العفة عمود الأخلاق

إنّ الإيمان عفة عن المطامع ، عفة عن المحارم ، عفة عن المال ، وعفة عن النساء ، مرة التقيت برجل عمره ستة وتسعون عاماً في فترة العيد ، وهو والد صديقي ، قال لي : البارحة أجرينا تحاليل ، والحمد لله كل شيء طبيعي ، تحاليل كاملة ، قال لي : والله لم آكل درهماً حراماً في حياتي ، هذه عفة عن المطامع ، وقال : ولا أعرف الحرام ، عفة عن الشهوات .
وأهم شيء المال والنساء ، العفة عن المال عفة عن المطامع ، والعفة عن النساء عفة عن المحارم ، وأكبر إنسان يُحطم بسبب المال والنساء ، وأكبر إنسان يُفضح بسبب تهافته على المال والنساء ، صوَّروه مثلاً ، له مكانة كبيرة ففضح ، لكن المؤمن محصن من المال والنساء ، بينما غير المؤمن وقد سمعت – ولا أدري مبلغ صحة هذه الأخبار – في بعض البنوك في أمريكا مودِع حجمه المالي كبير، فهذا لو طلب مبلغه لهزَّ البنك ، استدرجوه إلى فندق أو إلى مكان موبوء ، وأغروه بامرأة ، فلما سقط في حمأة الزنا صوَّروه ، ثم أخذت هذه الصور ، وأُطلع عليها ، وأخبروه أنه لمجرد أن تطالب بالرصيد ننشر هذه الصور في المجلات ، فصار عبدًا ، فالإنسان حينما تزلّ به قدمه يصبح عبداً لمَن يملك للصور ، لكن المؤمن دائماً رافع الرأس ، فعفته عن المحارم ، وعفته عن المطامع تجعله عفيفاً ، وأكبر رجل يذل إن تلبس بسرقة أو إن تلبس بزنا ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حرم علينا أن نخلو بامرأة ولو كنتَ نبياً .
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ ، قَالَ : الْحَمْوُ الْمَوْتُ
(متفق عليه)
وعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ الْحَمْوُ يُقَالُ هُوَ أَخُو الزَّوْجِ كَأَنَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا *
(رواه الترمذي)
فما قال : كافر ، ما قال: فاسق ، ما قال : عاصٍ ، وما قال : مؤمن ، بل قال : رجل مؤمن ، عاص ، كافر ، مشرك ، فاسق ، تقي ، صديق ، ” …لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ…”
إنّ الإيمان عفة عن المحارم عفة عن المطامع ، درس اليوم العفة كما وردت في الصحاح أيْ : في الكتب الصحيحة .
عَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ السَّلُولِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ أَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَأَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَسَأَلَهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَاهُ وَذَهَبَ فَعِنْدَ ذَلِكَ حَرُمَتِ الْمَسْأَلَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ إِلا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَضْفًا يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ *
(رواه الترمذي)
لنا أخ جراح قال لي : جاءني رجل بسيط له ابن متعلق به أشد التعلق ، عمره سبع سنوات ، معه آفة قلبية ، والعملية تحتاج إلى مائتين وخمسين ألفًا ، فحصه ووعده بإجراء العملية ، بين الوعد وإجراء العملية اتصل إنسان مُحسن بالطبيب وقال له : العملية مغطاة ، إنسان يسكن في رأس الجبل عنده ورشة أحذية ، متواضعة وابنه معه آفة قلبية ، أهل الخير كثيرون ، ولما جاء والد الطفل الفقير ، قال له الطبيب : نبشرك أن العملية مغطاة من قبل جهة محسنة ، فقال له : لا أقبل ، فقال الطبـيب : أقول لك مغطاة ، وانتهى الأمر ، جهة اتصلت بالمستشفى وسألت عن العملية ، وكان الجواب : الفاتورة مغطاة كلها لوجه الله ، فقال له : أنا عندي بعض الآلات لصنع الأحذية أبيعها ، وأدفع ثمن العملية ، وهذا المبلغ دعه لمن لا يملك شيئاً يبيعه ، يقول لي هذا الطبــيب : أنا لم أر في حياتي إنساناً أكبر مروءةً منه ، فقير ومعلوماته متواضعة ، وقال : أنا عندي شيء أبيعه ، وأعود صانعًا وأبيع الآلات ، وهذا المبلغ دعه لإنسان عنده مشكلة في صحته، وليس له ما يبيعه ، قال لي الطبيب : أنْ يكون ثمة إنسان بهذه العفة شيء لا يصدق ، ولم يرض إلا وباع الآلات ، وعاد يعمل صانعًا ودفع المبلغ بالتمام والكمال .
الإيمان عفة عن المطامع ، عفة عن المحارم ، تذكرون أم سلمة رضي الله عنها أثناء الهجرة ما فعل بها أهل زوجها ، ما أعجبهم أن يهاجر أبو سلمة مع زوجته إلى المدينة ، فمنعوه من أن يأخذ زوجته ومعها ابنها سلمة ، وأهل زوجها ما استطاب لهم أن يدَعُوا ابنها معها ، فأخذوه من يده ، وشدوه فخلعوا يده ، ففي دقائق معدودة فُرِّق بين أم سلمة وبين زوجها وبين ابنها ، زوجها هاجر إلى المدينة ليلحق برسول الله ، وهي أُخذت إلى بيت أهلها ، وابنها سلمة أخذه أهل زوجها ، وبقيت فيما تروي الروايات عاماً بأكمله تذهب إلى التنعيم ، وتبكي وفي روايات سبعة أيام ، ، إلى أن رق بعض أهلها وسمحوا لها أن تلحق بزوجها ، وجاء من استعطف أهل زوجها أيـعقل أن تذهب إلى المدينة وابنها عندكم ، موضوع الحكم الشرعي له تعريف دقيق ، أما هي فمن شدة فرحها لأنه سُمح لها أن تلحق برسول الله وبزوجها ومعها ابنها ، خافت أن ينشأ ظرف آخر فيعودوا و يمنعونها ، لذلك رأساً أعدت ناقة وركبت مع ابنها وانطلقت من مكة ، رآها رجل مشرك في التنعيم ، قال : إلى أين ذاهبة قالت : إلى المدينة لألحق بزوجي، فقال : من معك ، قالت : ما معي أحد إلا الله ، وابني هذا ، الرواية من الصعب أنْ تصدق ، هذا المشرك طيلة اثني عشر يوماً وهو يقود جملها إلى المدينة ، بعد مرحلة من السير ينيخ الجمل ، ويبتعد بعيداً حتى لا يراها ، فإذا ذهبت لتستريح عاد وهيأ الجمل ، وقد استراح هو أيضا ، ثم هيأ الجمل لتركب ، ويعود فيقوده ، وليس له شيء في المدينة ، بعد أن أوصلها عاد إلى مكة ، فقد مضى أربعةٌ وعشرون يومًا بلياليها لم ينظر إليها ، قالت : ما رأيت إنساناً أشرف منه .
وسيدنا يوسف لأنه قال : معاذ الله ، كم إنسان مِن يوضِع في ظرف مشابه لسيدنا يوسف ، ويرى هذا مغنماً ، ويسقط في الوحل ، والرسول اللهم صلِّ عليه بلغه أن شخصًا اعتدى على زوجة جار مسافر ، ولديهم كلب عقور قتله ، فقال عليه الصلاة والسلام : خان صاحبه والكلب قتله ، والكلب خير منه .
لقد درسنا اليوم العفة عن المال ، والعفة عن النساء ، وإذا كنت عفيفاً عن المال والنساء ، كنت في حصن حصين ولا يستطيع أحد على وجه الأرض أن ينالك بأذى أو أن يتهمك ولا أن يهددك .
مرة سمعت امرأة طلبت دينًا من شخص وهي جاهلة ، كيف يأخذ منها سندًا ضمانا للمال ، فقال لها أتصور معك في الأستديو ، فتصور معها ومعه الصورة ، إن امتنعت عن الدفع فيهددها بالصورة ، شيء مخيف ، الإنسان دائماً يجب أن يعلم أنه بعفته يكون قويًا ، بعفته عن المال يكون رافعًا رأسه ، بعفته عن النساء يكون محصنًا .
وبالإيمان يكون عفيفًا عن المحارم عفيف عن المطامع ، قال عليه الصلاة والسلام :
” …إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ …“
(رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو)
اثنان ؛ رجل غني ورجل قوي ، هذان الإنسانان لا تحل لهم الصدقة ، إلا في حالات نادرة جداً ، رجل غني افتقر ، لكنه قوي ، إذا كان غنيًّا وله شأن اجتماعي كبير وافتقر فجأةً فليس معقولاً أن نقول له : اعمل عتالاً ، بل نعطيه من مال الزكاة ، ونحن نحفظ له ماء وجهه ، هذا هو الحكم الشرعي .
أما بشكل عام فالقوي لا يجوز أن يعطى من الزكاة ، والغني لا يعطى من الزكاة ، وهناك حالة ثانية ، قوي ولا يوجد عمل ، بل بطالة ، والآن العالم كله يعاني من أكبر مشكلة ألا وهي البطالة ، في فرنسا ستة عشر مليونًا أو ستة عشر بالمائة لست متأكداً ، يعانون من البطالة ، نسبة مذهلة ، والبطالة مخيفة ، لذلك تأمين الأعمال من أعظم الأعمال الصالحة .
مرة أخ كريم عنده معمل قال لي : لا أربح ، والقصة قديمة ، المواد الأولية صعب تأمينها، وتأمينها بشكل صحيح غير ممكن ، وبشكل غير نظامي هناك مسؤولية كبيرة ، وعنده ثمانون عاملاً ، والعمال لهم تأمينات ، إن أغلق المعمل يدفع مبلغًا ضخمًا تأمينات وتعويضَ عمل ، وإن أحضر بضاعة غير نظامي فالخطر كبير من الجمارك ، والبضاعة النظامية غير موجودة ، قال لي : فوقعت في حيرة كبيرة ، ماذا أعمل ، بعد حين توفرت المواد أولية ، وشعر أنه يميل إلى ترك العمل ، قلت له : ثماني عشرة أسرة توفر لها قوتها ، ولو كنتَ لا تربح أبدًا ، لكن هذا المعمل أنتج ما يغطي مصاريف المعمل ، ورواتب العمال ، فأنت إذًا قمت بعمل عظيم ، أنت صنت ثمانين أسرة من الضياع ، لذلك سيدنا عمر قال لأحد الولاة : ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ، قال : أقطع يده ، قال : وإذا جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك ، لماذا العمل محبب والربا محرم ؟ أنت افتح محلاً ، واعمل مؤسسة ، أو شركة تشغل خمس مائة شخص وأنت لا تدري ، يعمل عندك خمس مائة بين موظفين ومهندسين ومحاسبين ومندوب مبيعات ، فأنت تشغل خمس مائة شخص ، وإليكم بيان ذلك ، فالبضاعة طبعا مستوردة ، و تحتاج إلى مخلص جمركي ، والمخلص لديه موظفون وآلات ، وهؤلاء لهم رواتب شهرية ، والمخلص يحتاج إلى مطبوعات ، يكلف بها المطبعة ، كما يحتاج إلى وسيلة نقل ، وهذه تحتاج إلى تصليح بين الحين والآخر ، كذلك لا بد للمطبعة من حبر وورق و عمال ، وهذه المؤسسة تحتاج إلى موظف يجيد اللغة الأجنبية للمراسلات وشحن البضاعة ، ولا بد من مكاتب شحن ، وهكذا ، فالمؤسسة إذًا أو الشركة التي تمّ تأسيسها توظف لديها ثلاثمائة عامل وموظف أو أربعمائة ، معنى ذلك أن الله أراد لنا أن نكسب المال عن طريق العمل ، وبذلك تتوزع الكتلة النقدية بين الناس ، وكمثل بسيط ، لو أن شابا عمل في هذه المؤسسة أو غيرها وكان له دخل يقدَّر بخمسة أو ستة آلاف ليرة شهرية ، فإنه يستطيع أن يكون خارج دمشق فيبيت يستأجره بألفين تقريبا ، ويتزوج ويكوِّن أسرة ، و يكرمه الله بذرية تملأ عليه البيت سعادة ، وقد يعمل عملاً آخر إضافيا بعد الظهر ، أو في المساء فيصير صحيح النفس ، لأن دخله يغنيه ، سويًّا في صحته ، منتجاً في وطنه ، راعيًا لأسرته ، كريما في مجتمعه .
وكل إنسان يكسب المال عن طريق الأعمال يسهم في تخفيف البطالة وهو لا يدري ، والبطالة مرض خطير ، قال أهل الخبرة : ما ذهب الفقر إلى بلد إلا قالت له الجريمة خذني معك.
كاد الفقر أن يكون كفراً ، ” …إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ إِلا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَضْفًا يَأْكُلُهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ * .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...