عجيب أمر هذا القلب الذي أودعه الله صدور بني الإنسان؛ يصلح ويستقيم فتستقيم الحياة معه، ويفسد ويعوج فيفسد العالم على أثره، ويتسع وينيب إلى الله فتتسع الدنيا وما فيها، ويضيق فكأنما يَصَّعد صاحبه في السماء.
قال الله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ (الأنعام: 125).
وهذه حالة الهدى وحالة الإيمان في داخل القلوب والنفوس، وكذلك حالة الضلال، فحالة الهدى شرح الصدور واتساعه، والتفاعل مع الحق، واسترواحه والاستراحة له، أما حالة الضلال، فهو الطمس والإغلاق، يجد العسر وكربة الصدر والانقباض.
إن الفطرة الطاهرة الخالصة التي تؤمن بأن لا إله إلا الله- لن تحجبها ظلمة الكون، ولا عتمة المادة، وهي انعكاس لأضواء الإيمان وأنوار القلوب، ونقاء التوحيد، وبغير هذا يظلم القلب ويعتم، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46).
جاء في الحديث: “إن النور إذا دخل القلب انفسح وانشرح”، قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: “التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله”.
وجاء في الحديث أيضًا: “ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب“.
هذا هدي الصادق الأمين- صلوات الله وسلامه عليه- فاحرص على أن تجعل قلبك مهبط الأنوار الربانية، والرحمات والفيوضات الإلهية بطاعتك لله.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (الأنفال: 2).
ووجل القلب المذكور في هذه الآية: هو الارتعاشة التي يحس بها المؤمن حين يُذَكَّر بالله في أمر أو نهي، فيخشى الله، وتنتفض فيه مخافته، ويتمثل عظمة الله ومهابته، إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة، والإنابة والاستقامة، والاستجابة لله.
تقول أم الدرداء- رضي الله عنها- وقد سئلت عن معنى “الوجل”: “الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى، قالت: “إذا وجدت ذلك، فادع الله عند ذلك، فإن الدعاء يذهب ذلك” (رواه الثوري عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب).
إنها حال ينال القلب منها أمر يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقر، والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيمانًا، وما ينتهي به إلى الاطمئنان، إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، ولا يمكن أن يحول بينه وبينه شيء، إلا الكفر- عافانا الله منه- الكفر الذي يحجب القلب، ويحجب القلب عنه، فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان، وجد القلب حلاوة هذا الإيمان، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان.
يقول أحد الصحابة: “كنا نُؤتَى الإيمان، قبل أن نُؤتَى القرآن“.
يقول الحسن بن علي رضى الله عنهما: “إن المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله- عز وجل- وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله- عز وجل- يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره وجوارحه، إن هذا الحق أجهد الناس، وحال بينهم وبين شهواتهم؛ وإنما صبر على هذا الحق، من عرف فضله، ورجا عاقبته“.
ونحن نأمل ونرجو أن يفتح الله على البشرية، فتخرج من مضيق الأرض إلى فسحة السماء، وأن يكشف الله عن بصيرة الناس، فيبصروا النور الذي يتخبطون دونه في دياجير الظلام.