“وفديناه بذبح عظيم”

قال تعالى: “قال يا بني إني أرى في المنام أن أذبحك” سورة الصافات 102.
قد يحب الإنسان شيئًا عظيمًا، ذا قيمةٍ، وقد يكون دونيًّا وليس له أي قيمةٍ لكنه يتعلق به، ولولا اختلاف أذواق الناس في تفضيل وحب الأشياء لبارت السلع في الأسواق، وإنَّ من الحب ما قتل.
فعندما تحب شيئًا في الدنيا فإنك تبذل قصارى جهدك من أجله ولطاعته ورضاه والتعلق به, فإن كان إبنٌ تقول له: سآتي لك بكل ما تحب وترغب، وإن كانت وظيفة تحافظ عليها، وتتمسك بها بيديك وأسنانك، ونجد البعض يتنازل عن بعض بل كل كرامته من أجل الكرسي، بل يعتقل ويجرح ويقتل ويسفك الدماء للوصول إليه بأي ثمن، وآخر في سبيل أن يكون من عداد الرجال في ظنه فيسرق ويشري كل محرم للحصول على المال لحبه له ليصبح من المشار إليهم بالبنان، ومنهم من له محبوبة يحبها حبًا جمًا وإن قالت له: أريد لبن العصفور! أتى به دون أن يتدجَّر أو يتأخر.
وتلك الأشياء جميعًا دنيوية فانية، والتمتع بها مقدار حياتك فقط، لأن الحياة هي مقدار بقاء الإنسان على الدنيا، قال تعالى: “قل إن متاع الدنيا قليل” سورة النساء 77، “كل شيء هالك إلا وجهه” سورة القصص 88، “كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” سورة الرحمن 26-27، “بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى” الأعلى16-17، “يا أيها الذي آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل” سورة التوبة 38، وقال تعالى: “وما الحياة الدنيا إلّا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون” سورة الأنعام 32.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء] أخرجه الترمذي.
وعن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قال: (من كانت الدنيا همه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه).
وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: (ليس من أحد إلَّا وهو ضيف على الدنيا وما له عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردودة).
فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يودع ثمرة فؤاده، ومهجته، وَحَبَّةَ قلبه إسماعيل (بعد أن رزقه الله به وقد جاوز الستين من العمر)، بطاعة مطلقة لله، ويقين ثابت، وتوكل على الله عظيم، ولكن عند البشر فقد يطغى حب على حب.
وقصة سيدنا إبراهيم مع إبنه إسماعيل عليهما السلام، فإن الله امتدح إبراهيم بدايةً:“سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين” سورة الصافات 109-111.
وأعطى الله سبحانه الحجة القوية إبراهيم، وجعله نبيًا ورسولًا، فكان قوي الإيمان عارفًا بالله يعبده وحده، ويؤمن ويعتقد أنه خالق كل شيء، وهو الذي يستحق العبادة وحده من غير شك ولا ريب، قال تعالى: “إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، أئفكًا آلهةً دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين” سورة الصافات 85-87.
وطلب من الله تعالى متأدبًا في غير عجلة أن يرزقه الذرية الصالحة: “رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم” سورة الصافات 101 ، فرزقه الله اسماعيل وإسحاق.
وفي حكمة لابن عطاء الله السكندري قال: (لا تطالب ربك بتأخر مطلبك، ولكن طالب نفسك بتأخر أدبك).
ولما كبر إسماعيل وصار يرافق أباه ويمشي معه، “فلما بلغ معه السعي” سورة الصافات 102، وذات ليلة رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ولده إسماعيل “قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك” سورة الصافات 102.
فلقد ابتلى الله سيدنا إبراهيم أن يذبح إبنه اسماعيل، “إن هذا لهو البلاء المبين”سورة الصافات 106، فامتحنه الله يذبح إسماعيل ومما يزيد هذا الامتحان صعوبة أنه ما جاء بشكل صريح بل جاء بشكل رؤيا قال تعالى: “قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك” سورة الصافات 102، قال: “با أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين” سورة الصافات 102.
ورغم ابتلاء إبراهيم ألهمه الله بكلمات فوفَّاها: “وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا” سورة البقرة 124.
ولأنه إمامًا للمؤمنين صبر على ابتلائه، فالمؤمن الصادق واثق من حكمة الله يتلقى قضاء الله وقدره بالرضا واليقين “فلما أسلما” سورة الصافات 103.
واستسلم الأب النبي الكريم أبو الأنبياء استسلم لهذا الأمر، والابن الشاب البار بوالده، المؤمن بربه، وبحكمة ربه قال: “يا أبت افعل ما تؤمر” سورة الصافات 102، قال: “فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إنّ هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم” سورة الصافات 103-107.
وحينما يأتي من قضاء الله وقدره بما هو مؤلم، وتقبله فسريعاً ما ينزاح عنك، أمّا إذا لم تقبله، تأخر بقاءه منك، فالمؤمن الحق واثق من حكمة الله وعدله، لذلك يتلقى قضاء الله وقدره بالرضا واليقين، ومن هنا قال سيدنا علي: (الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين).
وعن صهيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى بالله عليه وسلم: [عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له] أخرجه مسلم.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا أصابته مصيبة، قال: (الحمد لله ثلاثًا، الحمد لله إذ لم تكن في ديني).
وبعد أن أخذه للذبح “فلما أسلما وتله للجبين” سورة الصافات 103، وقال: يا أبت اشدد رباطي واكفف عني ثوبك حتى لا يتلطخ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأسرع مرَّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ، فإذا أتيت أمي فأقرأ عليها السلام منِّي، فأقبل عليه إبراهيم يقبِّله ويبكي، ويقول نِعْمَ العون أنت يا بني على أمر الله، فَأَمَرَّ السكين على حلقه فلم يحك شيئًا وقيل انقلبت، فقال له إسماعيل مالك؟ قال: انقلبت، فقال له اطعن بها طعنًا، فلما طعن بها ثنيت ولم تقطع شيئًا، وذلك لأن الله هو خالق كل شيء، وهو الذي يخلق القطع بالسكين متى شاء “خالق كل شيء” سورة الزمر 62.
ونودِيَ أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، “وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين” سورة الصافات 105، هذا فداء إبنك فنظر إبراهيم فإذا جبريل معه كبش من الجنة، قال تعالى: “وفديناه بذبح عظيم” سورة الصافات 107، كبش أقرن عظيم الحجم والبركة.
وكان الابتلاء لإبراهيم أن يذبح إبنه إسماعيل، فَسَلِمَ الابن، وآتاه الله إسحاق ويعقوب نافلة زيادة على الفضل، فحفظوا ذكر أبيهم فرزق الله إبراهيم وأتاه إبنًا نبيًا من الصالحين فاستمرت الدعوة، قال تعالى: “وبشرناه بإسحاق نبيًا من الصالحين” سورة الصافات 112.
وقال ابن القيم: (كفى بك عزًّا أنك له عبد، وكفى بك فخرًا أنه لك رب).
فاذبح إسماعيلك، أو تخلص من عبوديتك له، وكن عبدًا بحق لله واجعل حبك لله وحده أولاً، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعد ذلك أيَّما تحب، وكل من عاونك لطاعة الله وحبه أو كان سببًا في عونك على ذلك. فإنه نِعْمَ العون على أمر الله.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...