فضائل القرآن ورذائل الهجران

يقول الله تعالى:

{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (الحشر21).

 

الحديث عن القرآن الكريم ليس يحتاج إلى مناسبة معينة أو ظرفية خاصة ، لأنه الكتاب الوحيد في الوجود الذي يفرض نفسه في كل زمان ومكان وعلى كل حال . يحمل على ذلك واجب الدين والإيمان ومقتضى التعظيم لله جل وعلا بتعظيم كتابه ودوام الارتباط به تلاوة ومدارسة وتطبيقا .لكننا اليوم أحوج إلى إثارة موضوعه بالنظر إلى ما هو مشهود ومذموم في واقع المسلمين من التفريط والتقصير والهجر والخذلان في علاقتهم بالقرآن ، وذلك ما لا يليق بربانيته وقدسيته وعظيم رسالته . وقد بلغ الاستهتار به عند بعض سفهاء الأمة مبلغ الحقد والإنكار والاستهزاء ومحاربته سرا و علانية . ومنهم من يخطط لآجل إقصائه أو إضعاف أثره ومحاصرة رسالته ، وقد ورثوا حقد الأعداء قديما وحديثا على غرار قول الحاكم الفرنسي في الجزائر إبان الاستعمار( إننا لن نستطيع الانتصار على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم ، ونقتلع العربية من ألسنتهم ) .

 

وهو ما أضحى اليوم تخطيطا دوليا حاقدا لتجفيف منابع القرآن وإدانة أهل القرآن ودور تعليمه وتحفيظه، والتخويف منه والتنفير ، إلى درجة رميه بالإرهاب وكونه يصنع الإرهابيين .

 

وهي أهداف الصهيونية العالمية والصليبية المتواطئين ،بعدما رأوا انتشاره وانتصاره في الأوساط الغربية بتأثير بيانه وقوة برهانه. لكن ومع كل ذلك لا يزداد القرآن إلا ظهورا وجاذبية وإقناعا وقد أصبح به الإقبال على الإسلام أفواجا في كل بقاع العالم، وصدق قول الله فيهم{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }(الأنفال36). لهذا يدعو الواجب والضرورة في كل آن ، إلى تجديد الحديث عن القرآن العظيم وتصحيح علاقتنا به، وإحلاله من قلوبنا وعقولنا وحياتنا المقام الذي يرضي الله تعالى ويليق بكوننا مسلمين ندين له بالفضل .

 

وما دمنا نشتكي من فساد أحوالنا عقيدة وعبادة وأخلاقا ، فما من سبيل للإصلاح والعلاج إلا في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله كما هو معلوم من القرآن نفسه { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعـدي : كتاب الله وسنة رسوله )( ابن ماجه).

 

ولقد آثر الله تعالى بهذا القرآن أمة الإسلام تشريفا وتكريما ، فكان خير كتاب أنزل على خير نبي أرسل لتكون به خير أمة أخرجت للناس ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله . فهو الفرقان الفاصل بين التوحيد والشرك ، والإيمان والكفر ، والحق والباطل ،والرشاد والغي ، والطيب والخبيث ، وهو البرزخ بين صراط الله المستقيم وسبل الشيطان والغواية والضلال. بل هو الفارق بين الأحياء على الهداية والرشاد ،حياة طيبة فاضلة ، والأموات في ظلمات الغي والضلال:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (الأنعام 122).

 

هذا الكتاب الذي كان يتبعه الإيمان والعلم والنصر والتمكين والعزة للمسلمين حيثما سار بهم شرقا أو غربا ، حين كانت الأمة تهتدي بهداه وتستنير بنوره، وتحتكم إلى تعاليمه ، إيمانا به ، ورضى بشريعته ، وثقة بمقاصده، وهو الذي قال الله تعالى في شمول رسالته لكل خير: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا }(الإسراء 9) . ولا ريب ، فإنه يهدي للتي هي أقوم في كل شيء : ـ في الإيمان والتوحيد ، فيعصم من مسالك الضلال التي تاه فيها كثير من أجيال البشرية قديما وحديثا، ويهدي إلى معرفة الله تعالى وتوحيده في ربوبيته وألوهيته ،وتنزيهه عن الأنداد والشركاء .

 

ـ ويهدي للتي هي أقوم في أعمال الطاعات والقربات ، في العبادات وفعل الخيرات . ـ ويهدي للتي هي أقوم في الحياة العقلية والأخلاقية والاجتماعية والحضارية بربانية تعاليمه وقواعده الحكيمة التي أحاطت بدقائق الحياة كلها تقريرا وتنظيما وتقويما: { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } .

 

كتاب اخترق مسافات السموات العلا ليسكب نور الهداية الربانية على من اتبع رضوان الله وينقذهم من ظلمات الضلال ، باتباعه والعمل بشريعته :{ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) }(المائدة: :16:15).  يقول السيد قطب في (ظلال القرآن): ( سماه الله الفرقان لما فيه من فارق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج ، وبين عهد للبشرية وعهد . فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المتمثلة في الواقع ، منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله. ويمثل عهدا جديدا للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله. فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير. فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ عهد الرشد، وينتهي به عهد الخوارق المادية ، ويبدأ عهد المعجزات العقلية، وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة ، ويبدأ عهد الرسالة العامة الشاملة{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }.

 

هذا كتاب الله ، وهو الرسالة الأخيرة المهيمنة على كل الكتب والرسالات السماوية السابقة ، جمع الله فيه خير ما فيها من التعاليم والفضائل والأسرار إجمالا وتفصيلا، فكان عاما في رسالته للعالمين:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان 1) . يقول ابن القيم: ( أنزل الله الكتب السماوية ثم جمع معانيها في القرآن ، ثم أنزل القرآن فجمع معانيه في سورة الفاتحة ،أم الكتاب ،ثم أنزل الفاتحة فجمع معانيها في قوله تعالى :{ إياك نعبد وإياك نستعين }.

 

ولذلك فلا كتاب من السماء بعده ، كما لا نبي بعد الرسول الخاتم الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم ، لتلتقي الرسالة والرسول متكاملين متلازمين في تحقيق الأساس الإيماني والمرجعي لدين الله الذي ارتضاه لعباده المؤمنين وجعله الدين الوحيد الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (سورة آل عمران 58)    .

 

وما أكثر الآيات التي تشيد برسالة القرآن وفضائله، وما فيه من تجليات الرحمة الإلهية التي تفقهها وتنشرح لها قلوب المؤمنين وعقولهم ، فتستجيب جوارحهم لحكمة تعاليمه ، لأنهم يعلمون فضل الله عليهم بالقرآن ،وهو لهم ذكر التشريف والتكريم { إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ }(الزخرف 44). ولولاه لما كانت لهم قيمة وما كانوا من المهتدين: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) }(البقرة 1 :3).

 

ولا غرابة ، فإن هذا الكتاب هو صاحب الفضل عليها في كل ما تميزت به وامتازت ، وما حققت وأنجزت في تاريخ وجودها وسيادتها وعزتها . ومن ذلك فضل الإيمان والتوحيد والوحدة ، وفضل السيادة والتمكين والعزة ، وفضل الانتصارات التاريخية الباهرة ، وفضل العلوم والمعارف التي انطلقت بحوافز القرآن الذي يمجد العلم والعقل والبرهان ،ويحض على التأمل والتفكر والسير في الأرض سير تفكر ونظر و بحث واكتشاف واعتبار { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } (الزمر9). فانطلقت منه روافد العلوم والمعارف الإسلامية الكثيرة ، في التفسير والفقه والأصول واللغة والبيان والكلام وغيرها . وفوق ذلك له فضل وجود الأمة الإسلامية واستمرارها وامتناع اندثارها مهما بلغت بها أحوال الضعف والاضطراب ، لكونها خالدة بخلود القرآن المحفوظ بعناية الله .

 

وتبعا لخصال القرآن وفضائله ووظائف رسالته ، تعددت أسماؤه ونعوته التي نطق بها القرآن نفسه ،فطائفة منها متعلقة بماهيته وحقيقته وهي : القرآن والفرقان والكتاب والروح والكلام والتنزيل والوحي والقول والأمر. وطائفة أخرى تجليات لصفاته ووظائفه، ومنها : الذكر والهدى والنور والرحمة والموعظة والشفاء والبيان: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (يونس 57).

 

إن الله تعالى الذي أنزل هذا الكتاب الحكيم وارتضاه للناس إماما ومنهلا للرشد والصلاح والتمكين، أوجب على المؤمنين جملة من الالتزامات والشروط والضوابط في علاقتهم بكتابه، تحقيقا لما يليق بربانيته وقدسيته وجلاله من التعظيم والتوقير والامتثال، من حيث الاعتقاد والعبادة والعمل :

 

ـ ففي الجانب الاعتقادي ، يجب الإيمان بأن القرآن كلام الله الذي نزل به الروح الأمين جبريل على قلب رسول الله محمد بن عبد الله ، بألفاظه العربية ومعانيه الحقة ، ليكون حجة وبرهانا للنبي على أنه رسول الله ، ويكون دستور شريعة الله  للاهتداء بهداه والتعبد بتلاوته. وهو المنقول إلينا بالتواتر محفوظا في المصحف وفي الصدور ، لا يناله تحريف ولا تبديل ولا تغيير ،لأن الله تولاه بعنايته خلافا للكتب السابقة التي وكلت مسؤولية حفظها لأقوامها ،يقول الله تعالى :{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر 9).{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (فصلت 40).فهو محفوظ  في الصدور بتواتر روايته جيلا عن جيل إلى قيام الساعة ، ومحفوظ  في السطور بالمصاحف التي ملأت الدنيا شرقا وغربا ، ومحفوظ بكونه منهج حياة المسلمين في كل مكان وزمان .

 

ـ  والإيمان بكونه معجزة الإسلام الكبرى ، حجة وبرهانا،يتميز ويمتاز بالفرادة والخلود دون سائر المعجزات، تحدَّى الله به الإنس والجن أن يأتوا بمثله:والتحدي تحريض على المبارزة { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالـْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}(الإسراء 88،) ، أو بعشر سور مثله:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (سورة هود: 13 ). بل تحدّاهم حتى بسورة واحدة وحكم عليهم بالعجز المطلق فقال سبحانه: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }(البقرة23 ـ24).

 

ـ والإيمان بكونه وحيا متصفا بمطلق الكمال والجمال ، مضمونا وشكلا { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ٍ } (هود 1). وأنه الدستور الرباني الكامل الشامل لكل قواعد الصلاح والفوز والفلاح ،بما يضم من ينابيع الخير العاجلة والآجلة في كل شيء من تعاليمه وتعابيره ، وقد جعله الله تعالى محيطا بجميع الرسالات السماوية ومهيمنا عليها ، شاملا لجميع دقائق الحياة وسننها  ومقتضياتها من القواعد الحكيمة والمبادئ السامية ، في العقائد والأحكام والأخلاق والمعاملات. دستور سماوي لا نقص فيه ولا خلل: فالعقائد فيه صافية والعبادات خالصة، والأحكام عادلة، والآداب قويمة، والأخلاق مستقيمة. وهو بذلك المصدر الأول للتشريع الإسلامي الذي ارتضاه الله للناس ، وفق الغاية التي خلقهم لأجلها . فمن آمن به واستجاب مهتديا بهداه ، فهو على نور من ربه في أداء أمانة الاستخلاف في الأرض . ومن تنكر لأحكامه فهو على الكفر والفسق والظلم وكفى بذلك ضلالا وخسرانا{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (المائدة 48).

 

ـ والإيمان برسالة تبليغه من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تلقاه وحيا وجسده بيانا وتطبيقا { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } (المائدة 67). وفي ذلك حكمة التلازم بين القرآن والسنة النبوية ، بصورة لا تقبل الانفصال ، إذ لابد من دور التبيان والتطبيق العملي الذي يجعل الوحي الإلهي سلوكا واقعيا حيا: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }(النحل 44) . ولذلك لما سئلت عائشة (رضي الله عنها) عن خلق النبي أجابت بكلام وجيز بليغ يلخص مهمة التبليغ للقرآن والتحلي به إيمانا وعملا: ( كان خلقه القرآن ) .من أجل ذلك أيضا نزل منجما مفرقا حسب الوقائع والأحداث ليواكب بتشريعاته وأحكامه سيرورة الحياة  ومتطلباتها ، وليجده الناس معهم في كل أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم ، ينظم حياتهم ويمدهم بالتعليمات والتوجيهات والقواعد الربانية الحكيمة التي يعملون بها على بينة وبصيرة ،اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويلمسون آثارها الفعالة بالخير في حياتهم في كل حين .

 

ـ وفي الجانب التعبدي ، يتعلق الأمر بتلاوته وقراءته في الذكر و الصلوات ، وهو الكتاب الوحيد الذي يحمل هذه الخاصية ، لكونه كلام الله جل وعلا لا يزداد قارئه إلا تعلقا به والتذاذا . وفي قراءاته أنواع كلها فاضلة مرغوبة ومأجورة : منها القراءة التعلمية، للحفظ أو التجويد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: ( يا أبا ذر ، لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة )(ابن ماجة).وقوله { خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) (البخاري). ومنها القراءة التدبرية طلبا لمعانيه وحكمه وأسراره، والله تعالى يقول { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }(محمد24).ومنها القراءة التعبدية طلبا لثواب قراءته في الصلاة والدعاء والذكر: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }.

 

مظاهر الهجران للقرآن : منذ نزول القرآن نبه كتاب الله على لسان النبي إلى آفة الهجر التي تصرف الناس عنه كليا أو جزئيا :{ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا } (الفرقان 30). واليوم يعيش كتاب الله بين أهله من المسلمين كل صور الهجر بسبب سيادة الجهل والغفلة وعبادة الدنيا ومتاعها وفتنة المقروءات والمسموعات اللاهية ،وإقبال الناس على القنوات والصحف والمجلات والبرامج والمسلسلات ومختلف الأغاني والملهيات، وقد لا تجد لكتاب الله لدى بعضهم نصيبا ، ولا تعظيما ولا توقيرا ، ولا لسماع بيانه تأثرا وانفعالا .

 

وأضحى أهل الهجران على ثلاثة أصناف :

ـ صنف القارئين للقرآن بغير وعي ولا خشوع ولا تدبر ولا تعظيم ، قد يحرصون على تلاوة بعض سوره أو آياته ضمن أورادهم في أوقات معلومة،طلبا لآجر تلاوته، ولكنهم لا تعنيهم معانيه ولا مقاصده . ومنهم كثير من حملة القرآن حفظا بغير تفقه فيه ولا تحل بأخلاقه. حالهم مثل الحاملين للتوراة من بني إسرائيل { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } (الجمعة 5). ـ وصنف الغافلين المقصرين الذين يهجرون تلاوته وأحكامه وأخلاقه وفضائله ،حتى صدئت قلوبهم بالبعد عنه . وفي الأثر: ( إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد ، قالوا فما جلاؤها ؟ قال : قراءة القرآن وذكر الموت ).

 

ـ وصنف المعرضين الذين ختم الله على قلوبهم  فلا يفقهون ولا يستجيبون ، وقد كانوا قديما من المشركين والمنافقين ، وأصبحوا اليوم محسوبين على الإسلام وهو منهم بريء ،فتنوا بالفلسفات الغربية و مذاهبها الفكرية الإلحادية ، فلا يعترفون للقرآن بربانيته ، ولا يرضون بأحكامه و تعاليمه ،بل يحاربونه ويعملون على إقصائه من حياة المسلمين ، ولهم في القرآن حقيقتهم ومصيرهم :{ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) } (الجاثية 7ـ 8).

 

وأما أهل الإيمان الحق والتعظيم لكتاب الله ،فهم يجلونه ويوقرونه ويتلونه حق تلاوته ويعملون به كما أمروا ، يرجون تجارة مع الله رابحة في طريق الرضا والرضوان :{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } (فاطر 29ـ30) بل هم المؤمنون حق الإيمان : { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (البقرة 121). وفي معاني هذه الآية يقول ابن مسعود : ( إن حق تلاوته  أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويقرآه كما أنزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله) .

 

ولقد كثرت وتفاقمت في حياتنا اليومية مظاهر سلوكية تنافي تعظيم القرآن وتوقيره ، وتمادى الناس فيها بالغفلة والتقليد وهم لا يشعرون أو لا يكترثون ، وقد يوجد منهم من يبررها وتأخذه العزة بالإثم عند تنبيهه أو نصحه فيها . ومن ذلك الاسترزاق بتلاوته في الأسواق والطرقات والأضرحة والمقابر ،وعدم تعظيم المصحف في التعامل معه فإذا هو مهمل لا يقرأ ، أو مطروح على الأرض أو موضوع تحت الكتب في الرفوف أو ملقى بين البضائع في الأسواق . ومن ذلك عدم الاستماع له والإنصات إليه عند تلاوته ، وقد ينشغل بعضهم عنه بالأحاديث و الأشغال وكأنه وسيلة ترفيه وتزجية أوقات . ومن ذلك استخفاف بعض الناس به وهم يفتتحون به المقاهي والملاهي والبرامج الإذاعية ، ثم يتبعون تلاوته بكل منكر من القول وزورا ويحسبون ذلك تبركا ، ومنهم من اتخذ آياته لوحات للزينة ولا تعنيه تلاوته ولا العمل به. وفي مظاهر الهجر يقول ابن تيمية : ( من لم يقرأ القرآن فقد هجره ، ومن قرأ القرآن ولم يتدبر معانيه فقد هجره ، ومن قرأه وتدبره ولم يعمل به فقد هجره ).

 

وقال القاضي عياض في (التبيان في آداب حملة القرآن) ( اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منهما أو سبهما ، أو جحد حرفا منه أو كذب بشيء مما صرح به من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه ، أو نفي ما أثبته ، وهو عالم بذلك ، فهو كافر بإجماع المسلمين .. أما من لعن المصحف فإنه يقتل ).

جعلني الله وإياكم من أهل القرآن الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه

 

الخطبة الثانية

عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ ، قَالَ : \”ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، وَذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ , قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا ، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : \” يا ابْنَ لَبِيدٍ ، إنْ كُنْتُ أَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ ، أَوَ لَيْسَت هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بين أيديهم التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ لا يَنتفعونَ مِنهما بشيء \” . (أحمد والترمذي وابن ماجه).

 

إن هذه الأمة التي وجدت في أصولها بالقرآن ، وبه كانت تنمو وتسمو وتعز وتسود لتعتلي مقامات التمكين والعزة والشرف ، هي الأمة نفسها التي يتوقف وجودها وبقاؤها ، في كل زمان ومكان على هذا القرآن ومنهاج فهمه وتطبيقه في السنة النبوية . ومهما جربت دساتير ومناهج بديلة فما ينفعها بشيء غير دستور القرآن ومنهجه الذي اصطبغت بصبغته الربانية الخالدة. ولهذا يحذِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفريط في كتاب الله تعالى بهجره وتعطيله وعدم الانتفاع منه بشيء ، كما هو صنيع اليهود والنصارى مع كتبهم.

 

وحين يقول عليه الصلاة والسلام ( إن الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع به آخرين ) (سنن الدارمي) ، فإنه يقرر الحقيقة الثابتة في علاقة المسلمين بالقرآن . فمتى أقبلوا عليه وتمسكوا به وعملوا بشريعته ، رفع الله قدرهم وسما بهم في مدارج الرقي دينا ودنيا ، وكانوا به أعزة فاضلين . وعلى العكس من ذلك تكون أحوالهم الدينية والدنيوية من التردي والفساد والاضطراب والهوان بقدر بعدهم عن كتاب الله الذي لا حياة لهم ولا سعادة إلا به. وقال الإمام مالك رحمه الله: ( لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ). فالذي صلح به أول هذه الأمة حتى أصبح سلفاً صالحاً هو هذا القرآن الذي وصفه منزِّلُه بأنه إمام و موعظة و نور، وأنه بينات و برهان و بيان ، وأنه هدى و فرقان و رحمة و شفاء لما في الصدور، وأنه يهدي للتي هي أقوم فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه قول فصل وما هو بالهزل.

ووصفه من أنزل على قلبه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يخلق جديده ولا يبلى على الترداد، ولا تنقضي عجائبه ،وبأن فيه نبأ من قبلنا، وحكم ما بعدنا، ثم هو بعد حجة لنا أو علينا.

 

فلنعمل على إحياء القرآن العظيم في قلوبنا محبة وتعظيما وتوقيرا، وفي عقولنا تدبرا وتفقها وتنويرا، وفي حياتنا إماما ومرجعا ومنهاجا قويما . وفي ذلك صبغة الله التي نتميز بها ونمتاز بين الأمم : { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } (البقرة138).

 

فاللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا وعمومنا وأحزاننا.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...