الصدق مع الله

1 ـ تعريف الصدق.
2- مطابقة الظاهر للباطن.
3- لا ينفع إلا العمل الصادق المتجرد لله.
4- الأتقياء الأخفياء.
5- الجزاء من جنس العمل.
6- أهمية الإخلاص والتحذير من الرياء.
يا من رضيتم بالله ربا وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولا اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:[يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119].
الصدق الذي تتكلم عنه هذه الآية من سورة التوبة إنما هو مطابقة الأمر للواقع وللحقيقة، أو استواء السرائر مع الظواهر، أو استواء البواطن الخافية مع الأمور المعلنة.
فلو فتحت صدر الإنسان الصادق وأعطاك الله الاطلاع على قلبه لما وجدت هنالك اختلافاً بين الصفيحة المعلنة وبين السريرة المخبأة، وهذا حال الصادقين، بل إن بعضهم سريرته أفضل من ظاهره، وكان السلف رضوان الله عليهم يقولون: (اللهم اجعل باطننا خيراً من ظاهرنا، واجعل ظاهرناً خيراً).
مطابقة الظاهر مع الباطن:
ومن نعم الله عز وجل، أن هذه القلوب تتعامل مع علام الغيوب، مع الله عز وجل، والسرائر لا تبقى مخفاة طويلاً، وهي تفترق مع الظاهر أحياناً، ولكنها لا تطيق إلا أن تتطابق بعد فترة؛ فإن كانت سريرته خيراً لابد أن يظهرها الله عز وجل، وإن كان باطنه شرّيراً لابد أن يظهره الله، وما أسرّ أحدٌ سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه.
يستحيل أن يبقى الإنسان مخادعاً لنفسه طويلاً، لأنها فطرة فطر الله الناس عليها، فطرة الله أن تنطبق الظواهر مع البواطن، فإذا افترق خط الظاهر مع خط الباطن لفترة؛ بنفاق أو كذب أو رياء أو غير ذلك لا يستقيم هذا الحال طويلاً، لأن الفطرة قد فطرها الله عز وجل على أن لا تتقبل الباطل طويلاً، ولا تطيق المداهنة أمداً بعيداً.
كل فطرة وكل قلب يحب أن يعود إلى فطرته التي فطره الله عليها.
[صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة [البقرة:138].
[فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم:30].
ومن هنا فالفطرة الحقيقية التي صبغها الله وخلقها بيده سبحانه؛ لا تطيق الزور والبهتان ولا تطيق الكذب لطويل من الزمان.
ولهزة من الهزات بتذكير من بعض الدعاة، أو بسماع آية من الآيات تجد هذه الفطرة تنتفض وتهتز وينتفض عنها ركام الواقع وركام الزور والبهتان والباطل، ثم تنطق بالحقيقة.
وكم من الناس يظلمك أو يكذب عليك أو يخطط لك، وأمام صدقك وصبرك الطويل تجد فطرته تنتفض، فيعبر عن ندمه وخطئه إما بدموع هاتنة بين يديك، أو بتوبة صادقة على يديك، ويفتح لك هذا القلب الذي ما أطاق الباطل والبهتان طويلاً.
فأما الزبد فيذهب جفاء، ولا ينفع في العمل إلا الصدق، ولا يقبل الله عملاً إلا إذا كان صادقاً [ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [الملك:3].
كما قال الفضيل بن عياض: (أصوبه وأخلصه)، وأخلصه: من الرياء، وأصوبه: يعني أصدقه؛ ما كان موافقاً لسنة رسول الله ، ولما جاء به الوحي الأمين من عند رب العالمين.
وبدون الصدق لن يستقيم لنا أمر، ولن تصلب لنا قناة، ولن نستمر على ثبات،
ومآلنا إلى تمزق وشتات.
كم من الناس كانوا يخطبون، أوتوا جوامع الكلم، ويعجبك في لحن القول، ويلوون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وكان الناس يتجمعون حولهم، وكنت أطمئن قلبي أن هذا الأمر لن يستقيم طويلاً، لأن الزبد لن يمكث في الأرض.
[فأما الزبد فيذهب جُفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].
لن يعيش في الأرض ولن يستمر إلا الحق، وما نبت منه، والخبيث ليس له جذور في أرض الواقع، وليس له استدامة في الحياة.
ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار [إبراهيم:24].
إن الخبث لا يستطيع أن يتماشى مع الفطرة الإنسانية، ولا يستطيع أن يضرب جذوره في القلوب البشرية، ليس له جذور في أعماق الفطرة الإنسانية، إنه طارئ ويبقى مؤقتا، وسرعان ما يزول كما تزول البثور عن الجلد إذا ظهرت، إنها عبارة عن دمامل وقروح، وسرعان ما يتغلب عليها الجسد وتزول من فوق البشرة.
وأما الحق فإنه ثابت عميق مستمر وإلى أن نلقى الله عز وجل. والسبب: أن الله هو الحق، ولا ينصر إلا الحق، ولا يديم إلا الحق، ودينه الحق.
ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل [الحج:62].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
كان الناس يتجمعون حول بعضهم – كما قلت لكم – كنت مطمئنا أن الزبد لن يبقى، كنت مطمئنا أن الخبث لن يعيش، وكنت أطمئن من حولي: هذه عبارة من فقاعات، ورغوة الماء سرعان ما تنفض، والله عز وجل يقول: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث [المائدة:100].
والخبيث يركمه رب العزة بعضه فوق بعض، يركمه جميعاً، فيجعله في جهنم وأصحابه هم الخاسرون.
وتمضي الأيام – ومن خلال تجارب الحياة – لتثبت ما كانت تحدثني به نفسي: أن الزبد لا يعيش، وأن الغثاء لا يستمر، وأن سفساف الأمور مآلها إلى الزوال، وسرعان ما تزول بهبَّة ريح من اليمين إلى الشمال.
ولذا فقد كان السلف رضوان الله عليهم حريصين على الحق وإن كان مراً، حريصين على الصدق وإن كان ثقيلاً، حريصين على مطابقة الظواهر مع البواطن وإن كان من أحمز الأمور وأشقها.
أحدهم تجده وهو يحرص أن يكون له أعمال بينه وبين الله عز وجل لا يطّلع عليها أحد من الناس، فإذا اكتشف الناس عباداته تجده سرعان ما يفارق مكانه ليختفي بين العوام.
كان الإمام أحمد – رحمه الله – إذا مر في الشارع يسير بين الحمّالين حتى لا يشار إليه بالبنان، حتى يظنه الناس حمالاً – شيّالاً وعتّالا – فلا يشيرون إليه البنان.
كان أحدهم إذا دخل المعركة يتلثم، أو جاء بغنيمة كبرى يتلثم ثم يضعها حتى لا يعرف الناس اسمه.
وكلكم تعرفون صاحب النقب يوم أن حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا من الحصون فترة طويلة، وذات ليلة انسلّ أحد المجاهدين وتسلق سور الحصن، ونزل على الحراس، وقتل الحارس وفتح نقباً في السور، ودخل الجيش الإسلامي، واحتل الحصن، ونادى طويلاً، نادى مسلمة طويلاً: أيكم صاحب النقب؟ فلم يتقدم إليه أحد، وذات ليلة وإذا بفارس ملثم يدخل خيمة مسلمة ويقول: أتحب أن تعرف من صاحب النقب؟ قال: نعم، قال: بشرط؛ أن لا تذكر اسمه لأحد، وبشرط أن لا تثيبه ولا تجازيه، قال: نعم، قال: أنا صاحب النقب، ولم يذكر اسمه ثم فر هارباً. فكان بعدها مسلمة كلما توجه إلى القبلة بالدعاء يقول: (اللهم احشرني مع صاحب النقب).

 

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...