراز ما يستدعيه السياق ، وهكذا كان الحال في سورة إبراهيم حيث وردت جوانب من قصة موسى عليه السلام مع قومه في سياق استعراض أسلوب الدعوة بالتذكير بالنعم ، حيث قال تعالى: :” وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذَبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم”، ثم جاءت إشارة خاطفة سريعة تذكر بمصائر المكذبين في قوله تعالى:” ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب” وقد جاءت الإشارة بأسلوب قصصي مقتضب جداً بعيد عن الاستطراد الذي قد يبعد بالمخاطب عن التركيز المطلوب في هذا الخطاب الدعوي أعني خطاب الدعوة إلى التوحيد، ثم جاءت الإشارة القصصية الأخيرة من صفحة الواقع حين ذكَّرت بما أورده مشركي قريش قومهم من موارد الهلاك في قوله تعالى:“ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.جهنم يصلونها وبئس القرار” وقد تقدم أنها في مشركي قريش ومن هلك منهم يوم بدر. فهذه الإشارات القصصية الثلاث يراد منها التنبيه على مآل من كذب الرسل، ثم جاءت الإشارة إلى قصة إبراهيم عليه السلام لتقرير معنى آخر نتعرض له في فقرة لاحقة إن شاء الله تتعلق بالتربية والتنشئة فنرجئ الكلام عليه إلى حينه إن شاء الله تعالى.

وحاصل ما تقدم أن يتسلح الداعية برصيد كافٍ من القصص الصحيح ذي المغزى المعين على تقرير مسائل الدعوة، لا سيما وأن أسلوب القصة أسلوب قريب من الناس يشد انتباههم ويؤثر فيهم أكثر مما تؤثر أساليب دعوية أخرى.
المبحث الثالث: ملامح منهج التوجيه والتربية في سورة إبراهيم

إن سورة إبراهيم على ما فيها من إيجاز سورة غنية بملامح الخطاب الدعوي الشامل الذي يرسخ كلمة التوحيد بشتى السبل المناسبة، ولقد تقدم معنا في المبحث السابق ملامح المنهج الدعوي وأهم سماته الأسلوبية في هذه السورة، وناسب أن ننتقل إلى تأمل توجيهات هذه السورة لمختلف فئات المكلفين والمخاطبين إضافة إلى التعرف على خصائص المنهج التربوي في هذه السورة المباركة وهذا ما نتناوله إن شاء الله في المطلبين التاليين.

المطلب الأول : منهج التوجيه في الخطاب الدعوي في سورة إبراهيم:

التوجيه (إيراد الكلام على وجه يندفع به كلام الخصم) ، والخصم في مقام الدعوة هم أتباع الباطل ومتبوعيهم، وأوجه خصومتهم معروفة يدور معظمها حول الجحود والإنكار أي جحود حق الله في إفراده بالتأله والتعبد، وعلى هذا فالمراد من التوجيه في الخطاب الدعوي إيراد الكلام والحجج والبينات على وجه تندفع به شبه القوم، فيتيقظ الغافلون من غفلتهم وتخبت لدعوة الحق قلوبٌ غلف، وتسمع آذانٌ صم، وتبصر أعين عمي بإذن الله تعالى وتوفيقه، والناظر في هذه السورة يدرك أن مدار هذا المنهج أمران اثنان هما؛ توجيه النظر في الآيات الكونية، وتوجيه النظر في الآيات الشرعية، وسأعرض لكل منهما فيما يلي إن شاء الله:

أولاً: توجيه التأمل في الآيات الكونية:
لقد جاء هذا التوجيه لدفع شبه القوم في إنكار وحدانية الله والترويج لباطل الشرك، فجاء مثلاً قوله تعالى:” ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد” ، حيث دعت إلى النظر والتفكر في هذا الخلق العظيم، وفعل (ألم تر) أي رأى القلبية كما قال القرطبي رحمه الله:”الرؤية هنا رؤية القلب، لأن المعنى ألم ينته علمك إليه؟” ، ثم تطرد الآية القياس بالتنبيه على أن من أوجد هذا الخلق العظيم من العدم قادر على أن يذهب بهذا الخلق الضعيف – أي الإنسان – المتمرد على عبادة الله سبحانه والانقياد له، فليحذر الذين يخالفون عن أمر الله إذاً أن يحل عليهم عقاب الاستبدال “وما ذلك على الله بعزيز” .
ثم تأمل في هذا المشهد الكوني الآخر حيث قال تعالى: :“الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخَّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخَّر لكم الأنهار. وسخَّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخَّر لكم الليل والنهار” ، فهو توجيه رائع إلى مشهد الخلق الكوني الناطق بكل جزئية فيه وبالتكامل والتناسق المعجز بين هذه الجزئيات تكاملاً يحكي بنفسه أن له رباً خالقاً مدبراً يستحق الحمد والتمجيد والانقياد له شرعاً تماماً كما أن هذا الكون البديع منقادٌ له كوناً وقدراً. فطوبى لمن تأمل هذا المشهد فانتفع وانتقل به من مقام الإقرار بالربوبية إلى مقام إفراد الألوهية فعرف أن له رباً يستحق وحده العبادة ففعل ففاز وسعد.

ثانياً : توجيه التأمل في الآيات الشرعية:
وهي السنن التي رتب الله تعالى على مقدماتها آثاراً شرعية من عقوبة أو ثواب، تمكين أو استخلاف، نجاة أو هلاك ونحو ذلك. ولما كان الخطاب الدعوي خطاباً شرعياً قوامه تبليغ أمر الله تعالى ونهيه ناسب أن توجه السورة الكريمة إلى ما يترتب على الأخذ بمقدمات الانقياد لشرع الله والتزام أمره ونهيه، كما ناسب أن يبين ما يترتب على هجر هذه المقدمات والأخذ بمقدمات التمرد على أمره ونهيه سبحانه وتعالى. ولقد وجهت السورة الكريمة إلى جملة من هذه المشاهد منها:
1- مشاهد الأمم الهالكة: وهذا الهلاك سنة شرعية توجه الآية النظر إليها ترهيباً للمخاطبين بالدعوة من الأخذ بمثل ما أخذت به تلك الأمم من مقدمات الهلاك كتكذيب الرسل وبث الشكوك والشبهات كما في قوله تعالى:” ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردُّوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب” ، بل جاءت الآية الأخرى بأشد من ذلك حينما وجهت القوم إلى النظر في الديار التي ورثوها من تلك الأمم الهالكة فهو أدعى للعظة والاعتبار قال تعالى:”وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال.وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لِتزول منه الجبال” ، فلم يغن مكر القوم عنهم شيئاً لأن سنة الله الشرعية قد قضت بأن يهلك هؤلاء ويكونوا أول ضحيةِ مكرهم فيكون تدبيرهم تدميرهم بإذن الله، وإلا فأين هم الآن وأنتم تسكنون في مساكنهم وتقطنون في ديارهم.
2- مشاهد خصومة أهل النار: فسنة الله الشرعية تقضي بأن ينال العبد الآبق عقابه في نار جهنم، وأن يتجرع – مع العذاب والألم – كأس الحسرة والندامة جراء اتباع دعاة جهنم، وإنما ذكرت هذا المشهد ضمن الآيات الشرعية لأنه مترتب على مخالفة الأمر الشرعي من جهة ولأنه لا طريق لمعرفته إلا طريق الشرع من جهة أخرى، تأمل هذا المشهد :“وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص” ، ولا شك أن العاقل من اتعظ بهذا المشهد لا من عاينه وكان من أهله.
3- خطبة إبليس: ولعل مشهد الحسرة والندامة والمخاصمة يزداد ألماً عندما يتقدم رئيس دعاة جهنم ليخطب أتباعه تأمل قوله تعالى:“وقال الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمُصرِخكم وما أنتم بمُصرخيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذابٌ أليم” ، فها هو رأس الكفر ورئيس دعاة جهنم يقول:(إني جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل) ، واعترف بكذبه فيما وعد به وأنه لا يملك لأتباعه ضراً ولا نفعاً ، فيا للحسرة والندامة، ويا شقاء من نسي نفسه وانساق وراء إبليس حتى صار من شهود هذه الخطبة، ويا لسعادة ونعيم من انتبه من غفوته وقدم لنفسه ففاز بالغياب عن هذه الخطبة التي يظهر من سياقها أنها (تكون من إبليس بعد دخولهم النار) والعياذ بالله.
4- مشاهد نعيم أهل الجنة:ففي مقابلة المشهدين السابقين لا بد من تمام المشهد بالتوجيه إلى النظر في مآل السعداء حيث قال تعالى:”وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام” ، فكما قضت سنة الله الشرعية أن يعاقب المتمرد على أمر ربه فقد قضت السنة الشرعية أن يكافأ المحسن على إحسانه بفضل وكرمٍ من الله تعالى، وكان من تمام التوجيه أن يستكمل عرض مشهد الجزاء ببيان عاقبة المحسن والمسيء لئلا يبقى لأحد على الله تعالى حجة.
5- مشهد يومٍ لا بيعٌ فيه ولا خلال : فمن جمع مالاً في الدنيا فليس ماله ذاك بالذي يغنيه يوم الحساب، ومن جاء معوِّلاً على نسبه وحسبه فليعد غير هذه العدة فإنها لا تغني عنه شيئاً، كما نبهت الآية الكريمة:” قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً من قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلال” ، فالآية تشير إلى أنه (لا ينفع أحداً بيع ولا فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده، ولا ينفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافراً) ،قلت: ومن جميل توجيه هذه الآية أنها قدمت بالإشارة إلى ما ينفع من صلاة وصدقة يُبتغى بها وجه الله اشتغالاً بتحصيله عما لا ينفع من مال وخِلَّة، فتأمل هذا فإنه لطيف جداً. وفي موضعٍ آخر من السورة جاء مشهد الظلمة في حالة مهينة ذليلة كان الله تعالى قد أعده لهم وحذرهم منه، قال تعالى:“ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.مُهطعين مُقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء” فيا له من مشهد ذلك الذي يسرع فيه هؤلاء إسراع الذليل المدفوع يرفع رأسه مذهولاً لا تطرف له عين لهول ما يرى قد طار فؤاده منه، وتأمل مزيد هوان في قوله تعالى:“وترى المجرمين يومئذٍ مُقرَّنين في الأصفاد.سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار” وما هذا العرض والتوجيه إلا للنذارة كما في الآية التالية:”وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخِّرنا إلى أجلٍ قريب نُجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال” ، فالسنة الشرعية تقضي أن من أقسم على هذا الباطل يجازيه الله تعالى بأن يجعله من أصحاب المشهد السابق، فكما زعموا ( أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذاك) ، قلت: وهذا مقتضى عدله سبحانه تعالى، والعدل سنة شرعية ماضية،قال تعالى :“ليجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب”

هذه جملة التوجيهات الواردة في هذه السورة المباركة، وأقر أني لم أفيها حقها من العرض والتفصيل ولكن المقام مقام إيجاز ومرور سريع استطعنا من خلاله – بفضل الله تعالى – أن نتعرف على ملامح هذا المنهج القرآني وطريقة القرآن في عرض المشاهد والتوجيه إلى حسن تدبرها وتحقق مآلاتها، والحق أن أثر هذا العرض فيمن كان محلاً قابلاً لهو أثرٌ عظيم نرجو أن نكون ممن وفقه الله تعالى للانتفاع به.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...