عـلاج الغيبـة

الغيبة لها علاجان:
العلاج الأول: هو أن يعلم الإنسان أنه إذا وقع في الغيبة فهو متعرض لسخط الله تعالى ومقته كما دلت عليه الأحاديث السابقة وغيرها من الأحاديث الصحيحة كقوله عليه الصلاة والسلام: ”إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلُغ ما بلغت فيكتُبُ الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلمُ بالكلمة من سخط الله ما يظنُّ أن تبلُغ ما بلغت فيكتُب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه“(1).
ويعلم أن حسناته يؤخذ منها يوم القيامة لمن اغتابه بدلاً عما استباح من عرضه فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه فربما ترجح كفة سيئاته فيدخل النار وقد يحصل ذلك للإنسان بإذهاب حسنة واحدة من حسناته أو بوضع سيئة واحدة من سيئات خصمه وعلى تقدير أن لا يحصل هذا الرجحان فكفى بنقص الحسنات عقاباً مع المخاصمة والمطالبة، والسؤال، والجواب، والحساب. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا آمن الإنسان المسلم بالأخبار الواردة في الغيبة وتدبرها حق التدبر لم ينطق لسانه بغيبة، وتدبر نفسه، وعيوبها، وتقصيرها، وأن يتدبر في إصلاح نفسه عن عيوب الناس والكلام فيهم، وعلى من به عيب أن يستحيي من الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية حين يرى نفسه على العيوب ويذكر عيوب غيره بل ينبغي له أن يلتمس لأخيه عذراً ومخرجاً ويعلم أن عجزه عن تطهير نفسه من ذلك العيب كعجزه هو عن تطهير نفسه من عيوبها فإن كان الذم له بأمر خَلْقي كان ذماً للخالق؛ فإن ذم الصنعة يستلزم ذم صانعها فليتق الله عز وجل ويصلح نفسه عن عيوبها وكفى بذلك شُغلاً!
العلاج الثاني: عليه أن ينظر في السبب الباعث له على الغيبة فإن علاج العلة إنما يتم بقطع سببها المستمدة هي منه.
فإذا كان سبب الغيبة الغضب فعليه أن يقول: إن أمضيت غضبي عليه فأنا أخشى الله أن يمضي غضبه عليَّ بسبب الغيبة فإن الله قد نهاني عنها فعصيته واستخففت بنهيه.
وإذا كان سبب الغيبة موافقة للآخرين وطلب رضاهم فعليك أن تعلم أن الله يغضب عليك إذا طلبت سخطه برضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن تسخط مولاك من أجل إرضاء المخلوقين الذين لا ينفعون ولا يضرون وإن كان الغضب لله فلا تذكر المغضوب عليه بسوء لغير ضرورة بل ينبغي أن تغضب على من اغتابه إلا إذا كان من باب تحذير المسلمين عن الشر. وهذا سيأتي فيما يجوز من الغيبة.
وإذا كان سبب الغيبة: هو تنزيه النفس ونسبة الخيانة إلى غيرك. فاعلم أن التعرض لمقت الله أشد من التعرض لمقت الخلق وأنت بالغيبة قد تعرضت لسخط الله يقيناً ولا تدري هل تسلم من سخط الناس أو لا تسلم والذي يرضي الناس بسخط الله يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس…!
وإذا كان: سبب الغيبة هو الرغبة في أن تزكي نفسك بزيادة الفضل وذلك بقدحك في غيرك حتى تشعر الناس أنك تتصف بخلاف ما يتصف به من اغتبته فاعلم أنك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله تعالى إن كان لك فضل وأنت من اعتقاد الناس فضلك لست على يقين وعلى تقدير أنهم يفضلونك فأنت سينقص فضلك أو يزول بالكلية إذا عرفوك بغيبة الناس والوقوع في أعراضهم فأنت بعت ما عند الله يقيناً بما عند الناس وهماً ولو اعتقدوا فضلك لم يغنوا عنك من الله شيئاً لأن قلوبهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فعليك أن تتدبر دقائق الأمور ولا تغتر بظواهرها.
وإذا كان الباعث على الغيبة: هو الحسد فأنت قد جمعت بين عذابين؛ لأنك حسدته على نعمة الدنيا فكنت معذباً بالحسد وذلك لأن الحاسد يجد الهم والغم وضيق الصدر ثم لا يقنع بذلك حتى يضاف إليه عذاباً آخر يوم القيامة فالحاسد قد جمع خسران الدنيا والآخرة وهو في الحقيقة صديق للمحسود عدو لنفسه؛ لأنه يضيف حسناته إلى حسنات المحسود ويتحمل من سيئاته إن لم يكن للحاسد حسنات مع أن الحسد، والغيبة لا تضر المحسود بل ربما كان ذلك سبباً لانتشار فضله.
وإذا كان البعث على الغيبة هو الاستهزاء والسخرية فينبغي للحاسد أن يعلم أنه متى استهزأ بغيره عند الناس فإن ذلك يكون مخزياً لنفسه عند الله ثم عند خلقه وهذه هي الخسارة بعينها.
وإذا كان المغتاب يقصد بغيبته الرحمة لغيره فهذا مقصود فاسد؛ لأنه أراد الرحمة فوقع في الغيبة المحرمة فلو كان صادقاً في رحمته لنصح له ووجّهه وأرشده..
أما إذا كان السبب الباعث على الغيبة هو التعجب والضحك، فإنه ينبغي للمغتاب أن يتعجب من نفسه كيف أهلك نفسه بنفس غيره وكيف نقص دينه بكمال دين غيره أو بدنياه. فهو مع ذلك لا يأمن عقوبة الدنيا ويخشى على المغتاب أن يهتك الله ستره ويفضحه في الدنيا قبل الآخرة كما هتك بالتعجب ستر أخيه.
فإذا نظر الإنسان العاقل في أسباب الغيبة وعلاجها واستعمل هذا الدواء الذي ذكر هنا سلم إن شاء الله من ضرر الغيبة وكان ممن اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره، وصان لسانه عن النطق إلا بالخير فبذلك يفوز بخيري الدنيا والآخرة. وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يجعلنا جميعاً ممن يقول بالحق ويكون أسبق الناس إلى العمل به كما يحب ربنا ويرضى

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...