القدوة الحسنة

3

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
 لقد كان لكم فى رسول الله قدوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [ الأحزاب ] الحمد لله العليم الكبير ، نحمدك اللهم اعظم الحمد على ما هديتنا به من إيمان صادق ونبى بالحكمة ناطق هديت به الأمة وكشفت به الغمة ومحوت به الظلمة .
فاق الورى بكمالــه سبق الورى بجماله
عظمت جميع خصاله صلوا عليه وآلـه
واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له أنقذنا بالإسلام من كل كرب وضيق وهدانا بالنبى محمداً إلى اعظم طريق ، صلى اللهم على هذا النبى التقى النقى ، صلاة تليق بجودك العظيم لمقامه الكريم فقد فضلته على سائر النبيين ، فاللهم ارض عنا بالصلاة عليه واجعلنا من خير الواصلين إليه .
موضوعنا اليوم ( جوانب من العظمة فى حياة الرسول القدوة ) ولا شك أنكم تقرون معى أننا فى حاجة ماسة لمدارسة هذا الموضوع من حياة الرسول وأننا ما بين الحين والآخر نحتاج إلى أن نتمثل العظمة فى حياة رسول الله لنقتدى به وأظنكم الآن قد امتلأت قلوبكم روعة وسبق إلى آذانكم قول الله تعالى
 لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر  من هنا نطرح سؤالاً ، ما شروط القدوة الحسنة ؟
هناك شروط لابد من توافرها فيمن اتخذه قدوة وهى :
1ـ أن يحمل الأخلاق الفاضلة العالية التى تؤهله لذلك .
2ـ أن يصح تمثل جميع الطبقات به بحيث لا تعجز طبقة من طبقات المجتمع عن وجود الأسوة فيها .
3ـ أن يكون هذا الشخص الذى يُتخذ قدوة يملك منهاجاً صالحاً موفقاً يستطيع أن يأخذ بيد من يقتدى به إلى سبل الخير والرشاد .
تعالوا بنا نستعرض هذه الشروط فى حياة رسول الله وشخصه ، ففى جانب الأخلاق فحدث ولا حرج فالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم جمع مكارم الأخلاق كلها وقال فيما يحفظ كل منا )) إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) وجدنا ربنا جل وعلا يمدح محمداً صلى الله عليه وسلم بمدح لا يصل إليه أحد فى الأرض من قبل ولا من بعد فيقول  انك لعلى خلق عظيم  ، سيدى يا رسول الله مهما قال القائلون فلن يبلغوا فيك قول ربك  وانك لعلى خلق عظيم  الخلق العظيم شيمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا وصفه كل من رآه بمجامع الأخلاق الحميدة حتى وصف الأعداء ما يصفه الأصدقاء قديماً أو حديثاً .
أما الشرط الثانى أن يكون هذا الشخص الذى يُقتدى به محلاً لأن يقتدى به الناس وهذا هو السر فى الآية الكريمة  لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة ، نجد هنا أن الأسوة قيدت بالوصف وعندما تُقيد الكلمة بالوصف يدل هذا على زيادة فى المعنى ، وقال العلماء هنا : ( أن كلمة حسنة معناها أنكم يا أيها الناس تستطيعون أن تقتدوا برسولكم فى كل أحوالكم وعلى اختلاف طبقاتكم فالغنى يجد قوته فى رسول الله والفقير يجد قدوته فى رسول الله ، من يعيش فى يسر ومن يعيش فى شدة ، من يعيش فى صحة ومن يعيش فى مرض ، الحاكم والمحكوم ، القائد والجندى ، كل من يعيش على وجه الأرض يستطيع أن يجد قدوته فى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والفقير الذى لا يجد إلا ثوباً واحداً يجد قدوته فى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء وقت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يرتدى ثياباً رقيقة كفقراء المسلمين ، ونجده أيضا يلبس الجبة الرومية الجميلة ليقابل بها الوفود والغنى الذى يأكل أشهى أنواع الطعام يجد النبى أكل أشهى أنواع الطعام ، والفقير الذى لا يجد إلا ما يسد به رمقه سيجد رسول الله عاش دهراً من عمره يأكل الخشن من الطعام ، الصحيح القوى السليم سيجد قدوته فى رسول الله فى صحته وقوته واستخدام ذلك فى سبيل الله ، وإذا دب المرض سيجد الأسوة فى رسول الله فقد مرض رسول الله وتوجع وعلمنا كيف نتجه إلى الله عندما يأتينا المرض ، والقائد السياسى الذى يريد أن يقود شعبا إلى الفضيلة والهداية سيجد أسوته فى رسول الله وما أحوج قادتنا فى هذه الأيام إلى أن يقتدوا برسول الله ويتمثلوا شخصه الكريم فرسول الله قائد سياسى محنك يعرف كيف يدير شئون أمته وكيف يخاطب الملوك فى عصره وكيف يتعامل مع الأعداء وكيف تكون سياسته سياسة راشدة تدفع بالأمة إلى الهداية والنصر والتمكين .
نعم كان رسول الله قائداً سياسياً محنكاً يعطى القدوة الطيبة لكل حاكم تجده يبعث السفراء إلى ملوك العالم يخاطبهم فيها بلغة دبلوماسية ، يخاطب الملوك على أقدارهم ويدعوهم منها إلى الإسلام بطريقة تناسب مكانتهم ويأخذ بأيديهم إلى طريق الله بالجدال بالتى هى احسن وبالكلام الموجز الدقيق ، أين قواد الأمة اليوم من تمثل شخصية الرسول ؟ أين مخاطبتهم لرؤساء العالم ودعوتهم إلى الإسلام ؟
انك تجد الإسلام آخر اهتماماتهم بل قد يسئ بعضهم بمواقفه إلى الإسلام حين يقف بموقف المتخاذل ويرضى الدنية فى دينه ودنياه .
ولك أن ترى كيف تمثل الصحابة شخصية الرسول السياسية وخاطبوا الدنيا كلها وتعاملوا مع الناس بالسياسة الشرعية الحكيمة ، لذا ترى الدنيا كلها تدين لدولة الإسلام العظيمة وتعرف قدر الإسلام وسنأخذ مقالاً واحدا لنرى عزة الخلفاء حينما تمثلوا شخصية الحبيب صلى الله عليه وسلم :
لقد أرسل ملك الروم خطاباً شديد اللهجة يمتلئ بالتهديد والوعيد لعبد الملك بن مروان خليفة المسلمين والسبب فى ذلك أن عبد الملك أرسل خطاباً لملك الروم كتب فى أوله ( لا اله إلا الله محمد رسول الله ) فغضب ملك الروم غضباً شديداً وأرسل خطاباً لعبد الملك بن مروان وقال له : يا خليفة المسلمين تكتب فى أول خطابك لا اله إلا الله محمد رسول الله ؟ لان عدت إليها لنفعلن ولنفعلن ولننقشن على الدنانير التى فى أيديكم سباً لنبيكم ) المسلمون فى ذلك الوقت لم يكن لهم دينار يتعاملون به ويتعاملون بالدينار الرومى ، وامتلأ عبد الملك هماً وغماً وجمع علماء المسلمين وأهل الشورى الذين تم اختيارهم بالحرية الكاملة وعلى أساس الفضل والإتقان وليسوا من أصحاب العقول المثقوبة والأكف العريضة التى لا تصلح إلا للتصفيق وأصحاب البطون التى امتلأت من حرام وأكلت قوت الشعب كانوا يُختارون على أسس لذلك سعدت بهم شعوبهم ، عرض عبد الملك الأمر على العلماء وأهل الشورى فقالوا : لا تغتم يا أمير المؤمنين أعطنا شهراً واحداً وسوف نجمع العمال وأهل الاختصاص ونقيم المعامل لنصك أول دينار إسلامى ، وبالفعل شمر علماء الأمة عن ساعد الجد وبعد شهر واحد صكوا دينار إسلامى منقوش على وجهيه ( لا اله إلا الله محمد رسول الله ) .
فرح عبد الملك فرحاً شديداً واخذ الورق والقلم وكتب خطاباً لملك الروم يقول له : ( من عبد الملك ابن مروان خليفة المسلمين إلى كلب الروم سببتنا وآذيتنا وعيرتنا اذهب بدنانيرك فقد جعلنا لنا دينارا ) وضرب اقتصاده فى الصميم ، لم يبك عبد الملك ولم يرسل له من يتفاوض معه ويقول له نحن أبناء عمومة ولن نذكر اسم الله أبدا فى أوراقنا وسوف نحذف آيات القران من المقررات ولن نمسكم بما يسئ إليكم ، ولكن تمثل شخصية الرسول فى الناحية السياسية جعل الرجل فى هذه العزة والكرامة .
نجد كذلك القائد السياسى يحتاج إلى القدوة فى حياة النبى حيث القيادة العادلة للأمة والعدل أساس الملك نجد الرسول يحكم فينشر العدل بين المحكومين ، نجد الرسول يوزع الفىء على المسلمين توزيعاً عادلاً ونراه يقيم الحق والعدل على جميع الناس ولا يستثنى من كلمة الشرع أحداً ونعلم جميعاً قصة أسامة ابن زيد عندما جاء ليشفع فى المرأة المخزومية التى سرقت حتى لا يقطع رسول الله يدها لأنها من قوم شرفاء لهم وجاهة فغضب رسول الله وقال : (( أتشفع فى حد من حدود الله يا أسامة ؟ ، لقد اهلك من كان قبلكم انهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الفقير أقاموا عليه الحد ، واله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها )) .
ونجده ينادى أهله بأن يكونوا تحت لواء الإسلام عاملين فيقول : (( يا عباس يا ابن عبد المطلب يا عم رسول الله اعمل فإنى لا أغنى عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة اعملى فإن لا أغنى ……….. ، إلا أن لكم رحماً سأُجلها بجلالها )) ، قمة العدل والحرية لذلك لذا سارت الأمة تقود بهذا العدل وتأخذ الأسوة الحسنة من سيدنا رسول الله .
هذا عمر بن الخطاب يحكم حكماً عادلاً تعرفونه جميعاً ويأمر الشباب من أهل الخبرة أن يكتبوا ديوان العطاء وقال للشباب : ( اكتبوا الناس حسب منازلهم ) فبدأ الشباب بعمر وآل عمر ففرح بنو عدى قوم عمر إذ اصبحوا فى أول الديوان يأخذون الاعطيات العالية وجاء الديوان إلى الفاروق فعجب وقال : ( ما هذا ؟ أتقدمون عمر وآله على آل رسول الله ؟. والله لن يكون أبداً اكتبوا آل رسول الله أولاً ثم اكتبوا العرب حسب منازلهم ودعوا آل عمر حيث شاء الله لهم أن يكونوا ) وجاء بنو عدى يتذمرون : ( يا عمر أيقدمنا الشباب وتؤخرنا أنت ؟ ) ، فقال : ( والله الذى لا اله غيره لن أجعل ظهرى جسراً لجهنم ، ولأضعكم حيث وضعكم الله ، ووالله لأحولن بينكم وبين جهنم بعدل الله ) وسارت الأمة تحت لواء العدل حتى غير المسلمين عاشوا تحت العدل ، ها هو الفاروق والدولة الإسلامية وصلت إلى اتساع عظيم يمشى فى المدينة يعس ليلاً ويمشى فى النهار يتفقد أحوال الرعية فيرى يهودياً من أهل الكتاب وقد انحنى ظهره واشتعل رأسه شيباً ورسم البؤس فى وجهه خطوطاً طولية وعرضية وكف بصره وهو يسأل الناس إحسانا ، قال : ( يا أمير المؤمنين كف بصرى وضاعت قواى ولا أستطيع دفع الجزية ، يقول الفاروق : ( يا سبحان الله ! أكلناه فى شبابه ونضيعه فى شيبه ، انطلق إلى بيت مال المسلمين ) وأصدر الفاروق أمراً أن تُرفع الجزية عن هذا وأمثاله فى شتى أنحاء الدولة الإسلامية وأن يدبر له عطاء شهرى طالما كان حياً .
هكذا كان العدل عدل يمد بساطه على جميع أنحاء الأمة وعاشت الأمة تحت لواء هذا العدل وانتشر الخير ومُكِنَتْ الأمة فى الأرض وصدق ابن تيمية حين قال : ( إن الله ينصر الدولة العادلة وان كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة ) العدل قيمة عليا

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...