قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا

من المعلوم لدى العارفين بخصائص الأشياء أن كثيرًا من الأشياء تكون ذات خاصية في التأثير على شيء آخر، وقد يطرأ عليها ما يُفقدها تلك الخاصية، فتصبح بلا تأثير في ذلك الشيء.

ومثل ذلك أنواع العبادات الشرعية؛ فإنها ذاتُ تأثير حقًّا على النفس في إصلاحها وتزكيتها، ولكنها قد يطرأ عليها ما يُفقدها ذلكَ التأثيرَ الخاصَّ، فتصبِح غير مُصلحةٍ للنفوس ولا مُزكيةٍ لها، ومن أكبر ما يطرأ على العبادة فيُفقدها صلاحيتها، وتأثيرها في إصلاح النفوس وتطهيرها الشرك فيها وسوء عملها، وفقد الإخلاص فيها.

أما الشرك وهو جعل غير الله تعالى شريكًا له جل وعلا في العبادة التي تعبَّد بها خلقه، فهو محبطٌ للعمل، مفسدٌ له حسًّا ومعنىً لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: من الآية 88)، وقوله جلت قدرته: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمرك من الآية65)
وأما سوء عمل العبادة فالمراد به إساءة فعلها، بحيث يُخلُّ ببعض أركانها أو واجباتها أو سننها وآدابها، فكثيرًا ما يُفقد العبادة معناها، ويُخرجها عن حقيقتها، ويَقطع عنها ثمرتها المرجوَّة منها.. من تطهير النفس وتزكيتها، فالإخلاص في العبادة وحدَه غيرُ كافٍ في قبول العبادة، وفي جَعلها مُصلحةً للنفس مُزكيةً لها، بل لا بد مع الإخلاص من الإتيان بالعبادة في صورتها الشرعية وطبق ما شرع الله تعالى وبيَّن رسوله- صلى الله عليه وسلم- كمًّا وكيفًا؛ لأنه بمجموع الأمرين- الإخلاص والمطابقة- توجد في العبادة خاصيتها من الإصلاح والتطهير والتهذيب، وإلا فإنها تفقد ذلك قطعًا.وإحباط العمل: بطلانه وفساده، وإن شئت فقل هبوطه وعدم رفعه وقبوله؛ لأن الله- سبحانه وتعالى- طيب لا يقبل إلا طيبًا، والعمل الذي شابه شرك فاسدٌ، والله لا يرفع من الأعمال إلا ما كان صالحٌا، فقد قال عز شأنه: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر: من الآية 10).

ولذا أوجب الشارع العلمَ وجوبًا عينيًا وحثَّ عليه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وخاصةً العلم المتعلق بالعبادات التي لا تُتَلقى إلا من الشارع، كل هذا رجاء الانتفاع بالعبادة في تطهير النفوس وإصلاحها؛ لتصبح مستعدةً للكمال المخلوقة لأجله في الدنيا والآخرة، ومن هذا نقول: إنه لقبيح جدًّا بمسلم يعمر طويلاً ولا يتعلم أثناء عمره الطويل أمورَ دينه، ويعبد ربه على جهل.

وبناءً على ما تقدم فإنه قد يصبح من المحتَّم على مَن أراد الشروع في عبادة عظيمة- كمناسك الحج والعمرة- أن لا يَخرج من بيته حتى يتعلم ويعرف كل مَنسَكٍ وشعيرةٍ فيها؛ ليعبد ربه بما شرع، وليعبد ربه على علم، وطبق ما بيَّن ووصف جل وعلا، وقديمًا سأل إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- ربَّهما بيانَ ذلك ليعبُداه كما يريد، ويتقربا إليه بما يحب أن يتقرب عبده إليه، قال تعالى حكايةً عنهما: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 127،128).

فهما يريدان أن يعبدا ربهما ويتقربا إليه، وليس لهما ذلك إلا من طريق العبادة المشروعة، فطلبا بيان ذلك منه- سبحانه وتعالى- فاستجاب لهما، وعرفهما مناسك الحج فعبداه بما شرع، وتقرَّبا إليه بما أحب، فهل بعد هذا يسوغُ للمسلم الحاج الذي هو على إرثٍ من أبيه إبراهيم في هذه العبادة الفاضلة- كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: “قفوا على مشاعركم؛ فإنكم على إرثٍ من إرث أبيكم إبراهيم”- فهل يسوغ له أن يأتي هذه المناسك وهو لا يعرف منها منْسكًا واحدًا فيعبد ربه على جهل، فتذهب مجهوداته وأمواله وسائر تضحياته سدىً دون فائدةٍ، ويعود بذنبه كما خرج من بيته.

وأما فقد الإخلاص.. فإنه إذا كان الإخلاص كالاحتساب، وهو إرادة الله- سبحانه وتعالى- بالعمل دون سواه؛ رجاء ما عنده من حسن المثوبة وعظيم الأجر، فإنه روح العمل وقوامه، فمتى فقده العمل صار شيئًا لا معنىً له كجسد فارقته الحياة؛ ولذا فإن العبادة إذا فقدت هذا العنصر الحيَّ من عناصرها الثلاثة: الإيمان، وحسن العمل، والإخلاص، فإنها تصبح خاليةً تمامًا من طاقة التطهير والإصلاح المُودَعة فيها، فلا تُصلِح خُلُقًا ولا تُزكِّي روحًا.

ومع الأسف فإن عبادة الحج- التي نحن بصددها- معرضةٌ أكثر من غيرها لفقدان عناصرها المهمة التي تقدَّمت؛ فإن من بين الحُجاج من لا يقصد الحج إلا لغرض الاطلاع والوقوف على الآثار، والتمتُّع بلذة التنزُّه والأسفار، كبعضٍ من ذوي الثقافات الغربية، والشباب الطائش، ومن بين الحُجاج مَن لا يقصد الحج إلا ليحصل على لقَب الحاجّ، فيستغل هذا اللقب في قريته وبين أفراد عشيرته فيتوصَّل به إلى تحقيق بعضِ أغراضِه المادِّية، وهؤلاء يوجدون عادةً بين العوامِّ والجَهَلة الذين توجد فيهم نزعةُ حبِّ السيادة ولم يحصلوا عليها لعدم استعدادهم لها بالمؤهلات الذاتية والخلقية والعلمية، وعلى كل حال فالصنفان المذكوران قد خسرا عملهما وفقدا ثمرةَ حجِّهما بعدم الإخلاص الكامل لله، قال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ (البقرة: من الآية 196)

ومعنى كون العبادة خاصيةً تؤثر على النفوس بالزكاة والتطهير، وأنها تفقد خاصيتها تلك إذا شابها شركٌ أو أدِّيَت على غير ما شرع الله، أو فُقد الإخلاص منها، أن العبادات مبنية على قاعدة شرعية جليلة، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: من الآية 45) وقوله عليه الصلاة والسلام: “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاةَ له”، وقوله: “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بُعدًا”.

وبيانه أن الآية الكريمة تشهد بوجود خاصية التأثير على النفوس في العبادات، وأنه ينبغي للحصول على تأثير العبادة في النفس أن تكون العبادة مؤداةً أداءً صحيحًا موافقًا لما شرع الله نصًا وروحًا، وإلا فإنها تفقد خاصيتها.

وقوله- صلى الله عليه وسلم- يشهد لفقدان العبادة خاصيتها في إصلاح النفس وتزكيتها إذا هي فقدت مقوماتها من الخلو من الشرك، وحسن الأداء، وروح الإخلاص، كما أن قوله- صلى الله عليه وسلم- “لم يزدد من الله إلا بعدًا” يدل بوضوح على أن القرب من الله والبعد عنه هما نتيجة لما تكون عليه النفس من تزكية أو تدسية؛ فإن عمل صاحب النفس بما مِن شأنه أن يزكِّي نفسه- كالإيمان والعمل الصالح فإنه يتقرب بطهارة روحه من الله تعالى، وإن هو عمل ما مِن شأنه أن يدسي نفسه- كالشرك والمعاصي- فإنه يخبث نفسه فلا يصبح أهلاً لرضا الله تعالى والقرب منه، ومصداقُ هذا قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس:9، 10).

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...