إفطار فردي .. في عنبر الإعدام

مع مدفع الافطار وأجواء رمضان المبهجة ، التي تزينت فيها شوارع مدينة “المنصورة” بأجمل الأنوار والألوان ، يجتمع الأهل داخل بيت العائلة لتناول الإفطار معاً، والاستمتاع بمشاعر الحب والألفة .
وفِي نفس تلك اللحظات كان يجلس “ابراهيم العزب” وحيداً مفترشاً أرض سجنه الإنفرادي بعنبر الإعدام يستعد للإفطار.
فبينما تصدح مآذن المنصورة معلنة عن أذآن المغرب والبدأ في الإفطار، يتوقع “ابراهيم” بنفسه متى أذن المغرب فلا صوت يصل إليه في زنزانته سوى صدى صوته حين يكلم نفسه ..أحزانٌ وجراحٌ نازفة ، وجسم هزيل يئنُ من الألم والعذاب ، وزنزانةٌ تُمنع عنها كل مقومات الحياة، حتى قضاء الحاجة يكون في نفس المكان الذي تشبه مساحته مساحة القبر ، فلا هواء يدخل لها إلا من فتحة في الباب يغلقها السجان متى شاء ..

افترش “ابراهيم” الأرض بعد صلاة المغرب إستعداداً للافطار ، ونظر إلى طعامه المقدم له من السجن والذي يعتبر جيداً بمناسبة رمضان ، حيث يحتوي على ١٠ معالق أرز ومثلهم خضار مشكل فقط ، ربما لا يكفي طفل في الثالثة من عُمره ، ولكنه أصبح يكفيه بعد ثلاث سنوات متتالية، وربما يكون قد فسد من الحر أو الرطوبة ولكنه لا يشعر بذلك .
اعتاد “ابراهيم” أن يعيش في ظلام دامس يصارع الجوع والعطش بلا زيارة ولا ملابس ولا دواء ، ودون أن يخرج حتى للتريض ، بل يقضي يومه بزجاجة مياه واحده لجميع الاستخدامات .

ابتسم “ابراهيم” قليلاً حين تذكر رمضان قبل عدة سنوات وهو بين أسرته البسيطة ، تذكر مشاكسته الدائمة لأخواته البنات ، وابتلع ريقه حين مر عليه مذاق طعام والدته الشهي ، ثم تنهد وعاد مرةً آخرى إلى طعامه ، وشرب قليلاً من الماء .
استمر شريط الذكريات يعود به إلى الوراء حين مدد جسده المُنهك المُتهالك على الأرض، وعينيه مُعلّقه في سقف زنزانته ، وعاد به الزمن إلى أول حُكم إعدام صدر بحقه، وأول رمضان بعيداً عن عائلتة، في عام 2009 عندما اعتقا وهو يبلغ من العمر وقتها 19 عامًا ، كان طالباً متفوقاً بكلية الصيدله، وكان نشيطاً جدا في كل الأعمال الانسانية ، لم يكن يترك عمل انساني ضمن أنشطة الجامعة إلا وشارك فيه .. كان معروف للجميع بدماثة خلقه ، فهو فقط شاب مُتدين يُناصر الحق أينما وُجد .
اختفي “ابراهيم” وقتها بمقابر أمن الدولة لـ 6 أشهر مغمي العينين حتى كاد أن يفقد نظره، وعند رؤيته لأهله في المحكمة لم يتعرف عليهم ولم يكن يعرف من هو أو ماذا يحدث .. تهمته وقتها كانت عجيبة “عمل تركيبات كيميائية لصناعة مواد متفجرة لعمل صواريخ لتفجير قناة السويس”.
قناة السويس؟! نعم .. لكن لماذا ؟! .. لا يهم !
ظل في السجن سنتين على اثر ذلك ، حتى ثورة يناير وخرج وقتها بقرار عفو من المجلس العسكري، وتم تبرئته بعد ذلك من هذه التهمة وتعويضه عن فترة اعتقاله ، كما استقبلتة كليته وقتها بالترحاب، وأقام له عميد الكلية حفل استقبال يليق بالبطل.

ضحك “ابراهيم” كثيراً عندما ظن أن العقود الطويلة من الظلم قد انتهت .. لكن وقع الإنقلاب، واستولى العسكر مرة آخري على الحكم، فتم فتح قضيته القديمة مرة أخرى وحُكم عليه فيها غيابي بالاعدام .. وأصبح “ابراهيم” مطلوباً !!

في 4 مارس 2014 تلقى “إبراهيم” إتصالاً من أحد أصدقائه ، ويدعى “عبد الله” والذي طلب منه الحضور إلى أحد العقارات بمنطقة المرور بالمنصورة ومعه دواء معين لأن هناك طفلاً مريضًا بهذا المكان ، فقام بالتوجُّه إليه ، ثم انقطعت أخباره تمامًا ..
كان “عبدالله” معتقلاً في يد الأمن وقتها وأُرغم تحت التعذيب بالاتصال على “ابراهيم” وعمل كمين له .. اعتقلوه ثم نقلوه إلى قسم ثان المنصورة ثم بعدها بأيام إلى مقر أمن الدولة، وفوجئ هناك بسبع شباب آخرين وهم “محمود وهبة، طالب في كلية الهندسة – عبدالرحمن عطية، طالب في كلية الطب – محمد العدوي طالب في كلية الآداب – خالد عسكر، خريج كلية العلوم – باسم الخريبي، خرّيج هندسة – أحمد دبور، مهندس تبريد وتكييف – أحمد الوليد الشال طالب امتياز طب”،.. و”ابراهيم” كان هو ثامنهم.
جميعهم اعتقلوا في أوائل مارس ٢٠١٤ .. تعرضوا معاً في مقر أمن الدولة لحفلات تعذيب جماعية ومنفردة، صعق بالكهرباء، إحراق بالسجائر، تعليق من القدم بالأيام، هتك عرض، والأصعب عليهم من كل هذا كان التهديد بإغتصاب أمهاتهم وأخواتهم البنات .. كل هذا لإجبارهم على الظهور في فيديوهات الداخلية والإعتراف بقتل رقيب للشرطة في قضية عُرفت بأسم “قتل الحارس” .. وتحت التعذيب اعترفوا بالفعل ، وظهروا في فيديو الداخلية بوجوه متورمة وجروح لم تبرأ، ليدلوا باعترافات مغصوبة .. ومن ثم تم نقلهم إلى مقر الأمن الوطني بالقاهرة .

كان يتم تعذيبهم لمدة أربعة أيام ليلاً ونهارًا ، كما ورد ذلك في تحقيقات النيابة التي أكدت وجود آثار التعذيب عليهم ، حتى إن بعض الشباب ذكر من عذبه في المحضر بالاسم، وبعدها تم نقلهم جميعاً إلى سجن العقرب حيثُ مقبرة الأحياء.
وصل “ابراهيم” بذاكرته إلى يوم الإثنين 7 / 9 / 2015 يوم حكم القاضي عليهم بالإعدام، ويومها إرتدى لأول مرة البدلة الحمراء .. يوم طُلب منه أن ينسى اسمه ويصبح رقماً ضمن الأرقام

ساعة تقريباً بين الإفطار والعشاء ثم التراويح هكذا يحسبها “ابراهيم” ، حيث قضاها هو بين ذكريات مؤلمة ، لكنها أبداً لم تثني عزيمته أو تقطع الأمل لديه ، فهو يترقب جلسة النقض في حكم الإعدام يوم 7 يوينو القادم ، والتي تم تأجيلها ثلاث مرات من قبل .
كان دائماً يردد “أنا لم أعد أهاب الموت فحياتي ستكون أطول من حياة شانقي، وأنا مازلت أقاوم بثبات .. ما يَهُمني أن يعلم الناس والعالم أجمع أنني بريء” ..

إنتهى أخيراً من ذكرياته ، وأذن لنفسه لصلاة العشاء ثم دعى ربه أن يحفظ عائلته وأصدقاءه ويسعدهم بأجواء رمضان .. ثم بدأ بالصلاة والدعاء بأن تكون الجلسة القادمة هي بدايةُ حياةٍ جديدة له ولرفاقه في القضية .

 

x

‎قد يُعجبك أيضاً

السيسي يُطعم المصريين الخبز المصاب بـ”الإرجوت” السام لإرضاء الروس!

رصد تقرير استقصائي لموقع “أريج” كيف يُطعم السيسي المصريين الخبز المصاب بفطر قمح “الإرجوت” لإرضاء ...