بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ومن والاه، أما بعد..
تمر أمتنا الإسلامية اليوم بمخاض عنيف ينبئ عن ولادة كبيرة، تولد فيها الأمة من جديد قويةً فتيةً، بإذن الله تعالى، فها هي تقاوم ببسالة قوى الشر في أرجاء الأرض كلها، تقاوم الاحتلال على ثرى فلسطين، وساحات المسجد الأقصى، وتقاوم الظلم والاستبداد والفساد والطغيان في بلاد الربيع العربي، وتدفع أثمانًا غاليةً للحفاظ على حريتها وكرامتها في الربيع التركي؛ الذي كاد أن يلحق بالربيع العربي، والأمة بذلك تحقق قانون التدافع الذي يحق الله به الحق ويبطل الباطل، وينصر المظلوم ويقصم الظالم، ويهلك أعداءه ويؤهل أولياءه للاستخلاف.. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: من الآية 251).
وإذا كانت الجولة في هذه الموجة للطغاة والجبارين، كما يبدو في ظاهر الأمر، فإن النصر حليف الأمم والشعوب في نهاية المطاف، والنصر الحقيقي في هذه المرحلة يتمثل في صمود الأمة في مواجهة الطغيان، ورفضها للظلم، وتمسكها بهويّتها الإسلامية، وحماية هذه الهويّة من الذوبان في أتون الغزو الثقافي، كما يتمثل النصر أيضًا في زيادة استعداد الأمة للتضحية لنيل الحرية، وجهادها الدائم للتخلص من القيود والأغلال، ورفضها التسليم بإرادة الطغاة وسادتهم الغربيين أو الشرقيين، وزيادة وعيها بأهمية المشروع الإسلامي في مواجهة مشاريع الهيمنة الغربية، وأهميته في التحرر من الاستعمار والطغيان معًا، ووعيها بأهمية هذا المشروع في إعادة بناء الأمة وتحقيق وحدتها من جديد، على قواعد متينة من الحرية والعدالة والرحمة والتكافل والأخوَّة الإنسانية.. ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
ورغم الجراح والآلام فإن هذه المحن لا تبرر الاستجابة لما يريده الأعداء؛ من تقطيع أوصال الأمة، وشغل كل قبيل بهمومه ومشكلاته الخاصة، بل إن هذه الظروف أدعى لتحقيق الأخوة الإسلامية ويعطف بعضنا على بعض، كما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِين فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِم مَثَل الْجَسَدِ إِذَااشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ تَدَاعَى لَهُا سَائِرُ الْجَسَد بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” (رواه البخاري ومسلم).
بل ينبغي ألا تشغلنا همومنا المحلية عن هموم الأمة، ولا يشغلنا تضميد جراحنا الشخصية عن تضميد جراح إخواننا، وتصبح قضايانا كلها حيّةً في وجدان أمتنا؛ فنعيش مع المرابطين على بوابات المسجد الأقصى كما نعيش مع مقاومي حكم العسكر في مصر، ونرفض القتل خارج القانون في مصر كما نرفض قتل أطفال سوريا بالكيماوي وغيره، ونفضح قتل السجناء بالإهمال الطبي في سجون الانقلابيين في مصر كما نفضح صمت المجتمع الدولي على موت أطفال اليمن بالكوليرا، ونشعر بمعاناة سجناء الحرية ونحمل قضيتهم، سواء الأسرى الفلسطينيون في سجون الصهاينة أو الأحرار والحرائر في السجون المصرية أو في سجون الإمارات باليمن أو في سجون الطائفية في سوريا والعراق، أو في أي مكان في العالم.
إن استخفاف الصهاينة بغضبة الأمة لا يختلف كثيرًا عن استخفاف الطغاة بغضبة الشعوب؛ فحيوية الأمة في وقوفها ضد الاستبداد الداخلي هو في ذاته ما يجعلها حية في مواجهة التهديد الخارجي، ورفض الأمة للاستبداد السياسي هو المقدمة الطبيعية لرفضها للتبعية والتدخل الخارجي، فلعل صمود المرابطين في القدس أحيا الأمل في قدرة الأمة على دحر الاحتلال وتحرير الأقصى، فإن وحدة كلمة الصامدين المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس مكّنتهم من حماية الأقصى والحد من الاستكبار الصهيوني والغرور الأمريكي والتخاذل العربي والتغافل الأممي وعطلت إبرام صفقة الذل ولو إلى حين.
ولعل صمود الرئيس المنتخب والمرابطين معه في مصر حفظ راية الثورة مرفوعةً ولو من خلف الأسوار يحيي الأمل في استمرار النضال الثوري لتحقيق أهداف ثورة يناير؛ فالرئيس الذي جاءت به الثورة في أول انتخابات حقيقية والذي لم يكتف بأداء اليمين أمام المحكمة الدستورية لغياب مجلس الشعب المنتخب، بل سارع إلى أن يعاهد شعبه في ميدان التحرير أمام الله تعالى؛ يؤكد عهده أمام من يحاكمونه بعدم تخليه عن عهده مع شعبه، وهو بذلك ينزع المشروعية عن أي انتخابات مزورة تمت أو سوف تتم.
ولعل صمود الإخوان واستمرار نضالهم الثوري السلمي حفظ مسار الثورة من الانزلاق للعنف أو الاستسلام لليأس؛ فها هو مرشدهم أمام المحكمة لا يفتأ يذكر الأمة بشرعية رئيسها المنتخب ومشروعية الثورة المصرية، فثورتنا سلمية وستبقى سلمية “سلميتنا أقوى من الرصاص”, وها هو مرشدنا السابق المحتسب يضرب أروع مثل في الوفاء لدينه ودعوته وإخوانه، يوصي أهله وإخوانه والأمة جميعًا بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب “يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون”.
بعد أيام قلائل تحلُّ بنا ذكرى رابعة وأخواتها، وما خلفته في قلوب المصريين، وقلوب كل الأحرار في العالم، من مشاعر الحزن والغضب، ونحن لا نتذكر هذه الفاجعة لنقف عند جراحاتها نسكب الدمع الثخين، ونندب الحظ العاثر، ولكننا نذكر رابعة لأنها أصبحت بحق رمزًا للحرية والعزة والكرامة يجب أن يبقى، ويحق له أن يخلد في القلوب والعقول، وأن ينتقل إلى ذاكرة الأجيال التالية، فلا يُنسى في زحمة الأحداث، أو يطمر في كثرة الحوادث، ونذكرها لنثبت بهذه الذكرى حق شهدائنا الأبرار في القصاص العادل لدمائهم الزكية، ونؤكد وفاءنا لطريقهم واستكمالنا لمسيرتهم، ونذكرها لنرسم لهؤلاء الأبطال صورتهم الحقيقية بعد أن دأب إعلام الزيف والفتنة على تشويهها، ونذكرها لنذكر الأمة بالقضية التي خرجوا من أجلها واستشهدوا في سبيلها، ولنحمّل الأمة مسئوليتها عن استكمال المسيرة وتحقيق الأهداف، ونذكرها لننطلق في العمل والجهاد متخذين من رموزها قدوةً ومثلاً حتى نلقى الله تعالى بإحدى الحسنيين؛ فإما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة.
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا
وكلنا أمل أن يمهلنا القدر لنشهد النصر والتمكين، ونشارك في تحرير أراضي المسلمين من كل سلطان أجني، ونصلي في المسجد الأقصى، ونشهد أوطاننا حرةً قويةً تلهج بحمْد ربها، وتهتف بزعامة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لآتٍ وإن طال الزمن، لا نشك في ذلك أبدًا.. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21)،
والله أكبر ولله الحمد
د.محمود عزت
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام
السبت 20 ذو القعدة 1438ﻫـ = 12 أغسطس 2017م