كَيْفَ نَسْتَعِينُ بِالصَّبْرِ وَنَدْفَعُ الْجَزَعَ؟

(1) الحمدُ لله، والصَّلَاةُ والسَّلَامُ علَى رَسُولِ اللهِ، وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ ومَنْ والَاه، واهْتَدَى بِهُدَاه.

وبعد؛ فمِنْ حُسْنِ التَّوْفِيقِ وَأَمَارَاتِ السَّعَادَةِ: الصَّبْرُ عَلَى الْمُلِمَّاتِ حتَّى تَنْجَليَ، والثباتُ للشَّدائِدِ حتى تَزُولَ، والصُّمُودُ لِلْمِحَنِ حتَّى يَصْرِفَها اللهُ، وقد نَزَلَ الْكِتَابُ الكَرِيمُ بِتَأْكِيدِ الصَّبْرِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَدَبَ إلَيْهِ، وَجَعَلَهُ مِنْ عَزَائِمِ التَّقْوَى فِيمَا افْتَرَضَهُ اللهُ وَحَثَّ عَلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة 155-157) وأَمَرنَا اللهُ سُبْحَانَه أنْ نَسْتَعِينَ بالصَّبْرِ والصَّلاةِ على مُواجَهةِ النَّوازِلِ والأَحْدَاث وعَلى النُّهُوضِ بِمُهِمَّاتِ الأُمُور، فقَالَ سُبْحَانَه ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة 45)

، وقَالَ سُبْحَانَه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة 153)، ولَمَّا تَوَعَّدَ فرْعَونُ مُوسى عليه السلامُ ومَنْ مَعَهُ بالقَهْر والقَتْل والتعذيبِ كانَ أوَّلُ دَرْسٍ تَرْبَوِيٍّ يُوَجِّهُه موسى عليه السلامُ لقَومِه لِيُعِدَّهُم لِخَوْضِ مَعْركةِ النَّصْرِ هو الاستعانَةُ باللهِ وبالصَّبْر ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف 128) قال الشَّيْخُ الإمامُ مُحَمَّد عَبْدُه: «وَالْمَعْنَى: اسْتَعِينُوا عَلَى إِقَامَةِ دِينِكُمْ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ وَعَلَى سَائِرِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ مِنْ مَصَائِبِ الْحَيَاةِ بِالصَّبْرِ، وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ، وَبِالصَّلَاةِ الَّتِي تَكْبُرُ بِهَا الثِّقَةُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَصْغُرُ بِمُنَاجَاتِهِ فِيهَا كُلُّ الْمَشَاقِّ». وَقد وَعَدَ الله الصابرين بِمَعُونَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ، فقال ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وَلَمْ يَقُلْ «مَعَكُمْ»؛ لِيُفِيدَ أَنَّ مَعُونَتَهُ سُبْحَانَه إِنَّمَا تَمُدُّهُمْ إِذَا صَارَ الصَّبْرُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ، وَمَنْ كَانَ اللهُ مُعِينَهُ وَنَاصِرَهُ فَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ فَلَيْسَ اللهُ مَعَهُ; لِأَنَّهُ تَنَكَّبَ سُنَّتَهُ، وَلَنْ يَسْتَطيعَ بِنَفْسِه أن يَثْبُتَ فَيَبْلُغَ غَايَتَهُ ويُحَقِّقَ أَمَلَه. وأَكَّدَ القُرآنُ العَظِيمُ أنَّ المسلِمَ إذَا اسْتَمْسَك بالصَّبْرِ والتَّقْوَى لَمْ يَسْتَطِعْ أعداؤُه وخُصُومُهُ أنْ ينَالُوا مِنه، فقال تَعَالى ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (آل عمران 120) وَقَدْ ذُكِرَ الصَّبْرُ فِي الْقُرْآنِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَلَمْ تُذْكَرْ فَضِيلَةٌ أُخْرَى فِيهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، كما وَرَدَتْ فَضِيلةُ الصَّبْرِ في عَشَراتِ بلْ مِئَاتِ الأَحادِيثِ النَّبَويَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ، وَقَدْ جُعِلَ التَّوَاصِي بِهِ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ مَقْرُونًا بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ; إِذْ لَا بُدَّ لِلدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ. وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ: مَلَكَةُ الثَّبَاتِ وَالاحْتِمَالِ الَّتِي تُهَوِّنُ عَلَى صَاحِبِهَا كُلَّ مَا يُلَاقِيهِ فِي سَبِيلِ تَأْيِيدِ الْحَقِّ وَنَصْرِ الْفَضِيلَةِ، وليسَ مُجَرَّدَ الاحتِمَالِ المادِّيِّ لبعْضِ الأُمورِ الشَّاقَّة، قَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ فِي كِتَابِ الْيَتِيمَةِ: «الصَّبْرُ صَبْرَانِ: فَاللِّئَامُ أَصْبَرُ أَجْسَامًا، وَالْكِرَامُ أَصْبَرُ نُفُوسًا.

وَلَيْسَ الصَّبْرُ الْمَمْدُوحُ صَاحِبُهُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَوِيَّ الْجَسَدِ عَلَى الْكَدِّ وَالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ، وَلَكِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّفْسِ غَلُوبًا، وَلِلْأُمُورِ مُتَحَمِّلًا، وَلِجَأْشِهِ عِنْدَ الْحِفَاظِ مُرْتَبِطًا». وفضيلةُ الصبرُ بذلك أَمُّ الْفَضَائِلِ، الَّتِي تُرَبِّي مَلَكَاتِ الْخَيْرِ فِي النَّفْسِ، فَمَا مِنْ فَضِيلَةٍ إِلَّا وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِمْرَارَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ النَّجَاحِ.

ولهذا حَرَصَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ على تَرْبِيَةِ الأُمَّةِ على الصَّبْر، ودَعَا المسلِمَ إلى تَدْرِيبِ نَفْسِه عَلَيْه، حتى وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُتَكَلِّفًا، ويَكُونُ ذلك بِتَعْوِيدِ النَّفْسِ احْتِمَالَ الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ فِي سَبِيلِ نُصْرَةِ الْحَقِّ والدِّفَاعِ عنه، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ».

فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ احْتِمَالَ الْمَكَارِهِ، وَيُحَاوِلَ تَحْصِيلَ مَلَكَةِ الصَّبْرِ عِنْدَمَا تَعْرِضُ لَهُ أَسْبَابُهُ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ كَبِيرٌ، إِلَّا مَا كَانَ مُرْضِيًا لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَادِثِ، وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْكَوَارِثِ.

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لَا تَكْبُو، وَالْقَنَاعَةُ سَيْفٌ لَا يَنْبُو». وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «أَفْضَلُ الْعُدَّةِ الصَّبْرُ عَلَى الشِّدَّةِ». وأخرج مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ». يَعْنِي – وَاَللَّهُ أَعْلَمُ – أَنَّهُ يَكْشِفُ ظُلْمَةَ الْحَيْرَةِ، وَيُوَضِّحُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ. إنَّ الْأُمُورَ إذَا سُدَّتْ مَطَالِبُهَا فَالصَّبْرُ يَفْتَقُ مِنْهَا كُلَّ مَا ارْتَتَجَا لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ طَالَتْ مُطَالَبَةٌ إذَا اسْتَعَنْتَ بِصَبْرٍ أَنْ تَرَى فَرَجَا أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلْأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا ومِنْ أهَمِّ أنْوَاعِ الصَّبْر: الصَّبْرُ عَلَى مَا نَزَلَ مِنْ مَكْرُوهٍ، أَوْ حَلَّ مِنْ أَمْرٍ مَخُوفٍ، أو فِتْنَةٍ للْمُؤْمِنينَ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ غَشُومٍ جَائِرٍ، مثلَما هُو الحاصِلُ مِنَ الانقِلابِيِّينَ ضدَّ أصْحَابِ الشَّرْعيَّة، فَبِحُسْن الصَّبْرِ عَلَى ظُلْمِهِمْ تَنْفَتِحُ وُجُوهُ الْآرَاءِ، وَتُسْتَدْفَعُ مَكَائِدُ الانقِلابِيِّينَ، فَإِنَّ مَنْ قَلَّ صَبْرُهُ عَزَبَ رَأْيُهُ، وَاشْتَدَّ جَزَعُهُ، فَصَارَ صَرِيعَ هُمُومِهِ، وَفَرِيسَةَ غُمُومِهِ، وحَبِيسَ يَأْسِهِ وإِحْباطِهِ، وذَلكَ أَقْصَى مَا يَتَمنَّاهُ الانْقِلابِيُّون. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17] .

(2) الأَسْبَابُ الَّتِي تُعِينُ علَى الصَّبْر: لِكَيْ يُوَاجِهَ أصْحابُ الشَّرْعِيَّةِ هذه الشَّدائدَ بالصَّبْرِ الَّذي تَنْحَلُّ به عُقَدُها، ويَزُولُ به كَرْبُها؛ فإنَّهُم في حاجةٍ إلى أنْ يَكْتَسِبُوا الأسبَابَ التي تُعِينُهُم عَلَى ذَلِكَ، وهو ما أَرَدْتُ الإشارةَ إليهِ في هَذَا الْمَقَال، تَبْصِرَةً لِنَفْسِي، وتَذْكِيرًا لِإِخْواني وَأَخَوَاتي لِلاستِفَادَةِ مِنْ هذهِ الشِّدَّةِ (الَّتِي لا رَيْبَ في زوَالِها قَرِيبًا إنْ شاءَ الله) فِي التَّدَرُّبِ علَى الصَّبْرِ والتَّصَدِّي للبَاطِلِ والفَسَاد، والنُّهُوضِ بِمُهِمَّةِ حَمْل رِسَالةِ الحقِّ إلَى الْخَلْقِ، وقَدْ ذكَرَ أهلُ العلمِ الأَسْبَابَ التي تُعِينُ على الصبْر، وهاك بعضا منها:

1 – فَمِنْهَا أن يعلَمَ الْعَبْدُ أَنَّهُ وَمَا يَمْلِكُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً، وأنَّ ما أَصَابَه إِنَّمَا هُو بِمَا كَسَبَتْ يَدَاه، وأنَّ الخِيَرَةَ في قَضَاءِ اللهِ ربِّ العَالَمِين: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة 216).

ومِنْ آثارِ ذلكَ: أنْ يرْضَى بقَضَاءِ ربِّهِ فلَا يَجْزَعُ ولَا يسْخَطُ، وإنَّما يَتَعَامَلُ معَ البَلَاءِ النَّازِلِ وفْقَ ما أمَرَ اللهُ سُبْحَانَه من الصَّبْر، والسَّعْيِ والاجْتِهَادِ في إِزَالَتِهِ بالأَسْبَابِ، وبالدُّعَاءِ والاسْتِغْفارِ والاستِعَانةِ باللهِ تَعَالى، حتَّى يُيَسِّرَ اللهُ له تحقيقَ المأْمُولِ مِنْ رَفْعِ البَلَاء. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30] .

وَقِيلَ لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ: مَا بَالُ الْعُقَلَاءِ أَزَالُوا اللَّوْمَ عَمَّنْ أَسَاءَهُمْ! قَالَ: «إنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ابْتَلَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ». وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَلِابْنِ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».

وَلِأَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ، لَيْسَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا». وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ﴾ [النجم: 32] قال: إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا … وَأَيُّ عَبْدٍ لَك إلَّا أَلَمَّا. وذَكَرَ اللهُ الرَّبَّانِيِّينَ فَوَصفَهُم بأنَّهُم حينَ تَنْزِلُ بِهم الشَّدَائِدُ على يدِ الأَعْداءِ يَتَذَرَّعُون بالصَّبْرِ ويَلْجَؤُون إلى الاستِغْفارِ، فيَتَنَزَّلُ علَيْهم النَّصْرُ، فقَالَ سبْحَانه ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران 146-148).

2 – وَمِنْهَا إشْعَارُ النَّفْسِ بِمَا تَعْلَمُهُ مِنْ نُزُولِ الْفَنَاءِ وانْقِضَاءِ الدُّنْيَا بأَفْرَاحِها وأَحْزَانِها، وكَمَا أَنَّ النِّعَمَ زَائِرَةٌ، وَأَنَّهَا لَا مَحَالَةَ زَائِلَةٌ، وَأَنَّ السُّرُورَ بِهَا إذَا أَقْبَلَتْ مَشُوبٌ بِالْحَذَرِ مِنْ فِرَاقِهَا إذَا أَدْبَرَتْ؛ فكَذَلكَ انْجِلَاءُ الشَّدَائِدِ وَانْكِشَافُ الْهُمُومِ أَمْرٌ مَحْتُومٌ، وَأَنَّهَا تُقَدَّرُ بِأَوْقَاتٍ لَا تَنْصَرِمُ قَبْلَهَا، وَلَا تَسْتَدِيمُ بَعْدَهَا، فَلَا تَقْصُرُ مُدَّةُ الْمِحَنِة بِجَزَعٍ، وَلَا تَطُولُ بِصَبْرٍ، وَأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَمُرُّ بِهَا يَذْهَبُ مِنْهَا بِشَطْرٍ، وَيَأْخُذُ مِنْهَا بِنَصِيبٍ، حَتَّى تَنْجَلِيَ بإِذْنِ اللهِ وَهُوَ عَنْهَا غَافِلٌ.

وَأَنْشَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَبَّك لَيْسَ تُحْصَى أَيَادِيهِ الْحَدِيثَةُ وَالْقَدِيمَهْ تَسَلَّ عَنْ الْهُمُومِ فَلَيْسَ شَيْءٌ يَقُومُ وَلَا هُمُومُكَ بِالْمُقِيمَهْ لَعَلَّ اللَّهَ يَنْظُرُ بَعْدَ هَذَا إلَيْك بِنَظْرَةٍ مِنْهُ رَحِيمَهْ وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَبَسَ رَجُلًا ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ بَعْدَ زَمَانٍ، فَقَالَ المحبُوسُ لِلْمُتَوَكِّلِ بِهِ: «قُلْ لَهُ: كُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي مِنْ نِعَمِهِ يَمْضِي مِنْ بُؤْسِي مِثْلُهُ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، وَالْحُكْمُ لِلَّهِ تَعَالَى». وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: «مَنْ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ نَائِبَةٍ إلَى انْقِضَاءٍ حَسُنَ عَزَاؤُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ».

وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إلَّا كَمَثَلِ رَاكِبٍ مَالَ إلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» . أَتَحْسَبُ أَنَّ الْبُؤْسَ لِلْحُرِّ دَائِمٌ وَلَوْ دَامَ شَيْءٌ عَدَّهُ النَّاسُ فِي الْعَجَبْ وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ الدُّنْيَا فَقَالَ: «تَغُـرُّ، وَتَضُـرُّ، وَتَمُـرُّ». إنَّمَا الدُّنْيَا هِبَاتٌ وَعَوَارٍ مُسْتَرَدَّهْ شِدَّةٌ بَعْدَ رَخَاءٍ وَرَخَاءٌ بَعْدَ شِدَّهْ

3 – وَمِنْهَا أنْ يُؤْمِنَ بالقَدَرِ إِيمانًا جَازمًا ويعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، كما قَالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما قال الله تعالى ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (الحديد 23)، ومن ثَمَّ لا يُضَيِّعُ وَقْتَه في اللَّوْمِ والتَّأْنيبِ والتَّسَخُّط، ولا يَقُولُ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَان كَذَا وكذَا، وإنَّمَا يَجْتَهِدُ في إِزَالَةِ أَسْبابِ المحنَة، والتَّعَاوُنِ معَ كُلِّ الْمُخْلِصيَن للخُرُوجِ مِنْها، ويُلِحُّ في الدُّعَاءِ للهِ برَفْعِها.

4 – وَمِنْهَا أن يعلَمَ أنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ جَعَلَ مُصِيبَتَهُ أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ، وأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِيمَا وُقِيَ مِنْ الرَّزَايَا، وَكُفِيَ مِنْ الْحَوَادِثِ، مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رَزِيَّتِهِ وَأَشَدُّ مِنْ حَادِثَتِهِ؛ وَإِنَّهُ إنْ صَبَرَ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مما فَاتَه، ورَزَقَه النَّجَاةَ مما نَزَل بِه. وقد قيل: «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ كُلِّ مِحْنَةٍ مِنْحَةٌ». وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: لَا تَكْرَهْ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ حَوْلِهِ إنَّ الْعَوَاقِبَ لَمْ تَزَلْ مُتَبَايِنَهْ كَمْ نِعْمَةٍ لَا تَسْتَقِلُّ بِشُكْرِهَا لِلَّهِ فِي طَيِّ الْمَكَارِهِ كَامِنَهْ وَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ فِي نَائِبَةٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: «بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ: خَيْرٌ مَنْشُورٌ، وَشَرٌّ مَسْتُورٌ».

5- وَمِنْهَا أن يعلَمَ أنَّ الْمُصِيبَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهِ، فَيَتَأَسَّى بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ، ويَتَأَسَّى بِذَوِي الْغِيَرِ، وَيَتَسَلَّى بِأُولِي الْعِبَرِ. وما دَامَ لَيْسَ وحيدًا فيمَا ابْتُلِي بِه، فإنَّ النَّفْسَ يَقِلُّ جَزَعُها، ويَزِيدُ صَبْرُها، ويَعْظُمُ أمَلُها في الفَرَجِ، خُصوصًا إذَا رَأَى مَوَاقِفَ أَهْلِ الصَّبْرِ علَى البَلَاءِ ومَا آلَتْ إِلَيْهِ عَوَاقِبُ أمُورِهِم مِنَ الخَيْر والظَّفَرِ بالآمَال. فالتفِتْ يَمْنَةً والتفتْ يَسْرَةً، وقَلِّبْ صَفَحَاتِ التَّارِيخِ القَديمِ والحدِيثِ، هَلْ تَرَى إلا مُصَاباً أو مُمْتَحَناً؟ وأَكْثَرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفَضْل، وأَكْثَرُهُمْ كانَتْ عاقِبَةُ أمْرِهِ فَرَجًا ويُسْرًا. وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ الْعَجَائِبَ مِنْ تَغَيُّرِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ. وتَأَمَّلْ قولَ الخنْساءِ في رِثَاءِ أَخِيها صَخْرٍ، وكَيْفَ عَزَّتْ نَفْسَها بالنَّظَرِ إلى ما أصَابَ غيْرَها: ولَوْلا كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي عَلَى إِخْوَانِهمْ لَقَتَلْتُ نفْسِي

6 – وَمِنْهَا أنْ يعلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّ الْمُصِيبَةَ، وَأنَّهُ يَسُرُّ شَانِئَهُ وَيُسِيءُ مُحِبَّهُ، وَأنَّ فَوَاتَ ثَوَابِهَا بِالْجَزَعِ أَعْظَمُ مِنْهَا، وأنَّه لَا حِيلَةَ مع القَدَرِ إلا التَّجَلُّدُ والصَّبْر، وانْتِظَارُ الفَرَج، واكْتِسَابُ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مَا أَمْكَن، كما قال الشاعر: وتَجَلُّدِي للشَّامِتِينَ أُرِيهُمُو أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ

7 – وَمِنْهَا أن يعلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ حَظَّهُ مِنْ الْمِحْنَةِ مَا يُحْدِثُهُ في التَّعَامُلِ مَعَها مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَمَا جرَى بهِ القَضاءُ حاصِلٌ لا مَحَالَةَ، وإنَّما البَاقي مِنْه رِضَا العَبْدِ أَوْ سَخَطِه، فبالرِّضا يَلْقَى الرَّوْحَ والرَّحْمَةَ والسَّكينةَ وعَظيمَ الأَجْر، وبالسَّخَطِ يَلْقَى الْهَمِّ والغَمِّ ويَحْملُ الوْزْر، فقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ».

8 – وَمِنْهَا أن يعلَمَ أنها ليستْ في ديِنِه، وإنَّما في دُنْياهُ، وأَنَّ آخِرَ أَمْرِهِ الصَّبْر، وَهُوَ مُثَابٌ، وثَوابُهُ لا حُدُودَ له، قال تعالى ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر 10). ولَا سَبِيلَ لِدُخُولِ الجنَّةِ إلَّا بالنَّجَاحِ في اخْتِبَارِ الصَّبْر، قَالَ تَعَالى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران 142)

9 – وَمِنْهَا أن يعلَمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؛ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ، وَيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ، وَيُخَوِّفَهُ، وأنَّ العُبُوديَّةَ في التَّسْليمِ عِنْدَ المكَارِهِ أعْظَمُ مِنْها في المحابِّ. وَقد رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِيبُ مِنْهُ» . وقد قَالَ أحدُ المرَبِّين لأحدِ تلامِيذِه: «يَا بُنَيَّ، الْمُصِيبَةُ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك، يَا بُنَيَّ الْقَدَرُ سَبُعٌ، وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ» فالابتِلَاءُ يَنجَحُ فيه أصحَابُ القُلُوبِ الحيَّة، وَالْمُصِيبَةُ كِيرُ الْعَبْدِ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ ذَهَبًا أَوْ خَبَثًا، كَمَا قِيلَ: سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ

10 – وَمِنْهَا أن يعلَمَ أَنَّهُ لَوْلَا الابْتِلَاءَاتُ لَبَطَرَ الْعَبْدُ وَبَغَى وَطَغَى، فَيَحْمِيهِ اللهُ بِهَا مِنْ ذَلِكَ، وَيُطَهِّرُهُ مِمَّا فِيهِ، فَسُبْحَانَ مِنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ، وقد قيل: قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ

11 – وَمِنْهَا: مَا يَسْتَفِيدُهُ مِنَ العِلْمِ والخِبْرَةِ والحِكْمَة بِنَوَائِبِ عَصْرِهِ، وَمِنْ الْحُنْكَةِ بِبَلَاءِ دَهْرِهِ، فَيَصْلُبُ عُودُهُ، وَيَسْتَقِيمُ عَمُودُهُ، وَيَكْمُلُ بِمُعَايَشَةِ حَالَتَيْ شِدَّتِهِ وَرَخَائِهِ، وَيَتَّعِظُ بِحَالَتَيْ عَفْوِهِ وَبَلَائِهِ، وَيَتَنَبَّهُ عَلَى صَلَاحِ شَأْنِهِ، فَلَا يَغْتَرُّ بِرَخَاءٍ، وَلَا يَطْمَعُ فِي اسْتِوَاءٍ، وَلَا يُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا عَلَى حَالَةٍ، أَوْ تَخْلُو مِنْ تَقَلُّبٍ وَاسْتِحَالَةٍ. وقد قيل: «لَا حَكِيمَ إلَّا ذُو تَجْرِبَة»، وقال أحد الأدباء: نَوَائِبُ الدَّهْرِ أَدَّبَتْنِي وَإِنَّمَا يُوعَظُ الْأَدِيبُ قَدْ ذُقْتُ حُلْوًا وَذُقْتُ مُرًّا كَذَاك عَيْشُ الْفَتَى ضُرُوبُ لَمْ يَمْضِ بُؤْسٌ وَلَا نَعِيمٌ إلَّا وَلِيَ فِيهِمَا نَصِيبُ كَذَاكَ مَنْ صَاحَبَ اللَّيَالِي تَغْدُوهُ مِنْ دَرِّهَا الْخُطُوبُ

12 – وَمِنْهَا أن يعلَمَ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وقد قال صَلَّى اللهُ علَيْه وسَلَّم: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» وَقَالَ: «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»

13- وَمِنْهَا أن يعلَمَ أَنَّهُ يُحِبُّ رَبَّهُ وهَذَا يُوجِبُ ثِقَتَه بِمَوْلَاه، وَأَنَّهُ إنْ أَسْخَطَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي مَحَبَّتِهِ، وَإِنْ يَئِسَ فقَدْ برْهَنَ عَلَى ضَعْفِ يَقِينِهِ ونَقْصِ إِيمانِه، وكَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ: «أَحَبُّهُ إلَيَّ أَحَبُّهُ إلَيْهِ»، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إنَّ اللَّهَ إذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبَّ أَنْ يُرْضَى بِهِ». وللهِ دَرُّ القَائِل: إذَا بُلِيتَ فَثِقْ بِاَللَّهِ وَارْضَ بِهِ إنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللَّهُ إذَا قَضَى اللَّهُ فَاسْتَسْلِمْ لِقُدْرَتِهِ مَا لِامْرِئٍ حِيلَةٌ فِيمَا قَضَى اللَّهُ الْيَأْسُ يَقْطَعُ أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ لَا تَيْأَسَنَّ فَإِنَّ الصَّانِعَ اللَّهُ

14- وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الطَوَارِقَ الَّتِي تَنْزِلُ بالْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ دَلَائِلِ فَضْلِهِ، وَالمِحَنَ الَّتِي تُصِيبُه هِيَ مِنْ شَوَاهِدِ نُبْلِهِ. وَلِذَلِكَ إحْدَى عِلَّتَيْنِ: إمَّا؛ لِأَنَّ الْكَمَالَ مُعْوِزٌ وَالنَّقْصُ لَازِمٌ، فَإِذَا تَوَاتَرَ الْفَضْلُ عَلَيْهِ في شيء صَارَ النَّقْصُ فِيمَا سِوَاهُ، فَمَنْ رُزِقَ الإِيمانَ امتُحِنَ بالابْتِلاءِ بغَيْرِ المؤمِنينَ، ومَنْ رُزِقَ العقْلَ الوافِرَ امتُحِنَ بضِيقِ الحالِ وعَدَاوةِ الجَاهِلين. وَقَدْ قِيلَ: «مَنْ زَادَ فِي عَقْلِهِ نَقَصَ مِنْ رِزْقِهِ»، وقد قَالَ تَعَالى ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ (الأنعام 53)،

وقال تعالى ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ (الفرقان 20) وَإِمَّا؛ لِأَنَّ ذَا الْفَضْلِ مَحْسُودٌ، وَبِالْأَذَى مَقْصُودٌ، فَلَا يَسْلَمُ فِي بِرِّهِ مِنْ مُعَادٍ وَاشْتِطَاطِ مُنَاوِئٍ.

وَقَالَ الشاعر: مِحَنُ الْفَتَى يُخْبِرْنَ عَنْ فَضْلِ الْفَتَى كَالنَّارِ مُخْبِرَةٌ بِفَضْلِ الْعَنْبَرِ وَقَلَّمَا تَكُونُ مِحْنَةُ فَاضِلٍ إلَّا مِنْ جِهَةِ نَاقِصٍ، وَبَلْوَى عَالِمٍ إلَّا عَلَى يَدِ جَاهِلٍ. وَذَلِكَ لِاسْتِحْكَامِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا بِالْمُبَايَنَةِ، وَحُدُوثِ الِانْتِقَامِ؛ لِأَجَلِ التَّقَدُّمِ. وبِصَبْرِ الإِنْسانِ عَلَى تلْكَ الْمِحَنِ بَتَرَقَّى فِي مَدَارِجِ الكَمَالِ، ويَبْلُغُ الْمَنْزِلَةَ العَالِيةَ الَّتِي كَتَبَهَا اللهُ له، وَقد أخرج أَحْمَدُ وأَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «أَنَّ الْعَبْدَ إذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

15- وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ سُرُورَهُ مَقْرُونٌ بِمسَاءَةِ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ حُزْنُهُ مَقْرُونٌ بِسُرُورِ غَيْرِهِ. الأَمْرُ الَّذِي يُوّلِّدُ الحَسَدَ في نُفُوسِ الآخَرِينَ مِنْ خُصُومِ دَعْوَتِه تِجَاهَه، فَيَتَمَنَّوْنَ فَسَادَ حَالِهِ، ويَسْعَوْنَ في المكْرِ وإِنْزَالِ الأَذَى بِه، وقدْ يَنْجَحُون في ذَلكَ إلَى حِينٍ، فإنْ صَبَرَ علَى ما نَزَل بِهِ حتَّى يَنْقَضِيَ فَقَد فَازَ فوْزًا عَظِيمًا، وإنْ جَزِعَ وسَخِطَ فقَدْ عَرَّضَ نفْسَه للشَّمَاتَةِ الَّتِي تَزِيدُه غَمًّا وكَمَدًا، وقَدْ قِيل: اصْبِرْ عَلَى كَيْدِ الحَسُودِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قَاتِلُه فَالنَّارُ تَأْكُلُ بَعْضَها إذَا لَمْ تَجِدْ مَا تَأْكُلُه

16 – وَمِنْهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّه إنْ كَانَ يَاْلَمُ فَإِنَّ شَانِئِيهِ والْمُتَربِّصِينَ بِهِ يَأْلَمُون أَيْضًا، لَكِنَّه يَتَمَيَّزُ عَلَيْهِم بِأَنَّهُ يَرْجُو مِنَ اللهِ منَ الْخَيْرِ مَا لَا يَرْجُو الآخَرُون، قال تعالى ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(النساء 104)، وقال تعالى ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران 139-142). 17 – ومنْهَا: أَنْ يعْلَمَ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَالْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَالْيُسْرَ مَعَ الْعُسْرِ. قال تعالى ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح 5-6 ) والفَرَجُ أقْرَبُ ما يَكونُ معَ تَعَاظُمِ البَلاءِ واشْتِدَادِ الكَرْب. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «الصَّبْرُ مُسْتَأْصِلُ الْحِدْثَانِ، وَالْجَزَعُ مِنْ أَعْوَانِ الزَّمَانِ». وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: «بِمِفْتَاحِ عَزِيمَةِ الصَّبْرِ تُعَالَجُ مَغَالِيقُ الْأُمُورِ». وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: «عِنْدَ انْسِدَادِ الْفُرَجِ تَبْدُو مَطَالِعُ الْفَرَجِ». أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّيْلَ لَمَّا تَرَاكَمَتْ دُجَاهُ بَدَا وَجْهُ الصَّبَاحِ وَنُورُهُ

18 – وَأخيرًا: أنْ يَتَجَنَّبَ الأَسْبَابَ الَّتِي تَدْفَعُ إلَى الْجَزَع، والتي سأذكرها بعد قليل. فَإِذَا ظَفِرَ الْمُصَابُ المبْتَلَى بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ تَخَفَّفَتْ عَنْهُ أَحْزَانُهُ، وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ أَشْجَانُهُ، فَصَارَ وَشْيَك السَّلْوَةِ، قَلِيلَ الْجَزَعِ، حَسَنَ الْعَزَاءِ، رَابِطَ الجَأْشِ، ثَابِتَ النَّفْسِ، لا تَنَالُ منْهُ الأَحْدَاثُ، ولا تُزَلْزِلُهُ الأَهْوَالُ بِفَضْلِ الله. مِنَ الأَسْبَابِ الدَّافِعَةِ إلَى الجَزَع: إذَا كُنَّا قدْ تنَاوَلْنا بعضَ الأَسْبابِ المعِينَةِ علَى الصَّبْرِ؛ فإنَّ مِنَ المناسِبِ أنْ نذْكُرَ بعْضَ الأَسْبابِ الَّتي تَدْفَع إِلَى الجَزَع والْيَأْس؛ حَتَّى يَتَجَنَّبَها المسلِمُ ويتَحَاشَاها:

1 – فمنها تَذَكُّرُ الْمُصَابِ حَتَّى لَا يَتَنَاسَاهُ، وَتَصَوُّرُهُ حَتَّى لَا يَعْزُبَ عَنْهُ، وَلَا يَجِدُ مِنْ التَّذْكَارِ سَلْوَةً، وَلَا يَخْلِطُ مَعَ التَّصَوُّرِ تَعْزِيَةً. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَا تَسْتَفِزُّوا الدُّمُوعَ بِالتَّذَكُّرِ». وَقَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا يَبْعَثُ الْأَحْزَانَ مِثْلُ التَّذَكُّر

2- وَمِنْهَا: الْأَسَفُ وَشِدَّةُ الْحَسْرَةِ، فَلَا يَرَى مِنْ مُصَابِهِ خَلَفًا، وَلَا يَجِدُ لِمَفْقُودِهِ بَدَلًا، فَيَزْدَادُ بِالْأَسَفِ وَلَهًا، وَبِالْحَسْرَةِ هَلَعًا. وقد علمنا القرآن أن نقول نزول البلاء ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نضيف إليها: « اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا »، فَقد رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ اللَّهُمَّ اُؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا».

3 – وَمِنْهَا: كَثْرَةُ الشَّكْوَى وَبَثُّ الْجَزَعِ. وقد قيل: لَا تُكْثِرْ الشَّكْوَى إلَى الصَّدِيقِ … وَارْجِعْ إلَى الْخَالِقِ لَا الْمَخْلُوقِ … لَا يَخْرُجُ الْغَرِيقُ بِالْغَرِيقِ.

4 – وَمِنْهَا: الْيَأْسُ مِنْ حُصُولِ الخَيْرِ مِنْ مُصَابِهِ، وَالقُنُوطُ من إدْراَكِ مَطْلُوبِه، فَيَقْتَرِنُ بِحُزْنِ الْحَادِثَةِ قُنُوطُ الْإِيَاسِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهَا صَبْرٌ، وَلَا يَتَّسِعُ لَهَا صَدْرٌ. وَقَدْ قِيلَ: «الْمُصِيبَةُ بِالصَّبْرِ أَعْظَمُ الْمُصِيبَتَيْنِ». أيْ أنَّ عَدَمَ الصَّبْرِ علَى المصِيبَةِ مُصِيبَةٌ أَعْظَمُ مِنَ المصِيبةِ ذاتِها. 5 – وَمِنْهَا: أَنْ ينشغل بِمُلَاحَظَةِ مِنْ حِيطَتْ سَلَامَتُهُ وَحُرِسَتْ نِعْمَتُهُ حَتَّى الْتَحَفَ بِالْأَمْنِ وَالدَّعَةِ، وَاسْتَمْتَعَ بِالثَّرْوَةِ وَالسَّعَةِ.

وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالرَّزِيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسَاوِيًا، وَأُفْرِدَ بِالْحَادِثَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُكَافِيًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ صَبْرًا عَلَى بَلْوَى، وَلَا يَلْزَمُ شُكْرًا عَلَى نُعْمَى. وَلَوْ قَابَلَ بِهَذِهِ النَّظْرَةِ مُلَاحَظَةَ مَنْ شَارَكَهُ فِي الرَّزِيَّةِ، وَسَاوَاهُ فِي الْحَادِثَةِ لَتَكَافَأَ الْأَمْرَانِ، فَهَانَ عَلَيْهِ الصَّبْرُ، وَحَانَ مِنْهُ الْفَرَجُ بإِذْنِ الله. وَفي الختام، اعْلَمُوا إِخْوَانِي وَأَخَوَاتِي أَنَّهُ قَلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى حَادِثَةٍ وَتَمَاسَكَ فِي نَكْبَةٍ إلَّا كَانَ انْكِشَافُهَا وَشِيكًا، وَكَانَ الْفَرَجُ مِنْهُ قَرِيبًا. ذكر بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْكَاتِبَ حُبِسَ فِي السِّجْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، حَتَّى ضَاقَتْ حِيلَتُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ، فَكَتَبَ إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ يَشْكُو لَهُ طُولَ حَبْسِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ جَوَابَ رُقْعَته بِهَذَا: صَبْرًا أَبَا أَيُّوبَ صَبْرٌ مُبَرِّحٌ فَإِذَا عَجَزْت عَنْ الْخُطُوبِ فَمَنْ لَهَا إنَّ الَّذِي عَقَدَ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ عُقَدُ الْمَكَارِهِ فِيكَ يَمْلِكُ حَلَّهَا صَبْرًا فَإِنَّ الصَّبْرَ يُعْقِبُ رَاحَةً وَلَعَلَّهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَا فَأَجَابَهُ أَبُو أَيُّوبَ يَقُولُ: صَبَّرْتَنِي وَوَعَظْتَنِي وَأَنَا لَهَا وَسَتَنْجَلِي بَلْ لَا أَقُولُ لَعَلَّهَا وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ صَاحِبَ عَقْدِهَا كَرَمًا بِهِ إذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَا فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّجْنِ إلَّا أَيَّامًا حَتَّى أُطْلِقَ مُكَرَّمًا. إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ وَأَوْطَنَتْ الْمَكَارِهُ وَاطْمَأَنَّتْ وَأَرْسَتْ فِي مَكَانَتِهَا الْخُطُوبُ وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا وَلَا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الْأَرِيبُ أَتَاك عَلَى قُنُوطٍ مِنْك غَوْثٌ يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إذَا تَنَاهَتْ فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ علينا بالدعاء:

إنَّ الصبرَ على الْمِحَنِ والشَّدائدِ لا يعني التَّأَخُّر عن الدُّعاءِ، بل الواجبُ علَى المسلمِ أنْ تكونَ الشِّدَّةُ أكثرَ دفعًا له إلى الدعاءِ واللُّجوءِ إلى الله تعالى، بل الشدَّةُ والْمِحْنَةُ تجعلُ الدَّاعيَ في حالةِ الاضطرارِ التي يُسْتَجابُ مَعَها الدُّعاءُ ﴿أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ (النمل )، وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء في بدر مع يقينه بوعد الله إياه بالنصر، حتى أشفق عليه ابو بكر، فقد أخرج مسلم عن عُمَرَ بْنٍ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ (الأنفال 9) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ. فلْنُكْثِرْ منَ الاستغفارِ والدُّعاءِ معَ الصَّبْرِ واليقينِ، ولْتَمْتَلِئْ قُلوبُنا يقينًا بوعدِ اللهِ بالنَّصرِ للصَّابرين الصَّادِقين. والحمْدُ للهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وظَاهِرًا وبَاطِنًا، وصَلَّى اللهُ علَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّم.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...