حَرِيصٌ عَلَيْكُم

الحمد لله والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم .
أما بعد: فحديثنا حول حديث عظيم من مشكاة النبوة ودوحتها, يعكس جانباً عظيما من جوانب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أنه كان حريصاً على أمته شفوقاً بها, وكيف أنه كان يحذر أمته من خطورة اقتراف المعاصي وارتكابها, ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتبع النصح لأمته, شفقةً بهم وصد ربنا حين قال لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(التوبة:128) والحديث أخرجه الإمامان البخاري ومسلم في صحيهما, عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
“إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجلٍ استوقد ناراً, فلما أضاءت ما حولها فجعل هذه الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها, فجعل الرجل يزعهن ويغلبنه, ويقتحمن فيها, فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تقتحمون فيها” .
الحديث رواه البخاري في كتاب الرقاق: باب, الانتهاء عن المعاصي, ورواه الإمام مسلم, في كتاب الفضائل: باب, شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومبالغته في تقديره مما يقع منهم.
وبداية نشتمل مما جمع عليه هذا الحديث من مفردات لغوية حتى نبينها ونجليها لكل مسلم, يريد وجه الله, ويريد أن يتعرف هذا الجانب الحديث العظيم الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم .
فمثل: المثل يراد به الصفة العجيبة, عجيبة الشأن ويضرب المثل على سبيل التشبيه, لإرادة التقريب والتفهيم.
ومعني استوقد ناراً: أي أضاء ناراً عظيمة.
وأما قوله يزعهن : من وزع يزع من الأسف, يقال وزعته عن الأمر, أي كففته عنه.
وفي معني قوله صلى الله عليه وسلم يغلبنه: من الغَلب, الغُلب: بمعني القوة والقهر, يقال غلبه أي قهره وقوى عليه.
أما قوله فيقتحمن: أي يقدمن ويدخلن, وأصله من القحم وهو الإقدام وهو في الأمور الشاقة من غير تثبت, ويدل هذا التعبير على ورود الشئ بأدنى جفاء وإقدام, يقال قحم في الأمور قحوماً أي رمي بنفسه, فيها من غير ضربة أو غنيمة.
وأما قول صلى الله عليه وسلم بحجزكم: بضم الحاء وفتح الحاء بعدها زاي, الحجز جمع حجزة, بتسكين الجيم, وهي معقد الإيذار, وهي في لاسراويل موضع التكة منها,وهذا على سبيل المثال وضرب المثل إذا الحجز والحجز المنع بين الشيئين.
في هذا الحديث العظيم حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من خطورة مواقعة المعاصي, والاجتراء على حرمات الله تعالى, وأن رأس هذه المعاصي حب الدنيا واستيفاء ملذاتها, والانغماس في شهواتها, وإن رسالة الإنسان في الأرض ليست للمشي وراء الشهوات والملذات, فما استخلف الإنسان في الأرض ليشبع رغباته أو شهواته, يقول الله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(الذاريات:56) ولذا كانت رسالة الإسلام هي الارتقاء بهذا الإنسان لا سيما في جانب الأخلاق والمعاملات وضميره, إذ المشي وراء رغبات النفس صفة حيوانية, تقض على حية الإنسان, وتقضي عليها على وجه الأرض.
وفي الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الحلال بين وإن الحرام بين, وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس, كالراعي يرعى حول الحمي ألا وإن لكل ملك حمي ألا وإن حمي الله محارمه, ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحة صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب” فلايما أن لكل حمي, وأن حمي ملوك أهل الدنيا مصونة محفوظة, ولا يجوز مراجعتها أو الاقتراب منها, فأولي بالعبد أن يحفظ حدود الله, وألا يتعداها فقد حذرنا الله سبحانه بقوله:  وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ(الطلاق:1) ولأن شهوات الدنيا ملذاتها مرغبة إلى النفس, والنفس بطبيعتها تطمح إلى موقعتها والاستهانة بها, وفقد أهان الإسلام أن يترفع عن هذه التوافه, التي تقعد به عن معاني الأمور وفي الحديث “حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات” وماذا يفعل المرء بشهوة عابرة, ما أن تأتي حتى تنقضي, وماذا يبقي للإنسان من للذة ورغد بغضاً وبعداً ووعيداً من الله  ولذا كان تفصيل النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الجزئية من حياة الإنسان, الذي يتصور أن حياته ملكٌ له وأنه يفعل في حياتهما يشاء, لا يجوز المسلم بحال أن يواقع المعاصي بدعوى أنها تحقق لذته وترضي غريزته, كيف يجرؤ الإنسان على مواقعة هذه المحارم ومقارفتها, هل أمن الإنسان العقوبة, إذا كان البشر لا ينتظرون عقوبةً فإن المسلم يترفع عن هذه المعاصي لأن خشيته لله وخوفه من الله يحيان في قلبه, يملئ عليه حياته ويملئ عليه دنياه, ولذا كان ضرب المثل بما يفعله العصاة, وراء انجرا رهم وراء شهواتهم وملذاتهم, وهم في ظنهم هذا انهم يحققون إرضاءً لله, ويحققون للنفس راحة ولذةً وخيراً, هذا, هذا يظن أن تصور النبي صلى الله عليه وسلم بل ويتهاون أما تصوره لحالهم بأنهم كالفراش في تفاهته وحقارته, وكيف أنهم يتقاذفوا في قوتهم ويقتحم بقوة على النار, وفيها هلاكه, أفلا يعقل هؤلاء العصاة وتستيقظ فطرتهم, في البعد عن المعاصي ومراجعتهم, هذه المعاصي ستوردهم الموارد كالفراش الذي يتقحم في النار, ولقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب أصيل في الدعوة إلى الله, وهو أسلوب الإنذار والترغيب والتخويف, ليوقظ الإيمان المخدر في قلوب هؤلاء العصاة, إن كان فيها خير,وقد يقول القائل أن الدعوة تقوم على البشر والبشارة, أكثر من الإنذار والتخويف, لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم “يسروا ولا تعسروا, وشروا ولا تنفروا” إننا نقول أن الدعوة تستقيم بالأمرين, إلا أن حال العصاة من المسلمين, يتطلب تحذيراً دائما وتخويفاً لا يقنطه من رحمة الله, لم يأخذ بأيدهم إلى سبيل النجاة.
يقول الإمام ابن حجر العسقلانى رحمه الله: “وفي الحديث إشارة إلى أن الإنسان أحوج من الإنذار منه إلى التبشير, لأن فطرته مائلة إلى الحظ العاجل دون الآجل, كحال هذا الفراش الذي يظن أنه يقترب نحو النور والدفئ ويحدث له الخير, ولكنه لا يتصور أن اقترابه من هذا النور سبب لنهايته وهلاكه, هكذا حال العصاة.
وضم هذا الحديث العظيم على جانب من شخصيته صلى الله عليه وسلم يعكس مدي شفقته على أمته, مصداقاً لقول الله عز وجللَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ لقد هذه الشفقة تصل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى حد البكاء, فلقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم تلا قول ربه  على لسان عبده ونبيه عيسي بن مريم,إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(المائدة:118) فقال اللهم أمتي أمتى وبكي, فأوحي الله تعالى إلى جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك, أفلا يعقل هؤلاء الذين يجترئون على محارم الله, ويواقعون المعاصي, إن المسلم قوىٌ بإيمانه وثقته في ربه, ويبعد عن هذه المعاصي وإن تلونت له وتزينت ودعته بكل زخارف الدنيا, لقد زينة هذه الشهوات, ولكن ديننا العظيم أخبرنا بأن ما عند الله خير للأبرار, ورغبنا في الباقية على الفانية ورغبنا في المتبع الباقية, فما عند الله خير للأبرار , يقول ربنا سبحانه زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ* قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(آل عمران:15,14) فالله عز وجل رغبنا فيما عند من جزاء المتقين الذين يترفعون عن مقارفة الذنوب والمعاصي, ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشفق على هذه الأمة, وصور حال العصاة منها بهذا الفراش الذي يقتحم النار اقتحاماً, وما اقتحامه هذا عن علم ولكنه جهالة على جهل, فهذا الفراش الذي يظن أنه يقترب من النار يخلق له النور والدفئ ويحدث له الخير, لاتي هيهات هيهات, فما أهون هذا الفراش وأحقره على النار, ما لأن يقارب هذه النيران حتى يهلك فيها, بينما هذا الراعي الشفوق صاحب النار, الذي أوقدها وأضاءت ما حولها, إذا به يصرف هذه الفراشات وكل من يجتمع حول النار, من دواب وهوام يدفعها بكل قوة, وما هذا الدفع إلا لشفقته عليها من الهلاك, قد كان ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وما بينه عن ربه من قرآن وسنة ما أنزله الله تعالى عليه من الوحي, إنما يمثل لهذه الأمة أعظم نصحٍ, نصحاً يفوق نصح هذا الراعي صاحب النار لفراشاته بأن ابتعدن عن النار وعن مواقعتها, أقول إن الكتاب والسنة فيها البيان الشافي لكل مسلم, يرجوا الله واليوم الآخر وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بياناً شافياً, وعجباً فإن المرء يعجب من تهمة مجهورة تجترئ على محارم الله, وتدعو الشباب إلى معصية الله جهاراً نهاراً, وتوظف ألواناً من الفساد, ليكون هذا منهاج حياة البشر, ويظنون أنهم بذلك يحققون لهم المتعة والنشوة والفرح, أقول لكل هؤلاء اعقلوا فإن كل هذه المتع الزائفة والملاذ والشهوات الباطلة, وما حالكم معها إلا كحال هذه الفراشات التي تتساقط في النار.
ونعيذكم وعوذ بالله جميعاً من النار.
وصلي الله وسلم على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...