عن ابن عمر ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :” مثل المؤمن مثل النحلة ،إن أكلت أكلت طيبا ، و إن وضعت وضعت طيبا ، و إن وقعت على عود نخر لم تكسره . ومثل المؤمن سبيكة الذهب إن نفخت عليها أحمرت ، و إن وزنت لم تنقص ” أخرجه السيوطى فى الجامع الصغير (2/161) و صححه الألبانى فى صحيح الجامع الصغير (5/200).
هذا الحديث جامع فى بيان حقيقة المؤمن حتى يلتمسها كل من يطلب الإيمان فى نفسه ، وهو يتذرع إلى هذا البيان بمجموعة من الاستراتيجيات البلاغية المهمة .فهو ابتداء استثمر بنية التمثيل و ضرب المثل وهو باب وافر فى مقام صناعة المعرفة و التعليم معا استشعر خطره العلماء من قديم ما فردوه بالتأليف فى باب علمى مستقل باسم أمثال الحديث . وضرب بالمثل استجماع المعايير المستهدفة بالنقل فى المثال المجلوب ليكون بالطرف الأشهر فى التشبيه!
وتأمل الحديث يظهر أن حال المؤمن من خير كله ، و هو ما ظهر من تعميم الحديث على ما يؤدى معنى الاستغراق ، و عموم الحال من خلال توظيف ما يسمى بتقنية طباق الاستغراق الجامع للعموم من خلال هذا الطباق البادى من وراء توظيف : أكلت / وضعت فى سياق الدلالة على دوران أمر المسلم كله على الطيب ابتداء و انتهاء ، أخذا ، و عطاء، منعا و منحا . وهذا الاستغراق الذى تحقق من خلال هذا التركيب اللغوى ، صاحبه توظيف لون من ألوان الجماليات الصوتية المتمثلة فى تكرار الفعل : أكلت ، و الفعل : وضعت / وضعت ، وهو ما يصنع موسيقية من قانون التناسق من توالى الصيغتين بلا فاصل ، ثم أنت واجد هذا التلوين الصوتى المتحقق بالتكرار المتوازى لكلمة السجعة : طيبا بعد ثلاث كلمات متساوية طولا و ارتفاعا ، وهو ما يظهر فى : إن أكلت أكلت ( طيبا) ، إن وضعت وضعت ( طيبا) وهو استثمار رائع لما يعرف بحسن التقسيم و التوقيع الموسيقى معا.
ثم يوظف الحديث أمرا مهما فى هذا السياق تمثل فى عبقرية استثمار القيد اللغوى الظاهر من وضع الصفة النحوية فى التركيب الوصفى : عود نخر ، ليصور المؤمن من ورائه فى صورة مثال فريد فى النفع الخالص ، و فى صورة برئ و صاف من جر الأذى على أى شئ ولو كان عودا متناهى الضعف . و لعل الدلالة الصوتية البادية من خلف صيغة ( نخر) تعيينا بما توحى به من وصف التقصف و الهشاشة أمر داعم لوصف المؤمن بالرحمة بالوجود .
و الحديث بديع فى التقاط المشبه الجامع لكل خصائص الحسن المادى و المعنوى معا ؛ ذلك أن النحلة نبيلة فى غذائها ، نبيلة فى مسلكها ، نبيلة فى منحتها، تستجمع فى حركتها طهارة الوسيلة ، و تنتهى حيث تنتهى إلى مضرب المثل فى الحلاوة بين الناس ، إذ ينتهى الشرف إلى ما تخرجه من بطونها ، وهى بعد ذلك كله مثال فى توقى النجاسات ، ومثال فى التماس الشفاء عندها ، و لأمر ما اشتهرت النحلة بأنها باب من أبواب الدلالة على رحمة الله تعالى كما جاء عنها فى كتب الحيوان جميعا .
ثم يدخل الحديث إلى تكثيف هذا الناتج الدلالى الرامى إلى بيان شرف المؤمن ، و نبله ، ونفعه ، و نفاسة قيمته عن طريق امتداد الصورة التشبيهية ، بضم مثل آخر إلى المثل الأول ، حيث يستحيل المؤمن مرة ليظهر فى صورة أخرى بالغة النفاسة هى صورة سبيكة الذهب ، لتدل على نفاسة معدن المؤمن ، ذلك أن المثل و التشبيه بقوم على نقل خصائص المشبه به إلى المشبه ، و إذا ما حدث و نقلنا ما يسكن خلف : سبيكة الذهب من معانى ، النفاسة و الصفاء ، وعدم التشكل ، ظهر لنا أن النبى صلى الله عليه و سلم أراد أن يعلم الأمة أن المؤمن فى حقيقة أمره ذهب صاف.
و يعتمد الحديث على تقنية بلاغية ظاهرة حينما يمدد الصورة عن طريق حشد خصائص المشبه به ( الذهب) ليرشح و يقوى صورة المشبه المقصود أصلا ، فيذكر الحديث سمتين للذهب يرتفعان بنوعه ، حيث يزداد الذهب صفاء بالنفخ عليه(احمرت) ، و لا ينقص وزنه إذا تعرض لما يتعرض له غيره من المعادن.
وامتداد الصورة التمثيلية سواء فى التمثيل بالنحلة أو التمثيل بسبيكة الذهب دال على أن النبى صلى الله عليه و سلم يرشد إلى أن المؤمن الحقيقى نافع دوما ، حلو دوما ، رحيم دوما، نفيس دوما ، لا يزيد مع تقلب الأحوال إلا نفاسة و علوا.