]الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
منصب القضاء في الإسلام من أعلى المراتب؛ لقوله تعالى:
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) (غافر: 20).
فكأن القاضي نائب عن الله في حكمه وفتواه، يقول الإمام الغزالي: “إنه أفضل من الجهاد..”
وقال تعالى:
(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) (ص: 26)،
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل) (النساء: 58)، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ..) (النساء:135)،
(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى:15).
وقال صلى الله عليه وسلم:
(إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا)(صحيح مسلم). وروى أبو ذرٍّرضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله عز وجل في الحديث القدسي أنه قال:
(يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا) (صحيح مسلم). ومن هنا أدرك المسلمون قيمة العدل، ووجوب تطبيقه فيما بينهم.
وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ)(سنن الترمذي).
ولم يكن تطبيق العدل فيما بين المسلمين وبعضهم فقط، بل أمرنا الله عز وجل بضرورة التعامل بالعدل مع من نكرههم ونبغضهم، وهو ما كان جديدًا في ساحة التعامل العالمي، ومن ثَمَّ قال تعالى:
(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) (المائدة: 8).
بل أكد الإسلام على ضرورة التعامل بالقسط مع غير المسلمين، وحذَّر من انتقاصه حقه، أو ظلمه لضعفه، أو خيانته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (سنن أبي داود)، وفي الحديث:
(تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ)(صحيح مسلم).
بل الأكثر من ذلك، فقد حذَّر الإسلام المتخاصمين من تزييف الحقائق، أو تزوير الأدلة، والإتيان بالحجج والأدلة التي تؤيد له وجهة نظره، وتُعينه على أخذ حق غير حقه، ولا شكَّ أن هذه التربية الإسلامية القويمة، هي مما تجعل ضمير المسلم يقظًا ضد كل شرٍّ، حذرًا من كل تدليس أو تغيير للحق؛ ولذلك قال النبيصلى الله عليه وسلم:
(إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ)(صحيح البخاري).
ثانيا: أصناف القضاة
القضاة بشر ليسوا معصومين وليسوا على وتيرة واحدة ، لهم وعليهم، وهم على أقصر طريق يوصلهم إلى الجنة إن عدلوا وهم أيضا على أقصر طريق يدخلهم النار من أوسع أبوابها إن هم جاروا وظلموا، لكن بريق منصب القضاء وعلو قدره، جعل النفوس الضعيفة تهفو إليه لتحوز الشرف والمكانة في الدنيا، متغافلة عن عبء القيام بحقه من واجبات العدل، فكان في المنصب هلاكها يوم القيامة.
في الحديث الشريف: (القضاة ثلاثة: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ…) (سنن الترمذي). وهذا الحديث يقسم القضاة من حيث العلم والجهل.
الصنف الأول: قضاة يخافون الله ويحكمون بالعدل فهم لديهم علم ودراية أولا ثم هم يتمتعون بضمير حي وخوف من الله ثانيا وهؤلاء في الجنة كما أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم (الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ…) (سنن أبي داود) لأنه علم الحق وقضى بالحق، وهؤلاء حراس العدالة الذين نبحث عنهم وصاروا عملة نادرة لا تقدر بثمن وستأتي أمثلة لهم.
الصنف الثاني: قضاة جهلة غير مؤهلين للحكم في قضايا الناس نالت المنصب بالوساطة والتزكية وربما بالرشوة وذكر الحديث أنهم ضعف الصنف الأول ونراهم في عصرنا قد كثروا جدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم (قَاضِيَانِ فِي النَّارِ) وهم رجل جهل الحق وحكم بخلافه ورجل جهل الحق وحكم بالحق ” فهم أصحاب تقديرات متدنية في الدراسة (بتقدير مقبول) فليسوا أصحاب كفاءة وهذا الصنف إن حكم بالباطل لجهله فهو في النار وإن صادف حكمه الحق فهو في النار أيضا بنص الحديث، يعني الفشلة والجهلة في النار حكموا بالباطل أو بالحق، فليتهيأ هؤلاء لدخول النار من أوسع أبوابها إلا إذا تابوا وأصلحوا.
الصنف الثالث: القضاة الخائنون للأمانة الذين يحكمون بالهوى وهم صنف آخر لم يشملهم الحديث السابق لأنهم ليسوا جهلة بالشريعة ولا بالقانون بل هم على علم بهما وهم يضربون بعض القوانين ببعض ويستغلون ثغرات القانون التي يعلمونها ليبرئوا المتهم ويتهموا البريء طالما هناك مقابل من رشوة أو مغنم دنيوي، فهؤلاء أصحاب هوى ومصلحة فاشتروا بدينهم ثمنا قليلا فالأزمة عندهم ليست أزمة نصوص بل أزمة نفوس .
وجزاء هؤلاء اللعن يعني الطرد من رحمة الله ففي الحديث: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)(مسند أحمد).
(إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ) (البخاري ومسلم).
ثالثا: القضاة بين حكم الشريعة والقانون الوضعي
– من مظاهر انحراف الأمة استبدالها الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية المليئة بالثغرات والتي تضيع بسببها الحقوق واسألوا أصحاب الدراية بالقوانين التي تجعل المرء بريئا ومتهما وبالقانون، إنها قوانين فاسدة مطلوب من المؤمنين الصادقين أن يكفروا بها إلا ما لا يتعارض مع الإسلام.
– قضى عمر بن عبد العزيز على بني أمية بوجوب توريث النساء في العقارات وكانوا قد منعوا ذلك فقال قائلهم إنا لا نورث النساء في العقار وهذا كتاب عبد الملك بن مروان الذي قضى فيه بذلك، وقام ليحضر الكتاب فنهره عمر قائلا: قمت تحضر إلي الكتاب كأنما تحضر المصحف لا يلزمنا كتاب عبد الملك فكتاب الله أولى وأجدر أن نأخذ به. يعنى لا قدسية ولا كرامة للقوانين الوضعية التي تخالف الشريعة.
فالقوانين التي تتعارض مع الشريعة لا يجوز العمل بها (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50). وهكذا ينبغي أن يكون القضاة فلا يورطون أنفسهم في مضادة حكم الله تعالى.
رابعا: خوف السلف من تولي هذا المنصب
من أجل هذا هاب الصالحون منصب القضاء وتبعاته، وحرصوا على دفعه عن أنفسهم.عملا بقول النبي:صلى الله عليه وسلم (لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ وُلُّوا هَذَا الْأَمْرَ أَنَّهُمْ خَرُّوا مِنْ الثُّرَيَّا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَلُوا شَيْئًا) (مسند أحمد).
فكانوا يدفعون هذا المنصب الخطير عن أنفسهم لا يبحثون مثلنا عن الوساطة التي تمكنهم من رقاب الناس، ويروي لنا تاريخ الإسلام في ذلك مواقف مضيئة، نذكر منها:
ما رُوي من أن عثمان بن عفان عرض على ابن عمر رضي الله عنهما القضاء، فأَبَى، ولما ألح عليه لقبوله مذكرًا إياه بأن أباه كان يقضي، قال عبد الله: “إن أبي كان يقضي، فإذا أشكل عليه شيء سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أشكل على النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل، وإني لا أجد من أسأل”.
– وهذا الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان يفضل الموت في السجن عن تولي القضاء وقد كان.
– كما عرض حيوة بن شريح على السيف وهدد بالقتل ليتولى القضاء فرفض ونجا
خامسا: مواقف مبهرة لقضاة الإسلام مع ذوي السلطان:
فمن مواقفهم الناصعة مع ذوي السلطان ما رُوي أن عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعًا له كانت أثيرة عنده، ثم ما لبث أن وجدها في يد رجل يهودي يبيعها في سوق الكوفة، فلما رآها عرفها، وقال: هذه درعي سقطت عن جمل لي في ليلة كذا وفي مكان كذا. فقال الذميّ: بل هذه درعي، وفي يدي يا أمير المؤمنين، وبيني وبينك قاضي المسلمين.
فقال علي: أنصفت! فهلم إليه. فلما صارا عند شريح القاضي في مجلس القضاء، قال شريح لعلي رضي الله عنه: لا ريب عندي في أنك صادق فيما تقوله يا أمير المؤمنين، ولكن لا بد لك من شاهدين. فقال عليّ: نعم مولاي قنبر وولدي الحسن يشهدان لي. فقال شريح: ولكن شهادة الابن لأبيه لا تجوز. فقال علي: يا سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». فقال شريح: بلى يا أمير المؤمنين، غير أني لا أجيز شهادة الولد لوالده. عند ذلك التفت عليّ إلى الذمي، وقال: خذها، فليس عندي شاهد غيرهما. فقال الذمي: ولكني أشهد بأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين. ثم أردف قائلاً: يا لله! أمير المؤمنين يقاضيني أمام قاضيه، وقاضيه يقضي لي عليه، أشهد أن الدين الذي يأمر بهذا لحقّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
رحم الله زمانا كان فيه الناس يدخلون الإسلام بعدل القضاة، وهناك قضاة يفتنون الناس بظلمهم الذي يؤدي بالناس إلى الكفر.
موقفهم من مواضع الشبهة والريبة: حيث كانوا يتورعون عن أخذ المال واقتناء الدور والثروات وربما يمتنع بعضهم عن أخذ مرتَّب عن عمله في القضاء، ويرى أن ذلك منقصة له ولوظيفته، ومن هؤلاء ابن سماك الهمذاني، أحد قضاة الأندلس، فقد ذكر النباهي في (تاريخ قضاة الأندلس) صفاته ومناقبه، فمما قاله: (وكان من زهده وتواضعه يفتح القناة بنفسه، على ما حكاه عياض وغيره، ويكسر الحطب على باب داره، والناس حوله يختصمون إليه ويسألونه. وكان يلبس الصوف الخشن، ولم يركب دابَّة في البلد أيام ولايته؛ فإذا خرج إلى منزله بالبادية على حمار يشتدُّ دون خُفٍّ، يتقوَّت مما يأتيه من ماله؛ ولم يأخذ على القضاء أجرًا).
سادسا: القضاة والأوامر العليا
في الحديث: “من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره” السلسلة الصحيحة(438).
يذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء: أن الخليفة أبو جعفر المنصور كتب إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة كتابًا فيه: (انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر، فادفعها إلى القائد).
فكتب إليه سوار: (إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلست أعطيها لغيره إلا ببينة). فكتب إليه المنصور: (والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد). فكتب إليه سوار: (والله الذي لا إله إلا هو، لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق). فلما وصل كتابه إلى المنصور قال: (ملأتها والله عدلاً، فصار قضاتي تردني إلى الحق).
– ومنهم القاضي المنذر بن سعيد البلوطي الذي وَلِي القضاء بقرطبة أيام عبد الرحمن الناصر، والذي استعفى مرارًا من القضاء، فما أُعفي.
ويُروى أن الناصر أراد أن يبني قصرًا لإحدى نسائه، وكان بجوار المكان دار صغيرة وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي، فطلب شراءه. فقالوا: إنه لا يباع إلا بإذن القاضي، نسأله بيعه. فقال القاضي: (لا، إلا بإحدى ثلاث: حاجة الأيتام، أو وهن البناء، أو غبطة الثمن). فأرسل الخليفة خبراء قدروهما بثمن لم يعجب القاضي، فأباه، وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما. وخاف القاضي أن يأخذهما جبرًا، فأمر بهدم الدار والحمام وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء. وعزّ ذلك على الخليفة، وقال له: ما دعاك إلى ذلك؟ قال أخذت بقول الله تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [الكهف: 79]، لقد بعت الأنقاض بأكثر مما قدرت للدار والحمام، وبقيت للأيتام الأرض، فالآن اشترها بما تراه لها من الثمن. قال الخليفة: أنا أولى أن أنقاد إلى الحق، فجزاك الله عنا وعن أمتك خيرًا.