كتاب
حول أساسيات المشروع الاسلامي لنهضة الامة …قراءة في فكر الامام الشهيد حسن البنا
الدكتور عبد الحميد الغزالي
تقديم : حول الأسس المنهجية لمشروع النهضة
القسم الأول: التفكير في التحديات التي تواجه الأمة
أصبح من الضروري على كل العاملين في حقل العمل الدعوي، والمتطلعين إلى المساهمة الفاعلة في بناء وتنفيذ المشروع النهضوي، والحاملين لهموم أمتهم، والساعين لاستئناف الحياة الإسلامية الحقة، أن يتعرفوا على الأسس التي بنى عليها الأستاذ البنا تصوره لمشروع النهضة، ويتتبعوا المسار الذي انتهجه في وضع الأسس الفكرية للدعوة المعاصرة لهذا المشروع، ويعلموا فاعلية طريقه في التحرك والانطلاق نحو تحقيق شروط هذا المشروع، ويعملوا في النهاية، استمراراً لجهاد الإمام الشهيد، على وضع المشروع موضع التنفيذ بنقله من عالم الفكر إلى ارض الواقع.
ومن خلال التعرف على هذه الأسس، يمكن:
1-التعرف على منهجية التفكير العلمي الذي يحتاج إليه مشروع النهضة.
2-التعرف على مدى النواقص الفكرية التي تعاني منها الجهود التربوية المرجوة لمشروع النهضة.
3- ضبط حركة الدعوة لمشروع النهضة وفق الدروس التي استخلصها الأستاذ البنا.
4- ربط الفكرة بجذورها الأساسية، وحمايتها من التيارات الفكرية الغريبة عنها.
5- تأكيد الثقة في فكر حركة مشروع النهضة وسلامة منهجها في العمل.
6- الارتفاع بمستوى الولاء لحركة مشروع النهضة من الولاء العاطفي إلى الولاء العقدي والذرائعي الشرعي.
7- بناء أرضية مشتركة للمتهمين بالدعوة للمشروع تنطلق منها قراراتهم في المجالات المختلفة.
ويمكن إجمال المراحل التي مرت بها منهجية الأستاذ البنا لمشروع النهضة فيما يلي:
القسم الأول: التفكير في التحديات التي تواجه الأمة.
القسم الثاني: دراسة التاريخ والواقع.
القسم الثالث: استخلاص الدروس.
القسم الرابع: كيفية التعامل مع هذه الدروس.
القسم الأول: التفكير في التحديات التي تواجه الأمة
لقد أحس الأستاذ البنا بالتحدي الخارجي القوي الذي يواجه الأمة، فدفعه إلى تفكير عميق واستجابة مكافئة، في البحث عن إجابات للخروج من المأزق، واكتشاف الدواء والعلاج، وهذا ما عبر عنه قائلاً:
ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس … ولقد أخذت أفاتح كثيراً من كبار القوم في وجوب النهوض والعمل وسلوك طريق الجد والتكوين، فكنت أجد التثبيط أحياناً والتشجيع أحياناً، والتريث أحياناً، ولكنني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية .. وليت وجهي شطر الأصدقاء والإخوان ممن جمعني وإياهم عهد الطلب وصدق الود والشعور بالواجب، فوجدت استعداداً حسناً … وكان عهد وكان موثق أن يعمل كل منا لهذه الغاية، حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة.
ليس أحد يعلم إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلتنا إليه إلى حد البكاء … كنا نعجب لهؤلاء الناس وكثير منهم من المثقفين، ومن هم أولى منا بحمل هذا العبء، ثم يقول بعضنا لبعض: أليس هذا داء من أدواء الأمة ولعله أخطرها، ألا تفكر في مرضها وألا تعمل لعلاج نفسها. ولهذا وأمثاله نعمل ولإصلاح هذا الفساد وقفنا أنفسنا فنتعزى ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه. (رسالة المؤتمر الخامس)
فحالة الأمة كما يقول الأستاذ البنا دعت إلى:
1- الانكباب على استعراض الحالة الإسلامية من مختلف جوانبها.
2- تحليل العلل.
3- البحث عن حلول.
القسم الثاني – دراسة التاريخ والواقع
إن تاريخ البشرية هو المحطة الثانية للباحثين في موضوع النهضة حديثاً وقديماً، وهكذا تحركت الفكرة عند الأستاذ البنا، وقادته إلى البحث عن كنوز التاريخ البشري، حيث التاريخ البشري مخزن التجارب الإنسانية الناجحة والفاشلة، وعلى كل من يتحرك لإحداث تغيير اجتماعي في مجتمعه وأمته لابد أن يلم بالتاريخ الإنساني كي يتجنب الوقوع في عثرات مميتة، والتاريخ مدرسة التعليم الأساسية في العلوم الإنسانية، منها يستقي المفكرون نظرياتهم وتصوراتهم عن مسيرة البشرية وإدراك العبرة من حركتها، ولهذا اهتم الأستاذ البنا بدراسة التاريخ دراسة عميقة. وقد أشار إلى ذلك في أكثر من موضع في رسائله، وسنفرد فصلاً كاملاً لهذا الموضوع، وهو الفصل الثاني وحسبنا هنا الإشارة.
ويكفي هنا أن نسجل النظرة التاريخية الثاقبة للأستاذ البنا في رسالة: إلى أي شيء ندعو الناس، حيث يقول:
إن نهضات الأمم جميعها إنما بدأت على حال من الضعف يخيل للناظر إليها أن وصلها إلى ما تبتغي ضرب من المحال، ومع هذا الخيال فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة القليلة الوسائل إلى ذروته ما يرجو القائمون بها من توفيق ونجاح. ومن ذات الذي كان يصدق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة الحافة المجدية تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟ ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر، وهو ذلك القلب الرقيق اللين، وقد انتقضه الناس عليه وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشاً تقمع العصاة وتقيم المعوج وتؤدب الطاغي وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟ (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
القسم الثالث – استخلاص الدروس
إن الحديث عن الدروس التاريخية في فكر الأستاذ البنا وكتاباته موضوع يجب أن يختص بدراسة مستقلة، ولكننا هنا معنيون بالمنهجية، ويكفينا أن نقول إن الأستاذ البنا كان يقرأ التاريخ بعيني قائد يبحث عما يعينه على إنجاز مشروعه. وسوف نتعرض في مكان لاحق لكثير من تقديرات الأستاذ البنا في هذا الشأن، ولكن حسبنا الإشارة إلى قوله معقباً على حركة مشروع النهضة، بعد أن تتبع بعض الدروس التاريخية في رسالته هل نحن قوم عمليون قائلاً:
أعتقد يا عزيزي أن كل انقلاب تاريخي وكل نهضة في أمة تسير طبق هذا القانون حتى النهضات الدينية التي يرأسها الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم .. هذا كلام أعتقد أن القراء فيه قسمان: قسم درس تاريخ الأمم وأطوار نهوضها فهو مؤمن به معتقد له، وقسم لم تتح له الفرصة، فإن شاء درس ليعلم أنى لم أقل إلا الحق، وإن شاء وثق فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت. كان ذلك في النهضات الموفقة، فهل سارت نهضتنا وفق هذا القانون الكوني والسنة الاجتماعية؟ (رسالة هل نحن قوم عمليون).
دراسة التاريخ، فكرة النهضة، القانون الحاكم:
تلك هي العناصر الأساسية التي يشير إليها الأستاذ البنا في هذه المرحلة
القسم الرابع – كيفية التعامل مع هذه الدروس
إن أول شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم، هو أن نفهم .. بل أن نفقه فقهاً شاملاً رشيداً هذه السنن أو الدروس، وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي أو ما نعبر عنه بـ فقه السنن، ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعية والدروس الحضارية، وفي هذا يقول الأستاذ البنا في رسالة المؤتمر الخامس:
لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحولوا تيارها، واستيعنوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد (رسالة المؤتمر الخامس).
من هنا ولد مشروع النهضة عند الأستاذ البنا. فمن دراسة حال الأمة، وتاريخها، وتاريخ العالم الناهض من حولنا، ومن خلال استقراء قوانين الحركة التاريخية، ومن خلال تكوين رؤية للتعامل مع هذه القوانين أو الدروس قامت حركة النهضة المعاصرة.
ويمكن إيجاز ذلك في أن التحدي المتمثل في (التخلف) ولد ضرورة (الاستجابة) في فكرة مشروع النهضة والعمل على تنفيذه كمخرج وحيد من حالة التخلف التي تعيشها الأمة.
الفصل الأول : أهمية دراسة التاريخ – دراسة التاريخ الإسلامي
الطور الأول: إعلان ميلاد الدعوة الجامعة (الدعوة)
إن التاريخ البشري مخزن التجارب الإنسانية الناجحة والفاشلة. وعلى كل من يتحرك لإحداث تغيير اجتماعي في مجتمعه وأمته أن يلم بالتاريخ الإنساني كي يتجنب الوقوع في عثرات مميتة. والتاريخ مدرسة التعليم الأساسية في العلوم الإنسانية، منها يستقي المفكرون نظرياتهم وتصوراتهم عن مسيرة البشرية، وإدراك العبرة في حركتها. ولهذا اهتم الأستاذ البنا بدراسة التاريخ دراسة عميقة. وقد أشار إلى ذلك في أكثر من موضع في رسائله فعلى سبيل المثال، يقول:
أنت إذا راجعت تاريخ النهضات في الأمم المختلفة شرقية وغربية قديماً وحديثاً، رأيت أن القائمين بكل نهضة موفقة نجحت وأثمرت كان لهم: منهاج محدد عليه يعملون .. راجع تاريخ الهيئات والشعوب تر هذا القول واضحاً بيناً، وأنه أساس النحاح في كل نهضاتها .. وأنت إذا رجعت بذاكرتك إلى تاريخ الفرق الإسلامية، وإلى الأدوار التي سبقت، وقارنت قيام الدولة العباسية في الشرق ثم إلى نهضة الدولة الحديثة الأوروبية من فرنسا وإيطاليا وروسيا وتركيا سواء في الدولة الحديثة الأوروبية من فرنسا وإيطاليا وروسيا وتركيا سواء في الدور الأول وهو دور تكوين الوحدات وتأسيس الحكومات أو في هذا الدور وهو دور تكوين المبادئ ومناصرة النظريات لرأيت كل ذلك يخضع إلى مناهج معروفة الخطوات تؤدي إلى النتيجة الحتمية التي تعمل لها الأمة (رسالة هل نحن قوم عمليون).
وعليه، يتناول هذا الفصل الأقسام التالية:
القسم الأول: دراسة التاريخ الإسلامي.
القسم الثاني: دراسة تاريخ الأمم الناهضة.
القسم الثالث: دراسة تاريخ حركات النهضة والتغيير.
القسم الأول – دراسة التاريخ الإسلامي
لقد شرح الأستاذ البنا في رسالته بين الأمس واليوم تطورات الفكرة الإسلامية وأهدافها. وقد وضعت هذه الرسالة قبيل الحرب العالمية الثانية، وفيها تحديد دقيق للأطوار التي مرت بها الأمة الإسلامية، من بعثة الرسول الأمين وحتى سقوط آخر كيان سياسي للمسلمين بعد زوال الدولة العثمانية. هذه الدراسة للتاريخ الإسلامي، ونقطة تقاطعه مع المشروع الغربي، وعوامل انتصار المشروع الغربي، ليست أمراً يمكن أن تمر عليه التربية في المجتمعات المسلمة مرور الكرام، لأن من يقرأ الظروف التي كتبت فيها هذه الرسالة، يعلم أنها كانت وصية الأستاذ البنا، وأنه حرص على أن يضع صورة الحدث أو المشهد التاريخي الذي جاءت في سياقه دعوة النهضة أمام الدعاة بصورة متكاملة، نظراً لأهمية ذلك في صحة التصور للدور الذي ستضطلع به الدعوة، وللمخاطر التي قد تحرفها عن مسارها إذا فقدت الرؤية الكلية أثناء سيرها نحو أهدافها.
إن الدراسة المتأنية لرسالة بين الأمس واليوم، تضعنا أمام الفهم المتكامل للمنطلقات الأساسية للمشروع الذي قدمه الأستاذ البنا للنهوض بالأمة من جديد، وعمق الأبعاد التاريخية التي شكلت الفكرة والحركة. ويمكن من هذه الرسالة استخلاص النقاط الهامة التالية:
1- العرض الواضح للمشهد التاريخي لأحداث الأمة الإسلامية وأطوارها.
2- كيفية تقاطع وتدافع وتصارع الدعوة الإسلامية مع المشروعات المغايرة.س
3- استعراض أهم الدروس التي أدت إلى حالة المشروع الإسلامي.
4- استعراض أهم معالم الدولة الإسلامية ونظامها الاجتماعي والاقتصادي.
5- وضع الحركة أمام دورها ومهمتها من خلال السياق التاريخي.
6- التعرف على نقاط القوة والضعف والمخاطر والفرص والنجاح والفشل.
لقد مرت الدعوة أو الفكرة الإسلامية – كما أشرنا – وحسب وصف الأستاذ البنا لها في الأطوار السبعة التالية:
الطور الأول: إعلان ميلاد الدعوة الجامعة.
الطور الثاني: قيام الدولة الإسلامية الأولى.
الطور الثالث: بداية التحلل في كيان الدولة الإسلامية.
الطور الرابع: الصراع والتدافع السياسي.
الطور الخامس: الصراع والتدافع الاجتماعي.
الطور السادس: انتصار المشروع الغربي وهيمنته على الحضارة الإسلامية.
الطور السابع: طور اليقظة والصحوة الإسلامية وظهور دعوة البعث والإنقاذ.
الطور الأول: إعلان ميلاد الدعوة الجامعة (الدعوة)
منذ ألف وثلاثمائة سنة وسبعين نادى محمد بن عبد الله النبي الأمي في بطن مكة وعلى رأس الصفا: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) [الأعراف: 158] فكانت تلك الدعوة الجامعة حداً فاصلاً في الكون كله، بين ماضٍ مظلم، ومستقبل باهر مشرق، وحاضر زاخر سعيد، وإعلاناً واضحاً مبيناً لنظام جديد شارعه الله العليم الخبير ومبلغه محمد البشير النذير، وكتابه القرآن الواضح المنير، وجنده السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وليس من وضع الناس، ولكنه صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) [الشورى: 52-53] (رسالة بين الأمس واليوم).
ويتلخص هذا الطور في المضامين التالية:
1- إعلان ميلاد الدعوة الجامعة لتضع حداً فاصلاً في الكون كله.
2- إعلان واضح مبين لنظام عالمي جديد محدد المرجعية والهوية.
3- تبيان الأصول الفكرية والعملية للإصلاح والتغيير الاجتماعي الشامل.
الطور الثاني: قيام الدولة الإسلامية الأولى (الدولة)
على قواعد هذا النظام الاجتماعي القرآني الفاضل قامت الدولة الإسلامية الأولى تؤمن به إيماناً عميقاً، وتطبقه تطبيقاً دقيقاً وتنشره في العالمين .. وكانت الوحدة بكل معانيها ومظاهرها تشمل هذه الأمة الناشئة. فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن ولغة القرآن، والوحدة السياسية شاملة في ظل أمير المؤمنين وتحت لواء الخلافة في العاصمة، ولم يحل دونها أن كانت الفكرة الإسلامية فكرة لا مركزية في الجيوش، وفي بيوت المال، وفي تصرفات الولاة، إذ أن الجميع يعملون بعقيدة واحدة وبتوجيه عام متحد.
ولقد طاردت هذه المبادئ القرآنية الوثنية المخرفة .. وطاردت اليهودية الماكرة .. وصارعت المسيحية .. وتركز بذلك السلطان الروحي والسياسي بالدولة الإسلامية في القارتين العظيمتين، وألحت بالغزو على القارة الثالث تهاجم القسطنطينية من الشرق وتحاصرها حتى يجهدها الحصار، وتأتيها من الغرب فتقتحم الأندلس وتصل جنودها المظفرة إلى قلب فرسنا، وإلى الشمال وجنوب إيطاليا، وتقيم في غرب أوروبا دولة شامخة البنيان مشرقة بالعلم والعرفان.
وقد اتصلت هذه الأمم الإسلامية بغيرها من الأمم ونقلت كثيراً من الحضارات، ولكنها تغلبت بقوة إيمانها ومتانة نظامها عليها جميعاً، فعربتها أو كادت، واستطاعت أن تصيغها وأن تحملها على لغتها ودينها بما فيها من روعة وحيوية وجمال، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعاً من غير أ ن يؤثر ذلك في وحدتها الاجتماعية أو السياسية (رسالة بين الأمس واليوم).
وعليه، قام هذا الطور على العناصر التالية:
1- إقامة الدولة على أسس النظام الاجتماعي القرآني.
2- تحقيق الوحدة الاجتماعية الشاملة في ظل النظام الإسلامي.
3- تحقيق الوحدة السياسية الشاملة تحت لواء الخلافة الإسلامية.
4- طرد القوى المعادية كالوثنية واليهودية والمسيحية المهاجمة.
5- انطلاق حملات الفتح الإسلامي في الشرق والغرب والشمال والجنوب.
6- السيطرة على المجالات الحيوية وتحقيق السيادة البرية والبحرية.
الاتصال الحضاري بغيرها من الأمم ونقل المفيد من هذه الحضارات
الطور الثالث: بداية التحلل في كيان الدولة الإسلامية (التحلل)
ومع هذه القوة البالغة والسلطان الواسع، فإن عوامل التحلل قد أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية، وتعظم وتنشر وتقوي شيئاً فشيئاً حتى مزقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية في القرن السادس الهجري بأيدي التتار، وفي القرن الرابع عشر الهجري مرة ثانية، وتركت وراءها في كلتا المرتين أمما مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب للنهوض، وكان أهم هذه العوامل ما يلي:
1- الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرئاسة والجاه. (ولا تنازعوا فتفشلوا .. )
2- الخلافات الدينية والمذهبية والخلل في الفهم الديني. (ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)
3- الانغماس في ألوان الترف والنعيم .. (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها .. )
4- سوء البطانة وإعطاءهم من النفوذ ما لا يستحقون. (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم)
5- إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية. (قل انظروا ماذا في السموات والأرض)
6- غرور الحكام والانخداع بقوتهم .. وعدم النظر إلى تطور الآخرين. (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس)
7- الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم، والإعجاب بأعمالهم. (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين).
8- ضعف الدافع العقائدي الذي يقود إلى التحلل الخلقي المدمر.يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)
إن كل قضية من هذه القضايا تحتاج إلى بحث تفصيلي، ولكن حسبنا هنا أن نشير إلى خطورة هذه القضايا التي أدت إلى انكسار خط الصعود للأمة ومازالت تفعل فعلها في العامة والخاصة
الطور الرابع: الصراع والتدافع السياسي
ولقد ظهر هذا الصراع والتدافع على شكل موجات عدة على مدار عدة قرون، ومن هذه الموجات:
الموجة الأولى: محاولات القضاء على الأمة الإسلامية:
1- التتار وإسقاط الخلافة العباسية في بغداد سنة 656 هجرية.
2- تسع حملات صليبية والتمكن من إقامة دولة صليبية في بيت المقدس.
الموجة الثانية: انتصارات متتالية للمسلمين:
1- استعادة بيت المقدس في معركة حطين.
2- رد التتار وطردهم من مصر في عين جالوت.
3- إعادة قيم الخلافة الإسلامية متمثلة في آل عثمان (دولة الأتراك العثمانية).
4- فتح القسطنطينية والامتداد إلى قلب أوروبا.
الموجة الثالثة:
1- أخذ أوروبا بأسباب القوة والتجمع تحت لواء الفرنجة في بلاد الغال.
2- إقامة الدولة الإسبانية على أنقاض الأندلس.
3- الاهتمام بأعمال الفكر والبحث العلمي والاكتشافات الجغرافية، فكان اكتشاف أمريكا وطرد الهند.
4- توالي الثورات الإصلاحية وتكوين القوميات وقيام الدولة الحديثة القوية.
5- تكوين أحلاف مقدسة بين الدول الأوروبية الفتية لتمزيق الخلافة الإسلامية.
الموجة الرابعة: هجوم أوروبي جديد على البلدان الإسلامية:
1- وضع العدد من المشروعات لتمزيق الدولة الإسلامية.
2- اقتسام تركة الرجل المريض وافتعال المسألة الشرقية.
3- سلخ كثير من الأقطار عن جسم الخلافة ووقوعها تحت السلطان الأوربي.
4- هزيمة تركيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
5- اقتسام ميراث الدولة العثمانية باسم الاحتلال، والاستعمار والانتداب والمصالح.
6- انتصار أوروبا في هذا الصراع السياسي وتمزيق الإمبراطورية الإسلامية وحذفها سياسياً.
الموجة الخامسة: إلى القوة من جديد واشتعال ثورات الاستقلال:
1- نيل بعض الأقطار الإسلامية بعض حقوقها واستقلالها.
2- ظهور المعنى القومي الخاص لكل دولة أو قطر إسلامي كأمة مستقلة.
3- تعمد كثير من العاملين لهذه النهضة أن يغفل فكرة الوحدة.
الموجة السادسة: حرب عالمية جديدة ومعاهدات ظالمة:
1- اشتعال الحرب العالمية الثانية وآثارها المدمرة.
2- تأصيل بذور الحقد والبغضاء في صدور الدول الأوروبية على بعضها البعض.
3- ظهور أفكار جديدة ومبادئ متعصبة، تنذر بخلاف جديد وحروب طاحنة.
4- سنوح فرصة أخرى للأمة الإسلامية لتسوية صفوفها واسترداد دولتها ووحدتها.
وإذا كان هذا هو الخط التاريخي الذي أدركه الأستاذ البنا، فعلينا أن نمد الخط إلى الأمام لنعرف كيف تطور الوضع منذ الحرب الثانية إلى الآن، وهو أمر آخر يحتاج إلى كتابة مستقلة. وحسبنا في هذا المجال أن نسير على المنهجية التي قدمها لنا الأستاذ البنا.
الطور الخامس: الصراع والتدافع الاجتماعي
ولقد ظهر هذا الصراع والتدافع على شكل موجات عدة على مدار عدة قرون، ومن هذه الموجات:
الموجة الأولى: حضارة جديدة تتبلور:
إن الأمم الأوروبية التي اتصلت بالإسلام وشعوبه في الشرق بالحروف الصليبية، وفي الغرب بمجاورة عرب الأندلس وخالطتهم، ولم تستفد من هذا الاتصال مجرد الشعور القوي أو التجمع والتوحد السياسي، ولكنها أفادت إلى جانب ذلك يقظة ذهنية وعقلية كبيرة واكتسبت علوماً ومعارف جمة (رسالة بين الأمس واليوم).
وابرز مظاهر هذه الموجة، كما أكد الأستاذ البنا، هي:
1- إغراء الحكام بالاستدانة منهم والتعامل معهم.
2- اكتساب حق التدخل الاقتصادي وإغراق البلاد برؤوس الأموال والمصارف والشركات وإدارة دولاب العمل الاقتصادي كما يريدون.
3- تغيير قواعد الحكم والقضاء والتعليم وصبغ النظم السياسية والتشريعية بصبغتهم.
4- جلب النساء والخمور والمسارح والمراقص والملاهي والأدبيات والسلوكات الماجنة.
5- إباحة الجرائم وتزيين الدنيا الصاخبة العابثة.
6- إنشاء المدارس والمعاهد العلمية والثقافية الغربية في عقر ديار الإسلام للتشكيك والتغريب.
7- جعل أبناء الإسلام يحتقرون دينهم وأوطانهم ويقدسون كل ما هو غربي.
8- تلاحق البعثات الدراسية لاستكمال عملية الغزو الثقافي والاجتماعي المنظم.
الموجة الثانية: محاولات خديعة عقلاء المسلمين:
ومع هذا فالموجة تمتد بسرعة البرق لتصل إلى ما لم تصل إليه بعد من النفوس والطبقات والأوضاع. ولقد استطاع خصوم الإسلام أن يخدعوا عقلاء المسلمين وأن يضعوا ستاراً كثيفاً أمام أعين الغير منهم، بتصوير الإسلام نفسه تصويراً قاصراً في ضروب من العقائد والعبادات والأخلاق إلى جانب مجموعة من الطقوس والخرافات والمظاهر الجوفاء، وأعانهم على هذه الخديعة جهل المسلمين بحقيقة دينهم حتى استراح كثير منهم إلى هذا التصوير واطمأنوا إليه ورضوا به، وطال عليهم في ذلك الأمد حتى صار من العسير أن تفهم أحدهم أن الإسلام نظام اجتماعي كامل يتناول كل شؤون الحياة (رسالة بين الأمس واليوم).
الطور السادس: انتصار المشروع الغربي وهيمنته على الحضارة الإسلامية
ونستطيع بعد ذلك أن نقول إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي على الحضارة الإسلامية بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس ميدانها نفوس المسلمين وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري ولا عجب في هذا فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ والقوة قوة فيها جميعاً، والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) [آل عمران: 140]، وإن كانت مبادئ الإسلام وتعاليمه ظلت قوية في ذاتها فياضة بالخصب والحياة جذابة أخاذة بروعتها وجمالها، وستظل كذلك لأنها الحق، ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملة فاضلة غيرها ولأنها من صنع الله وفي حياطته: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) [التوبة: 32] (رسالة بين الأمس واليوم).
وعليه، أكد الأستاذ البنا إن الحضارة الغربية انتصرت في هذا الطور على نفوس المسلمين كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري. وفي الوقت نفسه أكد على قوة الإسلام بمبادئه وتعاليمه، والتي تكفل الحياة الإنسانية الكاملة والفاضلة.
الطور السابع: طور اليقظة والصحوة الإسلامية وظهور دعوة البعث والإنقاذ
وكما كان لذلك العدوان السياسي أثره في تنبيه المشاعر القومية، كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره كذلك في انتعاش الفكرة الإسلامية، فارتفعت الأصوات من كل مكان تطالب بالرجوع إلى الإسلام وتفهم أحكامه وتطبيق نظامه. ولابد أن يأتي قريباً ذلك اليوم الذي تندك فيه صروح هذه المدينة المادية على رؤوس أهلها، وحينئذ يشعرون بسعير الجوع الروحي تشتعل به قلوبهم وأرواحهم ولا يجدون الغذاء والشفاء والدواء إلا في تعاليم هذا الكتاب الكريم: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون) [يونس: 57-58].
وهكذا أيها الإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات، وأن يشرق نور دعوتكم في ثنايا هذا الظلام وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) [الحج: 40] (رسالة بين الأمس واليوم).
ورغم هذا الإيجاز الذي ساق به الأستاذ البنا هذا الإطار التاريخي، فإنه عند القراءة المتعمقة، يشكل نقطة ارتكاز لكثير من الدراسات الموجهة في هذا المجال الحيوي مثل:
1- الهوية والمرجعية.
2- أصول الإصلاح الاجتماعي في التصور الإسلامي.
3- الصورة الموجزة لحركة الدولة الإسلامية الأولى تاريخياً.
4- عوامل الضعف في التاريخ الإسلامي وسبل التعامل المستقبلي معها.
5- قراءة استراتيجية في الفترة التاريخية المفصلة للقرن الثاني عشر إلى الخامس عشر.
6- دراسة الفترة نفسها في أوروبا وعملية حشد وتحليل عوامل القوة.
7- دراسة عصر النهضة في أوروبا دراسة نقدية فاحصة.
8- دراسة حركات الاستقلال استراتيجياً.
9- دراسة جذور الفكر الغربي وتطبيقاته السياسية المعاصرة.
10- دراسة آلية حركة الاستعمار الاستيطاني وتطبيقاته المعاصرة.
إنه بدون دراسة حقيقية لمثل هذه المسارات الصعبة، وعلى أيدي أناس يجمعون مع المعرفة الشرعية قراءة عصرية للواقع وإحساساً علمياً وحركياً، مع القدرة على الكتابة التي تعتني بالجوهر قبل الإنشاء والحشو، أقول بدون ذلك ستظل الثقافة التي نحتاج إليها للنهضة عندنا تعاني الضحالة الفكرية والمشكلات الحركية، وبالتالي ستظل الأحكام بعيدة عن معالجة إشكاليات الواقع
الفصل الثاني : دراسة تاريخ الأمم الناهضة
لقد امتدت دراسة الأستاذ البنا لمساحة واسعة من تجارب النهضة، لأنه اعتقد اعتقاداً جازماً بانه لابد لكل حركه جادة تريد التغيير والنهوض ،أن تقوم بدراسة عميقة لتاريخ الأمم التي سبقت ، ولهذا يقول:
(وأنت إذا رجعت بذكراك إلى تاريخ الفرق الإسلامية ،وإلى الأدوار التي سبقت وقامت الدولة العباسية في الشرق ثم إلى نهضة الدول الحديثة الأوروبية من فرنسا وإيطاليا وروسيا وتركيا سواء في الدور الأول وهو دور تكوين الوحدات وتأسيس الحكومات أو في هذا الدور وهو دور تكوين المبادئ ومناصرة النظريات لرأيت كل ذلك يخضع إلى مناهج معروفة الخطوات تؤدي إلى النتيجة الحتمية التي تعمل لها الأمة .. (رسالة هل نحن قوم عمليون).
وانظر بتمعن إلى قوله:
(نهضة الدول الحديثة الأوروبية .. مناهج معروفة الخطوات)
فإن دراسة حركات النهضات الحديثة وأطوارها من التفصيل إلى التأمل التجريد الذي تصاغ على أساسه قوانين النهضة وآفاق الحركة موضوع في غاية الأهمية، والسؤال الهام هنا: هو: كم نصيب هذه الدراسات عند العاملين في مشروع النهضة الإسلامي وفي ثقافتهم؟ إذ أن الانتباه إلى مثل ذلك في غاية الخطورة والحيوية لحاضر ومستقبل هذا المشروع
الفصل الثالث : دراسة تاريخ حركات النهضة والتغيير
من المفيد جداً لحركة النهضة أن تدرس وتحلل وتنقد تجارب غيرها من الحركات النهضوية السابقة واللاحقة، فإن في ذلك لعبرة وعظة، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى في أكثر من موقع في القرآن الكريم بضرورة النظر والتفكير في أحوال الأمم الغابرة وكيف مضت فيها سنة الله نصراً أو هزيمة، وهذا ما يؤكده الأستاذ البنا بقوله:
إن نهضات الأمم جميعها إنما بدأت على حال من الضعف يخيل للناظر إليها إلى أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال. ومع هذا الخيال فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجو القائمون بها من توفيق ونجاح. ومن ذا الذي كان يصدق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدية تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟ (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
الخلافة الراشدة:
ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر وهو ذلك القلب الرقيق اللين، وقد انتقض الناس عليه وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشاً تقمع العصاة وتقيم المعوج، وتؤدب الطاغي وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟ (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
الدولة العباسية:
ومن ذا الذي كان يصدق أن هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي والعباس تستطيع أن تقلب ذلك الملك القوي الواسع الأكناف ما بين عشية أو ضحاها، وهي ما كانت يوماً من الأيام إلا عرضة للقتل والتشريد والنفي والتهديد؟ (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
الدولة الأيوبية:
ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال فيرد ملوك أوروبا على أعقابهم مدحورين، مع توافر عددهم وتظاهر جيوشهم، حتى اجتمع عليه خمسة وعشرون ملكاً من ملوكهم الأكابر؟ (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
الدولة السعودية:
ذلك في التاريخ القديم، وفي التاريخ الحديث أروع المثل على ذلك، فمن كان يظن أن الملك عبد العزيز آل سعود وقد نفيت أسرته وشرد أهله وسلب ملكه يسترد هذا الملك ببضعة وعشرين ؟ (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
الدولة الألمانية:
ومن كان يصدق أن ذلك العامل الألماني (هتلر) يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية؟ (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
ورغم أهمية الدراسة العميقة لمثل هذه النماذج إلا أن ذلك لا يفيد الحصر والقصر، بل يفيد المنهجية الكلية. وعلى ذلك، فإن النماذج التاريخ البعيدة والقريبة كلها مجالات وحقول دراسية خصبة يجب أن توضع على مشرحة التحليل والنظر. وأن أخطر ما يمكن أن يقلل من سعة الفكرة وشمولها قصر الدراسات على التاريخ الإسلامي القديم وعدم الاعتبار بعموم التجربة الإنسانية.
الفصل الرابع : ضرورة دراسة الواقع
التحليل الوصفي (النوعي)
إن الذي يريد أن يتصدى لقضايا مجتمعه وأمته، ويسعى لإقامة مجتمع يرتفع فيه لواء العدل والمساواة والأخوة الإنسانية الحقة، إن الذي يريد أن يقوم بهذه المهمة لابد أن يدرس واقعه ومحيطه: محلياً وإقليمياً ودولياً، دراسة عميقة ليتعرف من خلال هذه الدراسة على عوامل قوته بكل أشكالها، وعوامل ضعفه بكل أحوالها، وليعرف حجم التحديدات والمخاطر التي تحيط به من الداخل والخارج ويترقب الفرص السانحة له على كل الأصعدة، كما عليه أن يحدد مجالات نجاحاته، ومجالات إخفاقاته، بمعنى أشمل لابد أن يكون مستوعباً تماماً للواقع. وهذا ما نطلق عليه: فقه الواقع. ومن هنا وجب التأكيد للقائمين على حركة النهضة أن يتبينوا هذه الحقيقة ويستدركوها في مناهجهم التربوية وخططهم المستقبلية وذلك من خلال عمل مؤسسي شامل يقوم على الدراسة والبحث العلمي الرصين.
وسنتناول هذه الدراسة في هذا الفصل من خلال القسمين التاليين:
القسم الأول: التحليل الوصفي (النوعي)
القسم الثاني: التحليل الإحصائي (الكمي)
القسم الأول
التحليل الوصفي (النوعي)
الملفات الرئيسية التي سيواجهها المد النهضوي:
يعرض الأستاذ البنا تحليلاً وصفياً لمظاهر أزمة الأمة قائلاً:
قود علمتنا التجارب وعرفتنا الحوادث أن داء هذه الأمم الشرقية متشعب المناحي، كثير الأعراض، قد نال من كل مظاهر حياتها. فهي مصابة في:
1- ناحيتها السياسية بالاستعمار من جانب أعدائها، والحزبية والخصومة والفرقة والشتات من جانب أبنائها.
2- وفي ناحيتها الاقتصادية بانتشار الربا بين كل طبقاتها واستيلاء الشركات الأجنبة على مواردها وخيراتها.
3- وهي مصابة من ناحيتها الفكرية بالفوضى والمروق والإلحاد يهدم عقائدها ويحطم المثل العليا في نفوس أبنائها.
4- وفي ناحيتها الاجتماعية بالإباحية في عاداتها وأخلاقها والتحلل من عقدة الفضائل الإنسانية التي ورثتها عن الغر الميامين من أسلافها، وبالتقليد الغربي يسرى في مناحي حياتها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دماءها ويعكر صفو هنائها.
5- وبالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرماً ولا تؤدب معتدياً ولا ترد ظالماً، ولا تغني يوماً من الأيام غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق ومالك الملك ورب النفوس وبارئها.
6- وبفوضى في سياسة التعليم والتربية تحول دون التوجيه الصحيح لنشئها ورجال مستقبلها وحملة أمانة النهوض بها.
7- وفي ناحيتها النفسانية بيأس قاتل، وخمول مميت، وجبن فاضح، وذلة حقيرة، وخنوثة فاشية وشح وأنانية تكف الأيدي عن البذل، وتقف حجاباً دون التضحية، وتخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى اللاهين الاعبين.
وما يرجى من أمة اجتمعت على غزوها هذه العوامل بأقوى مظاهرها وأشد أعراضها، متمثلة في:
1- الاستعمار والحزبية.
2- الربا والشركات الأجنبية.
3- الإلحاد.
4- الإباحية.
5- فوضى التعليم.
6- فوضى التشريع.
7- اليأس، والشح، والخنوثة والجبن.
8- الإعجاب بالخصم يدعو إلى تقليده ..
إن داء واحداً من هذه الأدواء يكفي لقتل أمم متظاهرة، فكيف وقد تفشت جميعاً في كل أمة على حدة؟ لولا مناعة وحصانة وجلادة وشدة في هذه الأمم الشرقية التي جاذبها خصومها حبل العداء من بعيد، ودأبوا على تلقيحها بجراثيم هذه الأمراض زمناً طويلاً حتى باضت وأفرخت، لولا ذلك لعفت آثارها ولبادت من الوجود، ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون. يا أخي: هذا هو التشخيص الذي يلمسه الإخوان في أمراض هذه الأمة، وهذا هو الذي يعملون في سبيل أن يبرئها منه ويعيد إليها ما فقدت من صحة شباب (رسالة دعوتنا).
وعلى ذلك يأتي:
– ملف الاستعمار.
– وملف الاقتصاد والاحتكارات الأجنبية.
– وملف الحالة الاجتماعية.
– وملف التعليم.
– وملف التشريع.
– وملف الحالة النفسية.
لتشكل أهم محاور الاهتمام النهضوي للدعوة المعاصرة.
التحليل الإحصائي (الكمي)
القسم الثاني
وقد اتبع الأستاذ البنا – أيضاً- طريقة التحليل الإحصائي، أو ما نطلق عليه في دراستنا اليوم (التحليل الكمي) لواقع الأمة، كمنهجية أخرى لدراسة الواقع، لما لهذه الخطوة من أثر كبير على خطط الحركة وسياستها ومواقفها. وهنا لابد من أن يلتفت القائمون على أمر النهضة إلى ضرورة استدراك ذلك في مناهجهم التربوية والثقافية، وأن يتخذوا لهم مؤسسات للبحوث والدراسات ومراكز للمعلومات تمدهم بما يلزم لتجعلهم على بصيرة من أمرهم كما أشرنا إلى ذلك آنفاً. وفي ذلك يقوم الأستاذ البنا:
فاذكروا أيها الإخوان أن أكثر من (60%) من السكان يعيشون معيشة الحيوان .. وأن مصر بها أكثر من (320) شركة أجنبية تحتكر كل المرافق العامة وكل المنافع الهامة في جميع أنحاء البلاد، وأن أكثر من (90%) من الشعب مهدد بضعف البنية وفقد الحواس ومختلف العلل والأمراض، وأن مصر لازالت إلى الآن جاهلة لم يصل عدد المتعلمين فيها إلى الخمس بما في ذلك أكثر من مائة ألف شخص لا يتجاوز تعليمهم برامج مدارس الإلزام، وأن الجرائم تتضاعف .. (رسالة بين الأمس واليوم).
إليكم أيها الإخوان بعض الأرقام التي تنطق بما يهددنا من أخطار اجتماعية ماحقة ساحقة، إن لم يتداركنا الله فيها برحمته، فسيكون لها أفدح النتائج وأفظع الآثار:
– فالفلاحون ..
– والعمال ..
– وشركات الاحتكار..
– والعيادات الحكومية ..
– والأمية ..
– والجرائم…
أيها الإخوان .. هذه لغة الأرقام، وهذا قليل من كثير من مظاهر البؤس والشقاء في مصر، فما سبب ذلك كله؟ ومن المسئول عنه؟ .. وكيف نتخلص منه، وما الطريق إلى الإصلاح؟.. (رسالة المؤتمر السادس).
وعلى ذلك، نستطيع أن نقيس في مجمل العملية النهضوية وفي تفصيلاتها، ونقول علينا بجمع الإحصاءات المعبرة كمياً عن مجالات حياة المجتمعات المسلمة اليوم، ونعمل على تمحيصها ودراستها وتحليلها .. لنرسم المنهج العملي للتخلص من مظاهر البؤس والشقاء .. ونحدد الطريق القويم لإحداث مشروع النهضة .. ونموذج التنمية المستدامة
الاستعداد للنهوض
بعد الدراسة العميقة للتاريخ، والدراسة الفاحصة للواقع، والتعرف على مواطن الداء، كان لابد من العمل على مواجهة هذا الواقع والعمل على إنقاذ الأمة مما هي فيه، ووصف الدواء المناسب لها. وهذا ما دفع الأستاذ البنا إلى ضرورة الاستعداد للنهوض بالأمة من جديد، فاسمعه يقول:
كذلك شاءت ظروفنا أن نواجه كل ذلك، وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية. وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وإن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهاد من الجهد والجهد هو التعب والعناء وليس من الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السري (رسالة هل نحن قوم عمليون).
إذا كانت معطيات واقعنا الإسلامي هي كما بينتها الملفات الرئيسية السابقة والإحصاءات الاستقرائية المعروفة، فتبقى عدة مسائل هامة نجملها فيما يلي:
القسم الأول: إمكانية النهضة.
القسم الثاني: دلالات النهوض.
القسم الأول – إمكانية النهضة
يقول الأستاذ البنا في هذا .. بثقة المسلم وعزة المؤمن:
.. إن مهمتنا سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس.. (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
ثم يؤكد هذه الحقيقة بقوله:
إن العالم كله حائر يضطرب، وكل ما فيه من النظم قد عجز عن علاجه، ولا دواء له إلا الإسلام، فتقدموا باسم الله لإنقاذه، فالجميع في انتظار المنقذ، ولن يكون المنقذ إلا رسالة الإسلام التي تحملون مشعلها وتبشرون بها (رسالة إلى الشباب).
ويوضح الأستاذ البنا بجلاء عهد الانتقال من حالة الضعف والركود في حياة الأمم إلى حالة القوة والنهوض بقوله:
وإن أخطر العهود في حياة الأمم وأولاها بتدقيق النظر عهد الانتقال من حال إلى حال، إذ توضع مناهج العهد الجديد وترسم خططه وقواعده التي يراد تنشئة الأمم عليها والتزامها إياها؛ فإذا كانت هذه الخطط والقواعد والمناهج واضحة صالحة قويمة فبشر هذه الأمة بحياة طويلة مديدة وأعمال جليلة مجيدة، وبشر قادتها إلى هذا الفوز، وأدلتها في هذا الخير، بعظيم الأجر وخلود الذكر وإنصاف التاريخ وحسن الأحدوثة (رسالة نحو النور).
وأخيراً يقرر الأستاذ البنا إمكانية النهضة .. وطريقها القويم، فيقول:
دعوت قومي إلى أن يختاروا، أو بعبارة أصح وأوضح، إلى أن يبروا بعهدهم مع الله ومع أنفسهم، فيقيموا دعائم حياتنا الاجتماعية في كل مظاهرها على قواعد الإسلام الحنيف، وبذلك يسلم مجتمعنا من هذا القلق والاضطراب والبلبلة التي شملت كل شيء، والتي وقفت بنا عن كل تقدم، والتي حالت بيننا وبين أن نتعرف الطريق السوي إلى علاج أية قضية من قضايانا الكثيرة المعلقة في الداخل والخارج. وقلت إنه لا سبيل إلى النجاة إلا هذا الاتجاه عقيدة وعملاً بكل ما نستطيع من حزم وسرعة (رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي).
دلالات النهوض
القسم الثاني – دلالات النهوض
يقدم الأستاذ البنا دلالات أربعاً لنهوض الأمة، كما يلي:
الدلالة الأولى: الدلالة الاجتماعية
وفي هذه الدلالة النهضوية يقول الأستاذ البنا:
يقول علماء الاجتماع إن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد. وتلك نظرة يؤيدها الواقع ويعززها الدليل والبرهان، بل هي محور تقدم الإنسانية وتدرجها مدارج الكمال، فمن ذا الذي كان يصدق أن يصل العلماء إلى ما وصلوا إليه من المكتشفات والمخترعات قبل حدوثها ببضع سنين، بل عن أساطين العلم أنفسهم أنكروها لأول عهدهم بها، حتى أثبتها الواقع وأيدها البرهان، والمثل على ذلك كثيرة، وهي من البداهة بحيث يكفينا ذلك عن الإطالة بذكرها (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
الدلالة الثانية: الدلالة التاريخية:
يقول الأستاذ البنا في هذه الدلالة:
إن نهضات الأمم جميعها إنما بدأت على حال من الضعف يخيل للناظر إليها ان وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال. ومع هذا الخيال فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجو القائمون بها من توفيق ونجاح.
ومن ذا الذي كان يصدق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟. ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر وهو ذلك القلب الرقيق اللين، وقد انتفض الناس عليه وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشاً تقمع العصاة وتقيم المعوج، وتؤدب الطاغي وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المعانين؟ ومن ذا الذي كان يصدق أن هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي والعباس تستطيع أن تقلب ذلك الملك القوي الواسع؟ ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال، فيرد ملوك أوروبا على أعقابهم مدحورين؟ ومن كان يظن أن الملك عبد العزيز آل سعود وقد نفيت أسرته وشرد أهله وسلب ملكه يسترد هذا الملك ببضعة وعشرين رجلاً؟ ومن كان يصدق أن ذلك العامل الألماني (هتلر) يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية؟ (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
وقس على ذلك النهضة اليابانية والصينية والهندية وكل الأجنة النهضوية المعاصرة كشواهد على هذه الحقيقة البسيطة.
الدلالة الثالثة: الدلالة المنطقية:
وعن هذه الدلالة، يقول الأستاذ البنا متأملاً:
وثم نظرتان سلبيتان تحدثان النتيجة بعينها، وتوجهان قلب الغيور إلى العمل توجيهاً قوياً صحيحاً.
– أولاهما: إن هذه الطريق مهما طالب فليس هناك غيرها في بناء النهضات بناء صحيحاً، وقد أثبتت التجربة صحة هذه النظرية.
– وثانيتهما: أن العامل يعمل لأداء الواجب أولاً، ثم للأجر الأخروي ثانياً، ثم للإفادة ثالثاً، وهو إن عمل فقد أدى الواجب، وفاز بثواب الله، ما في ذلك من شك، متى توافرت شروطه؛ وبقيت الإفادة وأمرها إلى الله، فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات، على حين أنه إذا قعد عن العمل فقد لزمه إثم التقصير، وضاع منه أجر الجهاد، وحرم الإفادة قطعاً. فأي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا؟ وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في صراحة ووضوح في الآية الكريمة: (لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) [الأعراف: 164-165] (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
الدلالة الرابعة: الدلالة الدينية:
وفي النصوص والبشائر والتطمينات الربانية ما يقطع شك المشككين في إمكانية النهضة، وحديث البنا في مثل هذه الشواهد كثير، ولكن نسوق هنا شاهداً من شواهده وهو قصة موسى عليه السلام، حيث يشير عرض الأستاذ البنا لهذه القصة القرآنية على قدرته التجريدية في التوصيف المبسط. إذ يقول عن مراحل الصراع:
1- مرحلة الضعف والاستضعاف:
(نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (3) إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم في الأرض) [القصص: 3-6].
2- مرحلة الزعامة المؤهلة:
(فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16) أن أرسل معنا بني إسرائيل (17) قال ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين (18) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين (19) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20) ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين) [الشعراء: 16-21].
3- مرحلة الصراع والتدافع:
وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (127) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة لمتقين) [الأعراف: 127، 128].
4- مرحلة الإيمان والتحدي:
(فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خيرٌ وأبقى) [طه: 72-73].
5- مرحلة الانتصار والنجاح:
فإذا رأينا كل ذلك، رأينا عاقبته في القسم الخامس وما أدراك ما هي؟ فوز وفلاح وانتصار ونجاح وبشرى تزف إلى المهضومين، وأمل يتحقق للحالمين، وصيحة الحق المبين تدوي في آفاق الأرض:
(يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) [طه: 80] (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
وعلى ذلك:
فالأدلة الاجتماعية
والأدلة التاريخية
والأدلة الدينية
تؤكد إمكانية النهوض والانطلاق
والسؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا التأكيد هو: إذا كانت النهضة ممكنة، ما القوانين والقواعد التي تحكم عملية النهضة؟ هذا هو موضوع الفصل التالي
الفصل الخامس – دروس التاريخ
قوانين النهضة – الفكرة المركزية
لما كانت النهضة ممكنة بدلالات وبشارات عديدة من مشاهد علم الاجتماع، والتجربة التاريخية المتكررة، والمنطلق المجرد، والنص القرآني الكريم، دعونا نتساءل بعد ذلك عن ماهية القوانين أو السنن الحاكمة لعملية النهضة.
ويبدو لنا من خلال هذه السياحة في فكر الأستاذ البنا أن الأستاذ ومن خلال دراسته العميقة للتاريخ واستيعابه الدقيق للواقع واستشراقه للمستقبل، بالإضافة إلى ثقافته الشرعية والإنسانية الشاملة، كل ذلك مكنه من استخلاص مجموعة من القوانين والدروس التاريخية والاجتماعية التي تعمل وفق السنن الإلهية في الأفراد والجماعات والأمم. ومن خلال تأملنا في فكره ندرك أن هناك مجموعة من القوانين التي نبغي عدم إغفالها ونحن نستعد للنهوض بهذه الأمة من جديد، وأهمها القوانين التالية:
1- الفكرة المركزية.
2- قانون القوة الدافعة.
3- قانون التغيير الذاتي.
4- قانون الانطلاق والبدء.
5- قانون نجاح الأفكار.
6- قانون إعداد الرجال.
7- قانون المتطلبات الأولية للنهضة.
8- قانون مقياس العمل الدعوي.
9- قانون التدافع الإنساني.
10- الاستشراف والفرصة.
11- قانون التداول والاستبدال الحضاري.
12- قانون الدعائم السبعة للنهضة.
ولنتناول كل قانون من هذه القوانين أو درس من هذه الدروس بشيء، من التفصيل من خلال فكر الأستاذ البنا، فيما يلي:
القانون الأول: الفكرة المركزية:
يقول الأستاذ البنا:
يعتقد الإخوان المسلمون أن الله تبارك وتعالى حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمد صلى الله عليه وسلم ورضي لهم الإسلام ديناً، وضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها، وذلك مصداق قول الله تبارك وتعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) [الأعراف: 157]. (إلى أي شيء ندعو الناس،
قوانين النهضة – القوة الدافعة
القانون الثاني: القوة الدافعة (المكنة النفسية):
وفي هذا يشدد الأستاذ البنا فيقول:
وينظر الناس في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانها الشكلية، ويهملون كثيراً النظر إلى الدوافع النفسية والإلهامات الروحية التي هي في الحقيقة مدد الدعوات وغذاؤها وعليها يتوقف انتصارها ونماؤها. وتلك حقيقة لا يجادل فيها إلا البعيد عن دراسة الدعوات وتعرف أسرارها. إن من وراء المظاهر جميعاً في كل دعوة روحاً دافعة، وقوة باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). [الرعد: 11].
ولهذا أستطيع أن أقول إن أول ما نهتم له في دعوتنا، وأهم ما نعول عليه في نمائها وظهورها وانتشارها هذه اليقظة الروحية المرتجلة. فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح، حياة القلوب، صحوة حقيقية في الوجدان، وليس يعنينا أن نتكلم عما نريد بهذه الدعوة من فروع الإصلاح في النواحي العملية المختلفة بقدر ما يعنينا أن نركز في النفوس هذه الفكرة.
نحن نريد نفوساً حية قوية فتية، قلوباً جديدة خفاقة، مشاعر غيورة ملتهبة متأججة، أرواحاً طموحة متطلعة متوثبة، تتخيل مثلاً عليا، وأهدافاً سامية لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها، ولابد من أن تحدد هذه الأهداف والمثل، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلاً ولا تحتمل شكاً ولا ريبا. وبغير هذا التحديد والتركيز سيكون مثل هذه الصحوة مثل الشعاع التائه في البيداء لا ضوء له ولا حرارة فيه، فما حدود الأهداف وما منتهاها؟! (دعوتنا في طور جديد).
لنقف بين يدي الأستاذ الأول وهو سيد المربين وفخر المرسلين الهادين رسولنا صلى الله عليه وسلم، لنتلقى عنه دروس الإصلاح من جديد، وندرس خطوات الدعوة من جديد.. إن النبي صلى الله عليه وسلم قذف في قلوب صحابته بهذه المشاعر الثلاثة، فأشرقت بها وانطبعت عليها. هذه المشاعر هي:
الشعور الأول: الإيمان بعظمة الرسالة:
قذف النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب صحابته أن ما جاء به هو الحق وما عداه الباطل وأن رسالته خير الرسالات، ونهجه أفضل المناهج، وشريعته أكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد هذا المعنى ثباتاً في النفس وتمسكاً في القلب. إذ تلا عليهم قول الحق تبارك وتعالى:
• (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) [الزخرف: 43]
• (فتوكل على الله إنك على الحق المبين) [النمل: 79].
• (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) [الجاثية: 18].
• (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) [النساء: 65].
الشعور الثاني: الاعتزاز باعتناقها:
وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا أهل الحق وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم يتخبط في الظلام، وما دام بين يديهم هدى السماء لإرشاد الأرض، فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذة الناس.. وجاء القرآن الكريم يثبت هذا المعنى ويزيده وضوحاً، وصاروا يتلقون عن نبيهم من وحي السماء:
• (كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران: 110].
• (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) [البقرة: 143].
• وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: 78].
الشعور الثالث: الأمل في تأييد الله إياها:
وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا لاحق معتزين بانتسابهم إليه، فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم ويمدهم إذا تخلى عنهم الناس، ويدع عنهم إذا أعوذهم النصير، وهو معهم أينما كانوا. وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزل عليهم المدد من جند السماء، وأخذوا يقرأون هذه المعاني واضحة في كتاب الله:
• (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) [الأعراف: 128].
• (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) [الأنبياء: 105].
• (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز) [الحج: 40].
• (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) [المجادلة: 21].
• (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعملون) [يوسف: 21].
• (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا) [الأنفال: 21].
• (وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين) [الروم: 47].
• (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) [القصص: 5] (دعوتنا في طور جديد).
إن تركيب المكنة النفسية، وإيجاد الكتلة الحرجة من المشاعر في كل أمة هو فن استراتيجي، ولنا أن نسأل كيف نجح الغرب في تركيب هذه المكنة لشعوبه المهزومة طوال عشرة قرون؟
وكيف نجح اليابانيون والألمان والصينيون واليهود في فعل ذلك، وكيف نزعت المكنة النفسية من أمتنا بعد أن اجتاحت وتقدمت الأمم قبلها حتى منتصف القرن السادس عشر؟؟ ذلك سؤال في غاية الخطورة والأهمية، وسوقه لكل المهتمين بعملية النهضة، ولكل المثبطين من أبناء هذه الأمة الداعين للارتهان للغرب اليوم.
ولكن لنعود .. ونؤكد أن من أهم شروط وقوانين قيام نهضة مستدامة هو بالقطع القوة الدافعة أو المكنة النفسية، كما حددها بوضوح الأستاذ البنا
قوانين النهضة – التغيير الذاتي
القانون الثالث: التغيير الذاتي
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 11] وفي هذا، يقرر الأستاذ البنا أن:
هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 11] وهو أيضاً القانون الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود: (يوشك الأمم أن تداعي عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
أو لست تراه صلى الله عليه وسلم قد بين أن سبب ضعف الأمم وذلة الشعوب وهن نفوسها وضعف قلوبها، وخلاء أفئدتها من الأخلاق الفاضلة وصفات الرجولة الصحيحة، وإن كثر عددها وزادت خيراتها وثمراتها. وإن الأمة إذا رتعت في النعيم وأنست بالترف وغرقت في أعراض المادة وافتتنت بزهرة الحياة الدنيا، ونسيت احتمال الشدائد ومقارعة الخطوب والمجاهدة في سبيل الحق، فقل على عزتها وآمالها العفاء (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
إن المطلوب هو تغيير إيجابي في عالم الأفكار وعالم المشاعر وعالم النظم والعلاقات، أي عالم النفوس، ليتغير من حولنا عالم الأشياء، تلك هي الحقيقة الثالثة
قوانين النهضة – مستلزمات الانطلاق والبدء
القانون الرابع: مستلزمات الانطلاق والبدء
ويحدد الأستاذ البنا مستلزمات مشروع النهضة بقوله:
إن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور:
1- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.
2- وفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.
3- تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.
4- معرفة بالمبدأ والإيمان به وتقدير له يعصم الخطأ فيه، والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره.
على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة وتتكون الشعوب الفتية وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً.
وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً. وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام: (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
وهنا تأتي نقطة البدء الصحيحة في الحالة النفسية الصحيحة. وكل أمة تهزم نفسياً فقد كتبت على نفسها الذل والضياع. إن جهودنا الأساسية ابتداء يجب أن تركز على البعث النفسي والمعرفي. والأمة التي تحس بذاتها وقدراتها عن يقين، وتمتلك المعرفة بالطريق للنصر لا يمكن أن يخطأها قانون العدل الإلهي.
قوانين النهضة – مقومات نجاح الأفكار
القانون الخامس: مقومات نجاح الأفكار (الشباب)
ولنجاح المشروع، ركز الأستاذ البنا بحق، على العمود الفقري لإحداث النهضة وهم الشباب. وأكد على الخصائص الأربعة اللصيقة بالشباب، والكفيلة بإحداث نهضة قوية مستدامة، وفي ذلك يقول:
إنما تنجح الفكرة إذا قوى الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها، وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة:
1- الإيمان.
2- والإخلاص.
3- والحماسة.
4- والعمل.
من خصائص الشباب. لأن أساس الإيمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب. ومن هنا كان الشباب قديماً وحديثاً في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها، (إنهم فتية أمنوا بربهم وزدناهم هدى) [الكهف: 13] (رسالة إلى الشباب).
ويترتب على ذلك أن تهتم الأمة التي تريد النهوض: بغرس فكرة النهضة، والعمل لها، في الشباب فهم الجينات الاجتماعية الرئيسة التي تحمل هذه المواصفات أكثر من غيرها.
قوانين النهضة – إعداد الرجال
القانون السادس: إعداد الرجال:
إنها (أي الأمم المجاهدة) في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب.
يقول الأستاذ البنا عن المقياس الحقيقي للنهضة، والمؤشر الأساسي لقوة الأمم:
إن الرجل سر حياة الأمم ونهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقويات النفوس والإرادات. وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة (رسالة هل نحن قوم عمليون).
وعلى ذلك، تخرج قضية التربية لتحتل قلب العملية النهضوية، وتنتقل من شأن محلي لقضية وجود للأمة والمجتمع.
قوانين النهضة – المتطلبات الأولية للنهضة
القانون السابع: المتطلبات الأولية للنهضة
يقول الأستاذ البنا:
أنت إذا راجعت تاريخ النهضات في الأمم المختلفة شرقية وغربية قديماً وحديثاً رأيت أن القائمين بكل نهضة موفقة نجحت وأثمرت كان لهم منهاج محدد عليه يعملون، وهدف محدد إليه يقصدون، وضعه الداعون إلى النهوض وعملوا على تحقيقه ما امتد بهم الأجل وأمكنهم العمل، حتى إذا حيل بينهم وبينه وانتهت بهم تلك الفترة القصيرة فترة الحياة في هذه الدنيا، خلفهم من قومهم غيرهم يعملون على منهاجهم ويبدءون من حيث انتهى أولئك، لا يقطعون ما وصلوا ولا يهدمون ما بنوا ولا ينقضون ما أسسوا وشادوا ولا يخربون ما عمروا. فإما زادوا عمل أسلافهم تحسيناً أو مكنوا نتائجه تمكيناً. وإما تبعوهم على آثارهم فزادوا البناء طبقة وساروا بالأمة شوطاً إلى الغاية حيث يصلون بها إلى ما تبتغي. أو ينصرفون راشدين ويخلفهم غيرهم وهكذا دواليك حتى تحقق الآمال وتصدق الأحلام ويتم النهوض ويثمر الجهاد وتصل الأمة إلى ما إليه قصدت وله عملت (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) [الزلزلة: 7] (رسالة هل نحن قوم عمليون).
وعليه، فمتطلبات النهضة تتمثل فيما يلي:
1- هدف محدد.
2- منهاج محدد للوصول إلى الهدف المبتغى.
3- داعين يعملون لتطبيق المنهاج.
4- أتباع يعملون وفقاً للمنهاج ويواصلون البناء.
وهنا، يركز الأستاذ البنا على قضية أساسية يجب أن تصح عند الاضطلاع بمشروع النهضة، وأن تحيا في عملية التنفيذ، وهي وضوح الهدف والمنهاج وتجميع طاقات العاملين للنهضة، ثم تتابع أداء الأجيال من حيث انتهى من سبقوهم، أي عملية التواصل، بدلاً من البدء من الصفر في كل مرة، وفي هذا ضياع للجهد وهدر للإمكانية وتخبط في التنفيذ وصعوبة متزايدة في تحقيق المشروع
قوانين النهضة – مقياس العمل الدعوى
القانون الثامن: مقياس العمل الدعوى:
استنتج الأستاذ البنا قانوناً حدد فيه مقياساً ومؤشراً جيداً يستدل به على نتيجة الجهد والعمل المبذول لدعاة النهضة ورجالاتها:
إن الغاية الأخيرة، والنتيجة الكاملة، لا تتحقق إلا بعد:
1- عموم الدعاية (الرأي العام).
2- وكثرة الأنصار (شبكة العلاقات).
3- ومتانة التكوين (بناء المؤسسات). (رسالة المؤتمر الخامس)
وعليه، فحركة النهضة تحتاج إلى كل شرائح الأمة لكي تشترك في هذا المشروع الفارق بين الحياة والموت، على أساس من الانتشار وإقامة العلاقات والبناء المؤسسي
قوانين النهضة – التدافع الإنساني
القانون التاسع: التدافع الإنساني:
• (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً) [الحج: 40].
• (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) [البقرة: 251].
• (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) [الرعد: 17].
• (ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته) [الشورى: 24].
• (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) [الأنبياء: 18].
يقول الأستاذ البنا:
لقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب وتتنازع البقاء أشد التنازع، وتكون الغلبة دائماً للقوى السابق. وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتائج غاليط الماضي ونتجرع مرارتها وأن يكون علينا رأب الصدع وجبر الكسر وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا واسترداد عزتنا ومجدنا وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا.
كذلك شاءت لنا ظروفنا أن نواجه كل ذلك وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية. وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف، وصراع قوي شديد بين الحق والباطل وبينا لنافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وإن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد والجهد هو التعب والعناء وليس من الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى (رسالة هل نحن قوم عمليون).
ولا يوجد حراك ونهضة من غير فعل ومواجهة وتدافع وصراع وكفاح وجهاد، هذا الحشد من الكلمات يشهد له التاريخ كما يؤكده الحاضر. فإذا قررت الأمة أن تنهض فلا خيار أمامها إلا أن تحشد طاقاتها في المواجهة. تلك هي الحقيقة الثانية التي يسوقها الأستاذ البنا
قوانين النهضة – قانون الاستشراف والفرصة
القانون العاشر: قانون الاستشراف والفرصة:
يقول الأستاذ البنا:
إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام، وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة، وإن العالم ينتظر دعوتكم؛ دعوة الهداية، والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام. وإن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وترجون من الله ما لا يرجون، فاستعدوا واعملوا .. (رسالة المؤتمر الخامس).
هذه هي الدروس أو القوانين التي تحكم – وفقاً لفكر الأستاذ البنا – عملية النهضة، وتوفر – بعون الله وتوفيقه – مقومات نجاح مشروعها، ومن ثم إقامة مجتمع نهضوي يتمتع بالحياة الطيبة الكريمة، وينعم بتقدم وتنمية مستدامة
قوانين النهضة – التداول والاستبدال الحضاري
القانون الحادي عشر: التداول والاستبدال الحضاري
يقول الأستاذ البنا:
اعلم وتعلم أن مثل الأمم في قوتها وضعفها وشبابها وشيخوختها وصحتها وسقمها مثل الأفراد سواء بسواء .. وعلاجها إنما يكون بأمور ثلاثة: معرفة موطن الداء، والصبر على آلام العلاج، والطيب الذي يتولى العلاج، وهذا مصداق لقول الله في سورة آل عمران: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظة للمتقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139) إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القومَ قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين). [آل عمران: 137-141] (رسالة دعوتنا).
ونحن نقول إن قانون التداول يسري على الجميع، فكل من فاته قطار اليوم يجب أن يعد العدة لقطار الغد، فهو قادم لا محالة. والعبرة بالاستعداد والفعل الإنساني، والأخذ بالأسباب، ومن ثم التوكل على الله.
إن القرآن الكريم يطرح في هذا المقطع التاريخي ذي المغزى العميق، والذي ترد فيه كلما ت ذات علاقة عضوية بالمسألة مثل: سنن، مداولة، تمحيص، قاعدة أساسية في موقفه إزاء الدول والتجارب البشرية والحضارات، إنه يقرر منذ البدء عدم ديمومة أي من هذه المعطيات، ولا يستثنى الإسلام والمسلمين. وقد قال الله تعال في الآية بين الناس بمعنى عموم هذا القانون أو السنة التي لا محيص عنها، والتي تقوم بلا ريب على أسبابها ومقدماتها في صميم الفعل الإنساني نفسه، حيث توحى هذه المداولة بالحركة الدائمة بالتجديد وبالأمل البشري الذي يرفض السكون، ويرغب في الانطلاق نحو الفعل الحضاري الإيجابي الذي يمكنه من استعادة ذاتيته الحضارية.
إن الإسلام يعترف بسقوط الدول والحضارات، عندما تتكاثف الأمراض الحضارية في شكل ظاهرة يطلق عليها القرآن الكريم: الاستبدال أو الاستخلاف. وهذا مصداق لقوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) [محمد: 38]، وقوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) [يونس: 14].
إن أمتنا تقف على مفترق الطريق، وهي إذا تجذر عندها الوعى بهذا القانون، فيبقى أن تعد العدة وترتب أوراقها لتأخذ دورها.
قوانين النهضة – الدعائم السبعة للنهضة
القانون الثاني عشر: الدعائم السبعة للنهضة:
يقول الأستاذ البنا:
ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة، ولقد امتلأ القرآن الكريم بتصوير هذه الناحية خاصة، وضرب الأمثال فيها بالإجمال تارة وبالتفصيل تارة أخرى، وعالج هذه النواحي علاجاً دقيقاً واضحاً، لا تأخذ به أمة حتى تصل إلى ما تريد (رسالة نحو النور).
فالإسلام كفيل بإمداد الأمة الناهضة، وفقاً لتحليل الأستاذ البنا، بالدعائم أو عناصر القوة التالية:
1- الأمل الواسع الفسيح.
2- الاعتزاز بالقومية والتاريخ المجيد.
3- القوة والاستعداد والجندية.
4- العلم الغزير (علم الدنيا وعلم الدين).
5- الخلق الفاضل القوى المتين، والنفس العالية الطموح.
6- المال والاقتصاد.
7- نظم للفرد والأسرة والأمة والشعب والحكومة والعلاقات بين الأمم.
ولقد فصل الأستاذ البنا هذه العناصر تفصيلاً دقيقاً في رسالة نحو النور، ونجمل ما قدمه فيما يلي:
الدعامة: الأولى: الأمل الواسع الفسيح: (الأمل)
يقول الأستاذ البنا إن الأمة الناهضة تحتاج إلى الأمل الواسع الفسيح، وقد أمد القرآن أممه بهذا الشعور بأسلوب يخرج من الأمة الميتة أمة كلها حياة وهمة وأمل وعزم، وحسبك أنه يجعل اليأس سبيلاً إلى الكفر، والقنوط من مظاهر الضلال. ولنقرأ قوله تعالى:
• (ونريد أن نّمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم في الأرض) [القصص: 5-6].
• (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139) إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين النّاس) [آل عمران: 139-140].
• (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار) [الحشر: 2].
• أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم الباساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب). [البقرة: 214].
الدعامة الثانية: الاعتزاز بالقومية والتاريخ المجيد: (العزة)
ويقرر الأستاذ البنا أن الأمم الناهضة تحتاج إلى الاعتزاز بقوميتها كأمة فاضلة مجيدة لها مزاياها وتاريخها، حتى تنطبع الصورة في نفوس الأبناء، فيفدون ذلك المجد والشرف بدمائهم وأرواحهم، ويعملون لخير هذا الوطن وإعزازه وإسعاده، ولنقرأ قوله تعالى:
(كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس) [آل عمران: 110).
(وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) [القرة: 143].
(ولله العزةٌ ولرسوله وللمؤمنين) [المنافقون: 8].
الدعامة الثالثة: القوة والاستعداد والجندية: (القوة)
ويؤكد الأستاذ البنا حاجة الأمم الناهضة إلى القوة وطبع أبنائها بطابع الجندية، ولا سيما في هذه العصور التي لا يضمن فيها السلم إلا بالاستعداد للحرب، والتي صار شعار أبنائها جميعاً:
القوة أضمن طريق لإحقاق الحق، ولنقرأ قوله تعالى:
• (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوكم) [الأنفال: 60]
• (كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم) [البقرة: 216].
• (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) [النساء: 74].
• (إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص) [الصف: 4].
الدعامة الرابعة: العلم الغزير (علم الدنيا وعلم الدين): (العلم)
ويرى الأستاذ البنا، بحق، أنه كما تحتاج الأمم إلى القوة تحتاج كذلك إلى العلم الذي يوازن هذه القوة ويوجهها أفضل توجيه، ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومتشفات ولنقرأ قوله تعالى:
• (اقرأ باسم ربّك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علّم الإنسان ما لم يعلم) [العلق: 1-5].
• (قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) [الزمر: 9].
• (ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جُدد بيض وحمرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 27-28].
الدعامة الخامسة: الخلق الفاضل والنفس الطموح: (الخلق)
ويشدد الأستاذ البنا على حقيقة أن الأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى الخلق الفاضل القوى المتين، والنفس الكبيرة العالية الطموح، إذ أنها ستواجه من مطالب العصر الجديد –عصر النهضة- ما لا تستطيع الوصول إليه إلا بالأخلاق القوية الصادقة النابعة من الإيمان العميق والثبات الراسخ والتضحية الكبيرة والاحتمال البالغ. ولنقرأ قوله تعالى:
• (قد أفلح من زكّاها (9) وقد خاب من دسّاها) [الشمس: 9-10].
• (إنّ الله لا يغير ما بقومٍ حتّى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 11].
• (من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا (23) ليجزي الله الصادقين بصدقهم) [الأحزاب: 23-24].
الدعامة السادسة: المال والاقتصاد: (المال)
ويبرز الأستاذ البنا مدى أهمية المال والاقتصاد في نهضة الأمم، فيقول إن الأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى تنظيم شئونها الاقتصادية، وهي أهم الشئون في هذا العصر. ولنقرأ قوله تعالى:
• (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) [النساء: 5].
ولنعٍ قول رسولنا صلى الله عليه وسلم:
• نعم المال الصالح للرجل الصالح (حديث شريف).
الدعامة السابعة: نظم للفرد والأسرة والأمة والشعب والحكومة والعلاقات بين الأمم: (النظم)
وأخيراً، أكد الأستاذ البنا أنه بجانب الدعائم السابقة والخاصة بنهضة الأمم مباشرةً، فإن الإسلام قد قدم نظماً على كافة المستويات من الفرد حتى المجتمع الدولي لإقامة المجتمع السوي الناهض المتقدم. وفي ذلك يقول الأستاذ البنا:
هذه ناحية واحدة من نواحي الجمال في بعض النظم الإسلامية وهي النظم الخاصة بنهضة الأمم، على اعتبار أننا نستقبل عهد النهضة، أما كل ناحي الجمال في كل النظم الإسلامية فذلك ما يحتاج إلى مجلدات ضخام وبحوث واسعة مترامية الأطراف، وحسبنا أن نقول كلمة مجملة كل الإجمال وهي: أن نظم الإسلام فيما يتعلق بالفرد أو الأسرة أو الأمة حكومتها وشعبها، أو صلة الأمم بعضها ببعض، نظم الإسلام في ذلك كله قد جمعت بين الاستيعاب والدقة وإيثار المصلحة وإيضاحها، وأنها أكمل وأنفع ما عرف الناس من النظم حديثاً أو قديماً. هذا حكم يؤيده التاريخ ويثبته البحث الدقيق في كل مظاهر حياة الأمة (رسالة نحو النور).
إن كل مفردة من هذه المفردات السبعة تحتاج إلى البحث والتدقيق والنظر. وقد وضع الأستاذ البنا ثلاثية الخلق الفاضل والعلم الغزير والقوة السابغة في قلب هذه السباعية كمحرك أساسي لعملية النهضة. وكل عامل للنهضة يجب أن يدقق في مفهوم الخلق الفاضل ومفهوم العلم الغزير ومفهوم القوة السابغة سواء على مستوى حركة التجمعات والهيئات أو على مستوى الأمة والمجتمع ككل.
كيفية التعامل مع القوانين والسنن
إن أول شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم، هو أن نفهم أو نفقه فقهاً شاملاً رشيداً هذه السنن.
وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي أو ما نعبر عنه بـ فقه السنن، ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعية والمعادلات الحضارية.
يقول الأستاذ البنا في تحديد منهجية التعامل مع السنن:
لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النص. وما هي منكم ببعيد (رسالة المؤتمر الخامس)
وعليه، يرى الأستاذ البنا أن منهجية التعامل مع السنن، تتطلب العناصر المحددة التالية:
1- عدم المصادمة.
2- المغالبة.
3- الاستخدام.
4- التحويل.
5- الاستعانة ببعضها على بعض.
6- ترقب ساعة النصر.
وبعد هذه السياحة في دراسة التاريخ، ودراسة الواقع والدروس المستفادة والاستعداد للنهوض بالأمة من جديد، يخلص الأستاذ البنا إلى أن هذه المعرفة والدراسة ليست للتخزين، وإنما للتحريك والدفع، لإقامة مشروع النهضة المبتغاة. ولنقرأ معاً قوله:
فعلى هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم وأصلحوا نفوسكم وركزوا دعوتكم وقودوا الأمة إلى الخير، والله معكم ولن يتركم أعمالكم (رسالة المؤتمر الخامس).
وعليه، فإن انقاذ الأمة يحتاد إلى إعادة إحياء هذا المشروع من جديد، ليتناسب مع حجم الأزمة والمأزق التاريخي الذي تمر به، ويكافأ مع الدور الجليل الذي أمرها الله به وخصها للقيام بأدائه لكونها الأمة الأفضل إذا تحققت بالشروط، صاحبة الرسالة الخاتمة والموعودة بالاستخلاف، والمبشرة بالتمكين، والمكلفة بعمارة أرض الله، والمنوطة بالشهادة على الناس.
هذا المشروع –في تقديرنا- يقوم على ثلاثة أركان أساسية هي:
1- الدعوة (تنظيم الجهود العملية).
2- الدولة (الكيان السياسي).
وهذا ما سنفصله في البابين التاليين بإذن الله وحوله وتسديده.
أسس وخصائص الدعوة – الأساس الفكري (الإسلام)
تمهيد: إعادة بعث وإنقاذ
الفصل السادس: أسس الدعوة وخصائصها.
الفصل السابع: مرجعية مشروع النهضة.
الفصل الثامن: غاية الدعوة.
الفصل التاسع: عناصر الدعوة.
الفصل العاشر: البناء التربوي للدعوة.
تمهيد – دعوة إعادة بعث وإنقاذ
يقول الأستاذ البنا في رسالته التاريخية بين الأمس واليوم واصفاً السياق الذي جاءت فيه دعوة النهضة قائلاً:
ونستطيع بعد ذلك أن نقول إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي على الحضارة الإسلامية بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس ميدانها نفوس المسلمين وارواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري. ولا عجب في هذا، فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ، والقوة قوة فيها جميعاً، والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك (وتلك الأيام نداولها بين الناس) [آل عمران: 140].
وكما كان لذلك العدوان السياسي أثره في تنبيه المشاعر القومية، كان لهذا الطغيان الاجتاعي أثره كذلك في انتعاش الفكرة الإسلامية، فارتفعت الأصوات من كل مكان تطالب بالرجوع إلى الإسلام وتفهم أحكامه وتطبيق نظامه. ولابد أن يأتي قريباً ذلك اليوم الذي تندك فيه صروح هذه المدينة المادية على رؤوس أهلها، وحينئذ يشعرون بسعير الجوع الروحي تشتعل به قلوبهم وارواحهم ولا يجدون الغذاء والشفاء والدواء إلا في تعاليم هذا الكتاب الكريم: (يا ايها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاءٌ لما في الصدور وهدىً ورحمة (57) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون) [يونس: 57-58] (رسالة بين الأمس واليوم).
في ظل المأزق التاريخي للأمة، جاءت دعوة الأستاذ البنا التي نادى بها، محاولاً أن يقدم مشروعه النهضوي الإسلامي، ليخرج الأمة من كبوتها، وينقذها من أزمتها. وكان واضحاً لديه منذ اللحظة الأولى مدى صعوبة هذا العمل، ومدى أهميته التاريخية، وها هو ينادي طلائع الإخوان مثبتاً ما اعتقده من دور لحركته:
وهكذا أيهاالإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات، وأن يشرق نور دعوتكم في ثنايا هذا الظلام، وان يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد: (ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويٌ عزيز) [الحج: 40] (رسالة بين الأمس واليوم).
الفصل السادس – أسس وخصائص الدعوة
القسم الأول: الأساس الفكري.
القسم الثاني: الخصائص الفكرية.
القسم الثالث: الشرعية التاريخية.
القسم الرابع: الامتداد الحضاري
القسم الأول – الأساس الفكري (الإسلام)
لقد أكد الأستاذ البنا منذ اليوم الأول لدعوته أن مرجعية الدعوة العليا هي الإسلام:
ومن الحق أيها الإخوان أن نذكر أننا ندعو بدعوة الله وهي أسمى الدعوات، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوم الفكر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) [البقرة: 138]، وأن العالم كله في حاجة إلى هذه الدعوة وكل ما فيه يمهد لها ويهيئ سبيلها (رسالة بين الأمس واليوم).
ويفصل ذلك بقوله:
لقد آمنا إيماناً لا جدال فيه ولا شك معه، واعتقدنا عقيدةً أثبت من الرواسي وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ البشرية المعذبة، وترشد الإنسانية الحائرة وتهدي الناس إلى سواء السبيل، وهي تستحق أن يضحي في سبيل إعلانها والتبشير بها وحمل الناس عليها بالأرواح والأموال وكل رخيص وغال، هذه الفكرة هي: الإسلام الحنيف الذي لا عوج فيه ولا شر معه ولا ضلال لمن اتبعه:
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيــز الحكيم (18) إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمران: 18-19]. (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [المائدة: 3].
ففكرتنا لهذا إسلامية بحتة، على الإسلام ترتكز ومنه تستمد وله تجاهد وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل. لا تعدل بالإسلام نظاماً، ولا ترضى سواه إماماً، ولا تطيع لغيره أحكاماً: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) [آل عمران: 85] (رسالة إلى الشباب).
وشدد الأستاذ البنا على الحقيقة الإيمانية بأن كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها وضعها الخالق تبارك وتعالى في هذا الدين. ولنقرأ قوله:
يعتقد الإخوان المسلمون أن الله تبارك وتعالى حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم رضي لهم الإسلام ديناً، وضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها، وذلك مصداق قول الله تبارك وتعالى: (الّذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) [الأعراف: 157] (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
أسس وخصائص الدعوة – الخصائص الفكرية
القسم الثاني – الخصائص الفكرية
تتميز هذه الدعوة بمجموعة من الخصائص التي تميزها عن غيرها من الدعوات، وهي ليست خصائص شكلية، وإنما تمثل جوهر الفكرة التي يقوم عليها هذا المشروع الحضاري الذي يستنهض بالأمة من جديد. ولهذا، فإن كل خاصية من الخصائص المميزة لهذه الدعوة لها مدلولها على الجوانب المختلفة لحياة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلخ. وتشمل هذه الخصائص تسع خصائص، ذكرها الأستاذ البنا في أكثر من موقع في رسائله.
1- الربانية:
وفي ذلك يقول الأستاذ البنا:
أما أنها ربانية، فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعاً، أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها. ونحن الإخوان المسلمين نهتف من كل قلوبنا: الله غايتنا. فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالى، والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 21]. وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعاً، فلم يستطيعوا إلى حلها سبيلاً، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح (رسالة دعوتنا في طور جديد).
2- العالمية:
وعن هذه الخاصية، يقرر الأستاذ البنا:
وأما أنها عالمية فلأنها موجهة إلى الناس كافة لأن الناس في حكمها إخوة: أصلهم واحدة، وأبوهم واحد، ونسبهم واحد لا يتفاضلون إلا بالتقوى وبما يقدم أحدهم للمجموع من خير سابغ وفضل شامل (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) [النساء: 1]. فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية، ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان، ولكننا ندعو إلى الأخوة العادلة بين بني الإنسان (رسالة دعوتنا في طور جديد).
3- التمييز:
وفي رسالة المؤتمر الخامس، يقرر الأستاذ البنا خاصية التميز فيقول:
واسمحوا لي أيها السادة أن أستخدم هذا التعبير (إسلام الإخوان المسلمين)، ولست أعني به أن للإخوان المسلمين إسلاماً جديداً غير الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، وإنما أعني أن كثيراً من المسلمين في كثير من العصور خلعوا على الإسلام نعوتاً وأوصافاً وحدوداً ورسوماً من عند أنفسهم، واستخدموا مرونته وسعته استخداماً ضاراً، مع أنها لم تكن إلا للحكمة السامية، فاختلفوا في معنى الإسلام اختلافاً عظيماً، وانطبعت للإسلام في نفوس أبنائه صور عدة تقرب أو تبعد أو تنطبق على الإسلام الأول الذي مثله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير تمثيل. وهكذا اتصل الإخوان بكتاب الله واستلهموه واسترشدوه، فأيقنوا أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل، وأنه يجب أن يهيمن على كل شئون الحياة وأن تصطبغ جميعها به وأن تنزل على حكمه وأن تساير قواعده وتعاليمه وتستمد منها ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلاماً صحيحاً (رسالة المؤتمر الخامس).
4- الشمولية:
وفي تحديد لهذه الخاصية، يفصل الأستاذ البنا فيقول:
كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك، إن الإخوان المسلمين: دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية. وهكذا نرى أن شمول معنى الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولاً لكل مناحي الإصلاح، ووجه نشاط الإخوان إلى كل هذه النواحي، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلى ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعاً، ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعاً (رسالة المؤتمر الخامس).
ويلخص الأستاذ البنا معنى هذه الخاصية بقوله:
الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء (رسالة التعاليم).
ولتأكيد هذه الخاصية فكراً وسلوكاً لجميع البشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها يقول الأستاذ البنا:
… ولكننا أيها الناس: فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين (رسالة تحت راية القرآن).
5- العلمية:
ولتأكيد ضرورة العلم في مشروع النهضة، يقول الأستاذ البنا:
كما تحتاج الأمم إلى لاقوة كذلك تحتاج إلى العلم الذي يؤازر هذه القوة ويوجهها أفضل توجيه، ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات، والإسلام لا يأبى العلم بل يجعله فريضة من فرائضه كالقوة ويناصره، .. وقد وزن الإسلام مداد العلماء بدم الشهداء، ولازم القرآن بين العلم والقوة في الآيتين الكريمتين (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (122) يا أيها آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ليجدوا فيكم غلظةً واعلموا أن الله مع المتقين) [التوبة: 122-123]… ولم يفرق القرآن بين علم الدنيا وعلم الدين، بل أوصى بهما جميعاً، وجمع علوم الكون في آية واحدة، وحث عليها وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته، وذلك في قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جُدد بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلفٌ ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) [فاطر: 27-28] (رسالة نحو النور).
6- العقلانية:
وعن هذه الخاصية يقول الأستاذ البنا:
أيها الأخوان المسلمون: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة. ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها. واستعينوا ببعضها على بع وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد (رسالة المؤتمر الخامس).
7-الاستقلالية:
وعن هذه الخاصية، يؤكد الأستاذ البنا بأنها:
دعوة لا تقبل الشركة إذ أن طبيعتها الوحدة، فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به، ومن ضعف عن هذا العبء فسيحرم ثواب المجاهدين ويكون من المخلفين ويقعد مع القاعدين، ويستبدل الله لدعوته قوماً آخرين (أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء) [المائدة: 54] (رسالة دعوتنا).
8- العملية:
وعن صفة العملية، يحدد الأستاذ البنا أسبهابها الرئيسية فيقول:
وأما إيثار الناحية العملية على الدعاية والإعلانات، فقد أثارها في نفس الإخوان ودعا إليها في مناهجهم أمور: منها ما جاء في الإسلام خاصاً بهذه الناحية بالذات، ومخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء فيسرع إليها التلف والفساد، والموازنة بين هذه النظرة وبين ما ورد في إذاعة الخير، والأمر به والمسارعة إلى إعلانه ليتعدى نفسه، أمر دقيق قلما يتم إلا بتوفيق. ومنها نفور الإخوان الطبيعي من اعتماد الناس على الدعايات الكاذبة والتهريج الذي ليس من ورائه عمل. ومنها ما كان يخشاه الإخوان من معالجة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة ينتج عن كليهما تعويق في السير أو تعطيل عن الغاية (رسالة المؤتمر الخامس).
9- الوسطية:
وعن هذه الخاصية يقرر الأستاذ البنا ضرورتها للمشروع الإسلامي فيقول:
هذا الإسلام الذي بني على المزاج المعتدل والإنصاف البالغ،…، والمسلمون اليوم بحاجة أكيدة لهذه الخاصية، تمكنهم من تقديم فكرتهم ومشروعهم الإسلامي كنموذج حضاري بديل للبشرية كلها يكون شاهداً عليها، مصداقاً لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) [البقرة: 143] (رسالة نحو النور).
من هذا العرض المختصر لأساس الدعوة وخصائصها الفكرية، يتضح لنا جلياً أن أساس دعوتا بعامة، ومشروعنا النهضوي بخاصة، والخصائص الفكرية التي يتصفان بها .. تنبثق جملةً وتفصيلاً، وفقاً لفكر الأستاذ البنا، من إسلامنا العظيم كدين ونظام حياة شامل وكامل
أسس وخصائص الدعوة – الشرعية التاريخية
القسم الثالث – الشرعية التاريخية
ونعرض لها في بندين:
البند الأول: نهج الدعوة الأولى
إن مفهوم الشرعية لمشروع النهضة ينبثق من تعاليم الإسلام وقواعده، وتتأسس مشروعيته على دروس الدعوة الأولى. وعليه، فمشروع النهضة يعد امتداداً طبيعياً لنهضة الرعيل الأول، يهتدي بنورها، ويقتدي بسيرتها، ويعي دروسها، ويترسم خطواتها. وفي هذا يقول الأستاذ البنا:
إننا نتحرى بدعوتنا نهج الدعوة الأولى، ونحاول أن تكون هذه الدعوة الحديثة صدى حقيقياً لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها الرسول صلى الله عليه وسلم في بطحاء مكة قبل ألف ومئات من السنين، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة، الزاهي بجلال الوحى، لنقف بين يدي الأستاذ الأول وهو سيد المربين وفخر المرسلين لاهادين، لنتلقى عنه دروس الإصلاح من جديد، وندرس خطوات الدعوة من جديد (رسالة دعوتنا في طور جديد).
ويستطرد الأستاذ البنا في تفصيل الدعوة الأولى قائلاً:
وكانت تلك الدعوة الجامعة حداً فاصلاً في الكون كله، بين ماضٍ مظلم، ومستقبل باهر مشرق، وحاضر زاخر سعيد، وإعلاناً واضحاً مبيناً لنظام جديد شارعه الله العليم الخبير ومبلغه محمد البشير النذير، وكتابه القرآن الواضح المنير، وجنده السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وليس من وضع الناس، ولكنه صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة (رسالة بين الأمس واليوم).
البند الثاني: انتعاش الفكرة الإسلامية
ولعله من المناسب أن نستعرض في الأطوار التاريخية التي مرت بها الأمة الإسلامية –بإيجاز- كي يتضح السياق التاريخي الذي جاءت فيه الدعوة؛ لندرك جذورها التاريخية وامتدادها الطبيعي، مع العلم أننا أشرنا بشيء من التفصيل إلى ذلك في الباب الأول. وهذه الأطوار هي:
1- إعلان ميلاد الدعوة الجامعة (الدعوة)
2- قيام الدعوة الإسلامية الأولى (الدولة)
3- بداية التحلل في كيان الدولة (التحلل)
4- الصراع والتدافع السياسي (التدافع السياسي)
5- الصراع والتدافع الاجتماعي (التدافع الاجتماعي)
6- انتصار المشروع الغربي على المشروع الإسلامي (الهيمنة الغربية)
7- ظهور دعوة البعث والإنقاذ من جديد (إعادة البعث)
ويحدد الأستاذ البنا طور انتعاش الفكرة الإسلامية بعد العدوان السياسي على الأمة، فيقول:
وكما كان لذلك العدوان السياسي أثره في تنبيه المشاعر القومية، كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره كذلك في انتعاش الفكرة الإسلامية، فارتفعت الأصوات من كل مكان تطالب بالرجوع إلى الإسلام وتفهم حكامه وتطبيق نظامه. ولا بد أن يأتي قريباً ذلك اليوم الذي تندك فيه صروح هذه المدنية المادية على رؤوس أهلها، وحينئذ يشعرون بسعير الجوع الروحي تشتعل به قلوبهم وأرواحهم ولا يجدون الغذاء والشفاء والدواء إلا في تعاليم هذا الكتاب الكريم: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين (57) قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 57-58] (رسالة بين الأمس واليوم).
ثم يوضح أن التركة التي ورثها الإخوان مثقلة بالتبعات. وفي ذلك يقول:
وهكذا أيها الإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات، وأن يشرق نور دعوتكم في ثنايا هذا الظلام، وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد: (ولينصرنّ الله من ينصره إن لله لقويٌ عزيز) [الحج: 40] (رسالة بين الأمس واليوم).
وأخيراً، يحدد الأستاذ البنا بوضوح شديد نوعية الدعوة الجديدة كدعوة السلام والإنقاذ، وتوعية الرجال الذين يناصرون هذه الدعوة، فيقول:
أحب أن تتبينوا جيداً من أنتم في أهل هذا العصر؟ … وما دعوتكم بين الدعوات .. وأية جماعة جماعتكم .. ولأي معنى جمع الله بينكم ووحد قلوبكم ووجهتكم، وأظهر فكرتكم في هذا الوقت العصيب الذي تتلهف فيه الدنيا إلى دعوة السلام والإنقاذ؟ فاذكروا جيداً أيها الأخوة.. أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به للإنسانية بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل، وأنكم دعاة الإسلام، وحملة القرآن وصلة الأرض بالسماء، وورثة محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاء صحابته من بعده. وبهذا فضلت دعوتكم الدعوات، وسمت غايتكم على الغايات، واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وثقى لا انفصام لها، وأخذتم بنور مبين وقد التبست على الناس المسالك فضلوا سواء السبيل (والله غالب على أمره) [يوسف: 21] (رسالة المؤتمر السادس).
وعليه، تتحرى الدعوة الجديدة لمشروع النهضة نهج الدعوة الأولى، كدعوة إعادة بحث وسلام وإنقاذ بعد ما تعرضت له الأمة من عدوان سياسي. وبالرغم من عظم المسئوليات وثقل التبعات الخاصة بتركة سنوات الركود، فإن الدعوة الجديدة جاءت لإخراج الأمة من جديد من ظلمات البعد عن الإسلام إلى نور إظهاره والأخذ بشريعة الله على أيدي رجال يرجون مناصرة هذه الدعوة والعمل تحت رايتها، لا يعتمدون إلا على الله، ولا يستمدون المعونة والتأييد إلا منه، ولا يرجون إلا ثوابه ولا يبتغون إلا وجهه
أسس وخصائص الدعوة – الامتداد الحضاري
القسم الرابع – الامتداد الحضاري
ونتناول هذه الخاصية في البندين التاليين:
البند الأول: ورثة حضارة
إن قضية الأمة اليوم ليست في الأرض، فطالما ضاعت واستعيدت، ولكنها قضية الحضارة والوجود والشهود. إن العنصر الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي قد يطغى حيناً، ولكن جوهر الصراع هو وجود الأمة الحضاري. وفي هذا يؤكد الأستاذ البنا على أهمية رؤية الصراع في امتداده الحضاري، والذي أضاءت فيه الأمة ولقرون طويلة مصابيح الهداية، وقدمت للدنيا أعظم نموذج إنساني في العدالة والمساواة والحريات والحفاظ على حقوق الإنسان الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ورفعت مكانة العلم والعلماء ووضعتهم في مصاف الأنبياء، ورفعت من مكانة المرأة وكرامتها وتوجتها ملكة في أسرتها معززة مكرمة، وقدمت للبشرية أرقى فنون العمارة والمدنية تخطيطاً وتصميماً وتنفيذاً. وهذا ما أكده الأستاذ البنا في أكثر من موقع من رسائله، منها:
نحن ورثة حضارة عزيزة غالية
نحن أمة عظيمة مجيدة تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد. لقد ورثنا هذا الإسلام الحنيف واصطبغنا به صبغة ثابتة قوية، تغلغلت في الضمائر والمشاعر ولصقت بحنايا الضلوع وشغاف القلوب .. هذا الإسلام، عقيدته ونظمه ولغته وحضارته، ميراث عزيز غال علينا .. وهذه مشاعرنا لا تهتز لشيء اهتزازها للإسلام وما يتصل بالإسلام. كل ذلك حق، ولكن هذه الحضارة الغربية قد غزتنا غزواً قوياً عنيفاً بالعلم والمال، وبالسياسة والترف، والمتعة واللهو وضروب الحياة الناعمة العابثة المغرية التي لم نكن نعرفها من قبل (رسالة دعوتنا في طور جديد).
نحن أصحاب مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة
… وبهذه المشاعر الثلاثة: الإيمان بعظمة الرسالة والاعتزاز باعتناقها والأمل في تأييد الله إياها، أحياها الراعي الأول صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله، وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في أخلاقهم وأعمالهم معتدين بتكريم الله إياهم، واثقين بنصره وتأييده، فدانت لهم الأرض وفرضوا على الدنيا مدنية المبادئ الفضالة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدلوا فيها سيئات الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره (دعوتنا في طور جديد).
البند الثاني: الإحياء الحضاري
وهنا يؤكد الأستاذ البنا على حقيقة أننا مبعث المدنيات ومشرقنا مهبط الرسالات فيقول:
نحن مبعث المدنيا ومشرق الحضارات
ومن جهة أخرى، فإن هذا الشرق الذي وضع في صف المخربين والمدمرين هو مبعث المدنيات ومشرق الحضارات ومهبط الرسالات، وهو مفيض ذلك كله على الغرب، لا ينكر هذا إلا جاحد مكابر. ومثل هذه المزاعم الباطلة إنما هي نزوات من غرور الإنسان وطيش الوجدان، لا يمكن أن تستقر على اساسها نهضات أو تقوم على قاعدتها مدنيات، وما دام في الناس من يشعر بمثل هذا الشعور لأخيه الإنسان فلا أمن ولا سلام ولا اطمئنان حتى يعود الناس إلى علم الأخوة فيرفعونه خفاقاً، ويستظلون بظله الوارف الأمين، ولن يجدوا طريقاً معبدةً إلى ذلك كطريق الإسلام الذي يقول كتابه:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13]. ويقول نبيه صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من مات على عصبية) رواه أحمد من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه (رسالة دعوتنا في طور جديد).
إحياء الحضارة الإسلامية واجب وضرورة
لقد شاءت لنا الظروف أن ننشا في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب وتتنازع البقاء أشد التنازع، وتكون الغلبة دائماً للقوى السابق. وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتائج أغاليط الماضي ونتجرع مرارتها، وأن يكون علينا رأب الصدع وجبر الكسر وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا واسترداد عزتنا ومجدنا وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا (رسالة هل نحن قوم عمليون).
لن تتوقف حركة البندول الحضاري
لقد كانت قيادة الدنيا في وقت ما شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها النبوات الموسوية والعيسوية والمحمدية إلى الشرق مرة ثانية. ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ونهض الغرب نهضته الحديثة فكانت سنة الله التي لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويتخبط، فلم يبق إلا أن تمتد يد (شرقية) قوية يظللها لواء الله وتخفق على رأسها راية القرآن ويمدها جند الإيمان القوي المتين، فإذا بالدنيا مسلمة هانئه، وإذا بالعوالم كلها هاتفة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) [الأعراف: 43]. ليس ذلك من الخيال في شيء، بل هو حكم التاريخ الصادق، إن لم يتحقق (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [المائدة: 54]. بيد أننا نحرص على أن نكون ممن يحوزون هذه الفضيلة، ويكتبون في ديوان هذا الشرف (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [القصص: 68] (رسالة دعوتنا في طور جديد).
وعليه، فلنعمل جاهدين من خلال دستورنا (القرآن)، ودليل عملنا (السنة)، والتطبيق الصحيح (السلف الصالح)، لإعادة بعث الحضارة الإسلامية، واستمرار الدفع الحضاري الإسلامي
الفصل السابع – مرجعية مشروع النهضة
القسم الأول: المنهج الاعتقادي
القسم الثاني: المنهج الأصولي
القسم الثالث: المنهج الفقهي
القسم الرابع: المنهج العام
تقديـــم
إن الإسلام معنى فسيح، اتسع في الماضي والحاضر لطوائف كثيرة من الناس وشملها باسمه، وشاعت عند الفقهاء والعلماء عبارات من مثل: (واتفقت جميع طوائف الأمة على …)، هذه الطوائف اتفقت واختلفت، وأصابت وأخطأت، ولكن استمرت دوحة الإسلام الوارفة تظللها. ومع ذلك، حمّلت بعض قضايا الخلاف الأمة أمراضاً فكرية ومفاهيم مغلوطة عكرت صفو الانسجام والألفة، وهددت إمكانية الانطلاق الحضاري، والنهوض من هذه الكبوة الطويلة. ولم يكن في وسع الأستاذ البنا تجاهل هذه الحقيقة، وإهمال هذا الموضوع الخطير في فجر النهضة، وبداية الانطلاق. ولذلك تقدم الأستاذ البنا بمشروع جامع إلى الأزهر الشريف حول أهم الموضوعات الشرعية العالقة بين طوائف الأمة، في محاولة منه لتأسيس أرضية صالحة لانطلاق المشروع الإسلامي النهضوي من حيز احترار الماضي … إلى آفاق المستقبل المنشود.
المرجعية والمقياس:
وهنا نقدم بمسلمة يتم تجاوزها في كثير من الحوارث حول المرجعية الكلية لمشروع النهضة. إذ يقرر الأستاذ البنا أن تلك المرجعية لا يجب أن تكون محل خلاف، وهي الإسلام وكتابه الخالد. فكان لزاماً والحال كذلك، أن يتم تحديد المرجعية، إذ أنها بمثابة المصدر الذي يرتكز عليه في استنباط الأحكام والآراء والمواقف والمبادئ، وذلك للقياس عليها، ثم للانطلاق من أرضية مشتركة في الفهم والتصور، والإطار هو السور أو الحدود أو الأصول التي نفهم فيها الإسلام كأساس لهذه الدعوة. ولقد أكد الأستاذ البنا على أن الإطار المرجعي أو بمعنى آخر المقياس الذي نرجع إليه هو القرآن الكريم، وذلك بقوله:
أحب أن أحدد المقياس الذي نقيس به هذا التوضيح، وسأجتهد في أن يكون القول سهلاً ميسوراً، لا يتعذر فهمه على قارئ يحب أن يستفيد، وأظن أن أحداً من الأمة الإسلامية جميعاً لا يخالفني في أن يكون هذا المقياس (كتاب الله) نستقي من فيضه ونستمد من بحره ونرجع إلى حكمه (إلى أي شيء ندعو الناس).
ولتفصيل هذا الفهم العميق لمرجعية الدعوة ومقياسها حدد الأستاذ البنا أصول الفهم.
أصول الفهم:
دعا الأستاذ البنا من خلال ما أطلق عليه الأصول العشرين إلى عقد عام تكون ركيزته هذه الأصول، والتي حددت بوضوح ولا تزال أرضية الانطلاق الإسلامي نحو النهضة.
يقول الأستاذ البنا في كتابه نظرات في القرآن الكريم، وهو الذي ظهرت فيه هذه الأصول لأول مرة:
فكرت طويلاً أيها الإخوان في هذا الخلاف الذي يمكن أن نقول عنه خلافاً علمياً بين الجماعات الإسلامية في مصر أولاً وفي بلدان العالم الإسلامي ثانياً، وتلمست طويلاً العمل على جمع القلوب حول هدف أسمى تلتقي عند الأرواح المؤمنة وتتجه إليه القلوب العاملة، وتقوم على أساسه النهضة المنتظرة…
وقد أردت أن أضع أمام أنظار المفكرين من رجال الإسلام هذه الصيغ التي أعتقد أنها تقرب إلى أقصى حد بين وجهات النظر المختلفة… مع موافقتها للحق إن شاء الله… رجاء أن يطيلوا فيها النظر .. حتى إذا رأوها صالحة لجمع الكلمة، اتخذنا منها أساساً….
وعليه، فإن الأصول العشرين قد جاءت في سياق واضح، وتتابع منطقي محدد، وتقوم بحق بوضع أساس نهضوي لتعاون الساحة الإسلامية.
وهنا، يقول الأستاذ البنا:
1- إنها تقرب بين المتباعدين.
2- إنها موافقة للحق من الناحية العلمية.
ثم يطالب الأستاذ أن يطيل أهل العلم فيها النظر، وأن تصبح دستوراً للوحدة الثقافية بين المسلمين، كما ألزم بها أتباعه ومريديه بأن تصبح أول ركن في العهد بينه وبينهم على العمل أن يعوا هذه المسائل جيداً، وأن يدعوا الأمة إلى تبنيها ..
وسنحاول أن نعرض لهذه الأصول في مجموعات لسهولة التعامل معها كما يلي:
القسم الأول: المنهج الاعتقادي (أصول في فهم العقيدة).
القسم الثاني: المنهج الأصولي (أصول في فهم أصول الفقه).
القسم الثالث: المنهج الفقهي (أصول في فهم الفقه).
القسم الرابع: المنهج العام (أصول عامة).
القسم الأول – المنهج الاعتقادي
(أصول في فهم العقيدة)
1- أصل في شمول الإسلام:
الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء (الأصل الأول، رسالة التعاليم).
2- أصل في فهم آيات الصفات:
معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يلحق بذلك من التشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جءا فيها من خلاف بين العلماء؛ ويسعنا في ذلك ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربنا) [آل عمران: 7] (الأصل العاشر، رسالة التعاليم).
3- أصل في محظورات التكفير:
لا نكفر مسلماً أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض – برأي أو معصية- إلا أن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر (الأصل العشرون، رسالة التعاليم).
4- أصل في التوسل والدعاء:
والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة (الأصل الخامس عشر، رسالة التعاليم).
5- أصل في الظنون وادعاء معرفة الغيب:
والتمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب وكل ما كان من هذا لاباب منكر يجب محاربته (إلا ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة) (الأصل الرابع، رسالة التعاليم).
6- أصل في البدعة التي لا أصل لها:
وكل بدعة في دين الله لا أصل لها – استحسنها الناس بأهوائهم، سواء بالزيادة فيه أو النقص منه – ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شر منها (الأصل الحادي عشر، رسالة التعاليم).
7- أصل في بدع القبور والمقبورين:
وزيارة القبور –أيا كانت- سنة مشروعة بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا ونداءهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم وتشييد القبور وسترها وإضاءتها والتمسح بها والحلف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول هذه الأعمال سداً للذريعة (الأصل الرابع عشر، رسالة التعاليم).
8- أصل في الولاية والكرامة وصحة الاعتقاد في ذلك:
ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى، والأولياءهم المذكورون في قوله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) [يونس: 63] والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً في حياتهم أو بعد مماتهم فضلاً عن يهبوا شيئاً من ذلك لغيرهم (الأصل الثالث عشر، رسالة التعاليم)
المنهج الأصولي (أصول في فهم أصول الفقه)
القسم الثاني – المنهج الأصولي (أصول في فهم أصول الفقه)
هناك مشكلات تعترض طريق الأمة في تعاملها مع أصول الفقه ويجب الالتفات إليها، والتعرف على بعض الضوابط التي أدى تركها إلى الإضرار بمسيرتها نحو النهضة، والإخلال بالأرضية الصالحة للانطلاق من جديد. وعلم أصول الفقه هو العلم الذي يهتم بكيفية الوصول إلى الحكم الشرعي.
وتعرف الأصول: بأنها مجموعة من القواعد والبحوث يتوصل بها إلى استخراج الأحكام الشرعية العملية (الأحكام الفقهية). والعلماء قسموا مصادر الأصول إلى: أصول معتبرة، وتشمل: القرآن، والسنة، والإجماع والقياس. والمصادر أو الأدلة المختلف عليها وهي: (قول الصحابي، وشرع من قبلنا، وعمل أهل المدينة، والعرف، والاستصحاب، والاستحسان.. الخ). وأصول غير معتبرة، وتشمل: ما أضافه أهل التصف مثل: الكشف والرؤى، والإلهام، والخواطر.
9- أصل في المرجعية:
والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام،
(أ) ويفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف،
(ب) ويرجع فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات (الأصل الثاني، رسالة التعاليم).
10- أصل في انتفاء العصمة عن أقوال الرجال:
وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكننا لا نعرض للأشخاص –فيما اختلف فيه- بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا (الأصل السادس، رسالة التعاليم).
11- أصل في الأدلة غير المعتبرة للأحكام:
وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه (الأصل الثالث، رسالة التعاليم).
12- أصل في الاجتهاد والتقليد:
ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين، ويحسن به من هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح من أرشده وكفايته. وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر (الأصل السابع، رسالة التعاليم).
المنهج الفهقي (أصول في فهم الفقه)
القسم الثالث – المنهج الفهقي (أصول في فهم الفقه)
هذه المساحة من فهمنا للإسلام من اهم المساحات التي تؤثر على حركتنا نحو النهضة. وقد تعرض الأستاذ البنا لأهم ما يجب الأخذ به من أمور الفقه، حتى يصبح الفقه مصدر توسعة ورحمة واجتماع للأمة بدلاً من الاختلاف والفرقة. والفقه: هو العلم لاذي يعتني بالحكم الشرعي. ومن المعلوم أن هناك مدرستين في الفقه، نشأتا على إثر حادثة الصلاة في بني قريظة، هما: مدرسة النص (ماذا قال؟)، ومدرسة المقاصد (لماذا قال؟).
13- أصل في التفاضل بين الأعمال:
والعقيجة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعاً، وإن اختلفت مرتبتا الطلب (الأصل السابع عشر، رسالة التعاليم).
14- اصل في حقية العمل براي الإمام:
(أ) ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهاً عدة وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات.
(ب) والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسر والحكم والمقاصد (الأصل الخامس، رسالة التعاليم).
15- أصل في النهي عن التفرق في الدين:
والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي غلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلكإ لى المراء المذموم والتعصب (الأصل الثامن، رسالة التعاليم).
16- في النهي عن الخوض فيما لا ينبي عليه عمل:
وكل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية الكريمة التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف، ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته، وفي التأول مندوحة (الأصل التاسع، رسالة التعاليم).
17- أصل في البدع التي لا أصل لها في الدين:
والبدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادة المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه؛ ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان (الأصل الثاني عشر، رسالة التعاليم).
المنهج العام (أصول عامة)
القسم الرابع – المنهج العام (أصول عامة)
هناك مجموعة من الأصلو قد تندرج تحت منهج من المناهج السابقة، وبالذات المنهج الأصولي، ولكنها تبدو أنها تمس المناهج جميعاً. وعليه اعتبرناها مسائل عامة، وهي:
18- أصل في الاحتراز من العرف الخاطئ والخداع اللفظي:
(أ) والعرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ الشرعية، بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها، والوقوف عندها.
(ب) كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء (الأصل السادس عشر، رسالة التعاليم).
19- أصل في العلاقة بين النظر الشرعي والنظر العقلي:
وقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا في القطعي. فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة؛ ويؤول الظن منهما ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار (الأصل التاسع عشر، رسالة التعاليم).
20- أصل في مجال النظر العقلي:
والإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح النافع من كل شيء. و (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها هو أحق الناس بها) (الأصل الثامن عشر، رسالة التعاليم).
وهناك بعض الشروحات الهامة لهذا الأصل الأخير من كلام الأستاذ البنا في مواقع أخرى من الرسائل، من المفيد عرضها في هذا المجال إكمالاً للفائدة المرجوة إنش اء الله، وهي كما يأتي:
• إن العقل هو مناط التكليف:
أساس العقائد الإسلامية –ككل الأحكام الشرعية- كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويجب أن تعلمن مع ذلك، أن كل هذه العقائد يؤيدها العقل، ويثبتها النظر الصحيح؛ ولهذا شرف الله تعالى العقل بالخطاب، وجعله مناط التكليف، وندبه إلى البحث والنظر والتفكير. وطالب الخصوم بالدليل والبرهان حتى فيما هو ظاهر البطلان، تقديراً للأدلة، وإظهاراً لشرف الحجة .. ومن هنا تعلم أن الإسلام لم يحجر على الأفكار ولم يحبس العقول، وإن أرشدها إلى التزام حدها، وعرفها قلة علمها، وندبها إلى الاستزادة من معارفها (رسالة العقائد).
• ألوان التفكير في البحث عن المعرفة:
لقد حسمت الفكرة الإسلامية الجدل المعرفي، من حيث: مصادر المعرفة، ومنشؤها، وعلاقة المعرفة بالعقل، وعلاقة العلم بالغيب، وحددت لها إطاراً معرفياً متميزاً متناسقاً. لقد حسم هذا الإطار حالة التذبب العقلي لدى الإنسان، وحدد له منهجية التفكير السديد. يقول الأستاذ البنا في ذلك:
لقد تذبذب العقل البشري منذ وجد الإنسان على ظهر الأرض إلى يومه هذا – وأغلب الظن كذلك حتى تتداركه هداية من الله- بين أطوار ثلاثة، وإن شئت قلت بين ألوان ثلاثة من ألوان التفكير والتصوير:
1- طور الخرافة والبساطة والتسليم المطلق للغيب المجهول والقوى الخفية البعيدة عنه.
2- طور الجمود والمادية والتنكر لهذا الغيب المجهول.
3- الجمع بين العقليتين الغيبية والعلمية.
كلا هذين اللونين من ألوان التفكير خطأ صريح وغلو فاحش وجهالة من الإنسان بما يحيط بالإنسان، ولقد جاء الإسلام الحنيف يفصل القضية فصلاً حقاً، فيقرر حق العالم الروحي ويصف ذلك العالم الغيبي المجهول وصفاً يقربه إلى الأذهان ولا يتنافى مع بديهيات العقول .. وهو مع هذا يقرر هذا العالم المادي وما فيه من خير للناس لو عمروه بالحق وانتفعوا به في حدود الخير، ويدعو إلى النظر السليم في ملكوت السموات والأرض، ويعتبر هذا النظر أقرب إلى معرفة الله العلي الكبير (رسالة دعوتنا في طور جديد).
وإذا علم الأخ المسلم (دينه) في هذه الأصول، فقد عرف معنى هتافه دائماً:
الله غايتنا والقرآن دستورنا والرسول قدوتنا
• نختم هذا الفصل بكلام الأستاذ البنا مخاطباً العاملين معه والذي أكد فيه على نعمة الفهم السليم للإسلام، فيقول:
واذكروا جيداً أيها الأخوان.. أن الله منَّ عليكم، ففهمتم الإسلام فهماً نقياً صافياً، سهلاً شاملاً، كافياً وافياً، يساير العصور ويفي بحاجات الأمم، وبجلب السعادة للناس، بعيداً عن جمود الجامدين وتحلل الإباحيين وتعقيد المتفلسفين، لا غلو فيه ولا تفريط، مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالحين استمداداً منطقياً منصفاً، بقلب المؤمن الصادق، وعقل الرياضي الدقيق، وعرفتموه على وجهه: عقيدة وعبادة، ووطن وجنس، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرّسول عليكم شهيداً) [البقرة: 143] (رسالة المؤتمر السادس).
الغاية العليا للدعوة
الفصل الثامن – غاية الدعوة
القسم الأول: الغاية العليا للدعوة
القسم الثاني: رسالة الدعوة
القسم الثالث: أهداف الدعوة
القسم الأول – الغاية العليا للدعوة
الغاية في النهاية، وهي أقصى مطلب يسعى إليه الإنسان، والذي ليس بعده شيء. وغاية الإنسان في هذه الحياة هي تحقيق الغاية من خلقه، والغاية من خلقه، والغاية من الخلق هي العبودية أو العبادة للخالق تبارك وتعالى مصداقاً لقوله تعالى: (وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56]. وفي هذا يقول الأستاذ البنا:
إن القرآن حدد غايات الحياة ومقاصد الناس فيها، فبين أن قوماً همهم من الحياة:
1- الأكل والمتعة:
(والّذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنّار مثوى لهم) [محمد: 12].
2- الزينة والعرض الزائل:
(زين للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب) [آل عمران: 14].
3- إيقاد الفتن وإحياء الشرور والمفاسد:
(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبـــه وهو ألدّ
الخصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل والله لا يحب الفساد) [البقرة: 204-205].
تلك مقاصد من مقاصد الناس في الحياة، نزه الله المؤمنين عنها وبرأهم منها وكلفهم مهمة أرقى، وألقى على عاتقهم واجباً أسمى، ذلك الواجب هو:
4- هداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير، وإنارة العالم بشمس الإسلام:
(يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرّسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) [الحج: 77-78].
فبربك يا عزيزي هل فهم المسلمون من كتاب ربهم هذا المعنى؟ فسمت نفوسهم ورقت أرواحهم، وتحرروا من رق المادة، وتطهروا من لذة الشهوات والأهواء، وترفعوا عن سفاسف الأمور ودنايا المقاصد، ووجهوا وجوههم لله الذي فطر السموات والأرض حنفاء يعلون كلمة الله ويجاهدون في سبيله، وينشرون دينه ويذودون عن حياض شريعته، أم هل هؤلاء أسرى الشهوات وعبيد الأهواء والمطامع، كل همهم لقمة لينة ومركب فاره، وحلة جميلة ونومة مريحة، وامرأة وضيئة، ومظهر كاذب ولقب أجوف؟
رضوا بالأماني، وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلوا
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة (رسالة إلى اي شيء ندعو الناس).
إذاً، هذه هي الغاية العليا لدعوتنا، وهذه هي الغاية الرئيسة لمشروع نهضتنا. فغايتنا عبادة الخلاق تبارك وتعالى بهداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير، وإنارة العالم بنور الإسلام.
رسالة الدعوة
القسم الثاني – رسالة الدعوة
الرسالة هي الوثيقة التي تعبر عن الرؤية المستقبلية لجماعة ما، وعن طبيعة المهمة التي تقوم بها لتحقيق هذه الرؤية، من خلال مجالات أو خطوط عمل رئيسة، ضمن مساحات جغرافية محددة، وإطار زمني معروف، وجهة مقصودة بالخطاب. وتعبر هذه الرسالة عن غاية الجماعة العليا وأهدافها الكبرى. ويمكن تلخيص مهمة الدعوة أو رسالتها – كما وصفها الأستاذ البنا – في المضامين الأربعة التالية:
1- تخليص الأمة من قيودها السياسة وبناؤها من جديد.
2- إقامة النظام الإسلامي الشامل.
3- الوقوف بوجه مدنية المادة.
4- سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية.
وسوف نتناول كل مضمون من هذه المضامين بشيء من التفصيل من خلال فكر الأستاذ البنا – في المضامين الأربعة التالية:
1- تخليص الأمة من قيودها السياسية وبناؤها من جديد: يقول الأستاذ البنا في ذلك:
مهمتنا ذات شطرين: الشطر الأول: تخليص الأمة من قيودها السياسية حتى تنال حريتها. والشطر الثاني: بناؤها من جديد لتسلك طريقها بين الأمم، وتنافس غيرها في درجات الكمال الاجتماعي (رسالة إلى اي شيء ندعو الناس).
2- الوقوف بوجه مدنية المادة: وفي هذا يحدد الأستاذ البنا هذا المضمون بقوله: أما مهمتنا إجمالاً: فهي أن نقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات، التي جرفت الشعوب الإسلامية، فأبعدتها عن زعامة النبي صلى الله عليه وسلم وهداية القرآن…
3- إقامة النظام الإسلامي الشامل: ويفصل الأستاذ البنا هذا المضمون فيقول:
أما تفصيلاً: فهي أن يكون: نظام داخلي للحكم … ونظام للعلاقات الدولية … ونظام عملي للقضاء … ونظام اقتصادي … ونظام للثقافة والتعليم … ونظام للأسرة والبيت … ونظام للفرد في سلوكه الخاص … وروح عام يهيمن على كل فرد في الأمة من حاكم أو محكوم (رسالة تحت راية القرآن).
4- سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية: وهنا يبين الأستاذ البنا مصدر رسالة الدعوة وهو الإسلام كهداية ونور للبشرية جمعاء، فيقول:
تلك هي الرسالة التي يريد الإخوان المسلمون أن يبلغوها للناس وأن تفهمها الأمة الإسلامية حق الفهم، وتهب لإنفاذها في عزم وفي مضاء. لم يبتدعها الإخوان المسلمون ابتداعاً، ولم يختلقوها من أنفسهم، وإنما هي الرسالة التي تتجلى في كل آية من آيات القرآن الكريم، وتبدو في غاية الجلاء والوضوح في كل حديث من أحاديث الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وتظهر في كل عمل من أعمال الصدر الأول الذين هم لمثل الأعلى لفهم الإسلام وإنفاذ تعاليم الإسلام. فإن شاء المسلمون أن يقبلوا هذه الرسالة كان ذلك دليل الإيمان والإسلام الصحيح، وإن رأوا فيها حرجاً أو غضاضة فبيننا وبينهم كتاب الله تبارك وتعالى، حكم عدل وقول فصل يحكم بيننا وبين إخواننا ويظهر الحق لنا أو علينا: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خيرُ الفاتحين) [الأعراف: 89] (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
أهداف الدعوة
القسم الثالث – أهداف الدعوة
لقد تحدث الأستاذ البنا عن الأهداف في مواضع كثيرة من رسائله تحت مسميات متنوعة مثل: غايتنا و ماذا نريد؟ و أهدافنا. وسنحاول رسم خارطة الأهداف كما رآها الأستاذ البنا.
إن فهم منظومة الأستاذ البنا للأهداف يقتضي الرجوع قليلاً لمهمة المسلم من منظور البنا، والتي يقول فيها الأستاذ:
إن مهمة المسلم الحق لخصها تبارك وتعالى في آية واحدة من كتابه .. فهي قول الله تبارك وتعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) [الحج: 77-78].
هذا كلام بيّن لا لبس فيه ولا غموض …
1- يأمر الله المسلمين … أن يقيموا الصلاة التي هب لي العبادة وعمود الإسلام … وأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأن يفعلوا الخير ما استطاعوا .. وتلك هي المهمة الفردية لكل مسلم..
2- ثم أمرهم بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر هذه الدعوة وتعميمها بين الناس بالحجة والبرهان) (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
ويلخص الأستاذ البنا مهمة المسلم بعد ذلك فيقول:
أيها المسلمون، عبادة ربكم والجهاد في سبيل التمكين لدينكم وإعزاز شريعتكم هي مهمتكم في هذه الحياة.. (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس).
وعليه، تتكوّن مهمة المسلم من شقين:
1- العبادة وفعل الخير.
2- الجهاد لإعزاز الشريعة.
وقبل أن نلخص الموضوع في جدول، دعنا نقرأ معاً معاً تقسيم الأستاذ البنا للأهداف، كما أوردها في المؤتمر السادس، حيث قسمها إلى غاية قريبة وغاية بعيدة. وفي ذلك يقول الأستاذ البنا:
يعمل الإخوان المسلمون لغايتين: غاية قريبة يبدو هدفها وتظهر ثمرتها لأول يوم ينضم فيه الفرد إلى الجماعة، أو تظهر الجماعة الإخوانية فيه في ميدان العمل العام، وغاية بعيدة لابد فيها من ترقب الفرص وانتظار الزمن وحسن الإعداد وسبق التكوين (رسالة المؤتمر السادس).
1- غاية قريبة: المساهمة في الخير العام والخدمة الاجتماعية:
فأما الغاية الأولى فهي المساهمة في الخير العام أياً كان لونه ونوعه، والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف. يتصل الأخ بالإخوان، فيكون مطالباً:
أ- بتطهير نفسه وتقويم مسلكه وإعداد روحه وعقله وجسمه للجهاد الطويل الذي ينتظره في مستقبل الأيام.
ب- ثم هو مطالب أن يشيع هذه الروح في أسرته وأصدقائه وبيئته، فلا يكون الأخ مسلماً حقاً حتى يطبق على نفسه أحكام الإسلام وأخلاق الإسلام، ويقف عند حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه: (ونفس وما سواها (7) فألهمها فجــورها وتقواها (8) قد أفلح من زكّاها (9) وقد خــاب من دسّاها) [الشمس: 7-10]
فهل هذا هو ما يريده الإخوان المسلمون ويجهزون أنفسهم له ويأخذونها به؟! لا أيها الإخوان، ليس هذا كل ما نريد، هو بعض ما نريد ابتغاء مرضاة الله.. هو الهدف القريب، هو صرف الوقت في طاعة وخير حتى يجئ الظرف المناسب وتحين ساعة العمل للإصلاح الشامل المنشود (رسالة المؤتمر السادس).
2- وغاية بعيدة: الإصلاح الشامل والتغيير والتبديل للأوضاع القائمة:
وغاية بعيدة: الإصلاح الشامل والتغيير والتبديل للأوضاع القائمة:
أما غاية الإخوان الأساسية.. أما هدف الإخوان الأسمى.. أما الإصلاح الذي يريده الإخوان ويهيئون له أنفسهم.. فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعاً وتتجه نحو الأمة جميعاً، ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل … والإخوان المسلمون يعملون ليتأيد النظام بالحكام، ولتحيا من جديد دولة الإسلام ولتشمل بالنفاذ هذه الأحكام، ولتقوم في الناس حكومة مسلمة، تؤيدها أمة مسلمة، تنظم حياتها شريعة مسلمة أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه، حيث قال: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) [الجاثية: 18] (رسالة المؤتمر السادس).
وبعد أن عرض الأستاذ البنا الغاية القريبة، وبيّن المظاهر المعبرة عنها في الممارسة العملية، وشرح الغاية البعيدة والتي تشكل الأصل الذي من أجله قامت هذه الحركة النهضوية، قام بتحديد منهاج الإخوان المسلمين والخط الذي تعد الأمة له، ولنتأمل ذلك في كلامه في رسالة إلى الشباب قائلاً:
إن منهاج الإخوان المسلمون محدود المراحل، واضح الخطوات، فنحن نعلم تماماً ماذا نريد ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة، نريد أولاً الرجل المسلم .. ونريد بعد ذلك البيت المسلم.. ونريد بعد ذلك أن ينضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي .. ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خفاقة عالية على تلك البقاع .. ونريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم، وأن نبلغ الناس جميعاً، وأن نعم بها آفاق الأرض (رسالة إلى الشباب).
وفي رسالة الوداع (رسالة بين الأمس واليوم)، وهي الرسالة التي كتبها معتقداً أنه سيحال بينه وبين الجماعة، فقد كتب أهم ما يعتقد أن تركز عليه الجماعة من أهداف بكل وضوح، فقال:
ولكن اذكروا دائماً أن لكم هدفين أساسيين .. أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل استعمار أجنبي .. وأن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة .. ونريد تحقيق هذين الهدفين في: وادي النيل وفي بلاد العروبة، وفي كل أرض أسعدها الله بعقيدة الإسلام.. (رسالة بين الأمس واليوم).
وبإعادة تنظيم كلام الأستاذ البنا حول الأهداف، وربط المبثوث منه في مختلف الرسائل، وخاصةً (رسالة التعاليم)، والتي تعتبر من أنضج الرسائل التي كتها الأستاذ البنا رحمه الله، حيث شرح الركن الثالث من أركان البيعة وهو العمل، وحدد للأخ الصادق مراتب العمل المطوبة، نستنتج من ذلك كله أن الغايتين اللتين أشار إليهما في الفقرة السابقة، يندرج تحتهما الأهداف القريبة، والأهداف البعيدة. وعليه، يمكن وضع هذه الأهداف بالصورة التالية:
– الشاق الأول للمهمة: العبادة وفعل الخير
(1) الغاية القريبة: وتشمل
1- إصلاح الفرد.
2- بناء الأسرة.
3- إرشاد المجتمع.
– الشق الثاني للمهمة: الجهاد لإعزاز الشريعة
(2) الغاية البعيدة: وتشمل
4- إصلاح الحكومة.
5- إعادة الخلافة.
6- تحقيق السيادة.
7- الأستاذية.
ويمكن تفصيل مكونات هذه الصورة من الأهداف، وفقاً لفكر الأستاذ البنا على النحو التالي:
1- الغاية القريبة
1- إصلاح الفرد (إعداد الرجال): ولتفصيل هذا الهدف، يقول الأستاذ البنا: ولكن الأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير، وتريد أن تبنى حياتها المستقبلة على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة، وتطالب بحق مسلوب وعز مغصوب، في حاجة إلى بناء آخر غير هذه الأبنية.. إنها في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب.
إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها، وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين القوياء النفوس والإرادات. وأن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة. وإني أعتقد –والتاريخ يؤيدني- أن الرجل الواحد في وسعه أن يبنى أمة إن صحت رجولته، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء (رسالة هل نحن قوم عمليون).
2- بناء الأسرة: ثم ينتقل الأستاذ البنا إلى مستوى الأسرة المسلمة فيقول:
وتكوين بيت مسلم، بأن يحمل أهله على احترام فكرته، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنزلية، وحسن اختيار الزوجة، وتوقيفها على حقها وواجبها، وحسن تربية الأولاد والخدم وتنشئتهم على مبادئ الإسلام. وذلك واجب كل أخ على حدته كذلك (رسالة التعاليم).
3- إرشاد المجتمع: ثم يحدد الهدف على مستوى المجتمع، فيقول:
وإرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائماً. وذلك واجب كل أخ على حدته، وواجب الجماعة كهيئة عاملة (رسالة التعاليم).
2- الغاية البعيدة
4- إصلاح الحكومة وإقامة الدولة على أسس الإسلام: بالنسبة للغاية البعيدة، يحدد الأستاذ البنا أهداف هذه الغاية التفصيلية على المستوى القطري، فيقول:
وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها. والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير مجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه. ومن صفاتها: الشعور بالتبعة، والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعفة عن المال العام، والاقتصاد فيه. ومن واجباتها: صيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة. ومن حقها –متى أدت واجبها-: الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والأموال. فإذا قصرت، فالنصح والإرشادن ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (رسالة التعاليم).
5- إعادة الخلافة (التمثيل الموحد للأمة الإسلامية): وعلى صعيد الأمة، يشدد الأستاذ البنا على ضرورة وحدة الأمة، فيقول:
وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافتها وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة. وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه: (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)[الأنفال: 39]، (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) [التوبة:32] (رسالة التعاليم).
ويفصل الأستاذ البنا هذا الهدف المحوري، بقوله:
الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة واطمأنوا إلى إنجازها .. والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات (رسالة المؤتمر الخامس).
6- تحقيق السيادة: ولتحقيق هذا الهدف، يؤكد الأستاذ البنا على ضرورة تحرير الأمة فيقول:
ولكن اذكروا دائماً أن لكم هدفين أساسيين .. أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل استعمار أجنبي .. وأن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة .. نريد تحقيق هذين الهدفين في: وادي النيل، وفي بلاد العروبة، وفي كل أرض أسعدها الله بعقيدة الإسلام.. (رسالة بين الأمس واليوم).
7- إعلان الأستاذية: وعن نشر نور الإسلام وهداية البشر إلى الخير وإلى الحق، يقول الأستاذ البنا:
وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) [البقرة: 193]، (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) [التوبة:32] (رسالة التعاليم).
بهذا التحديد، وبهذا الوضوح، وبهذا التفصيل، وضع الأستاذ البنا منظومة الأهداف المتوخاة من الدعوة، والتي يتعين على الفرد المسلم والأمة المسلمة أن يعملا على تحقيقها، عبادةً للخالق تبارك وتعالى، وتحقيقاً لمشروع النهضة الممكن والمأمول
الفصل التاسع- عناصر الدعوة
القسم الأول – المراحل
بدأت الدعوة في صورة خواطر نفسية أو جهود ذاتية لإنقاذ الناس، ولننظر إلى عبارات الأستاذ البنا في هذا السياق:
1- مرحلة الخواطر .. وفي هذا يقول الأستاذ البنا:
“ظلت هذه الخواطر حديثاً نفسياً ومناجاةً روحيةً أتحدث بها في نفسي لنفسي، وقد أفضى بها إلى كثير ممن حولي، وقد تظهر في شكل دعوة فردية أو خطابة وعظية أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس، أو حث لبعض الأصدقاء من العلماء على بذل الهمة ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير” (رسالة المؤتمر الخامس).
2- مرحلة التجميع حول الفكرة ثم مرحلة التنظيم: تطورت الخواطر والجهود الفردية إلى تجميع حول الفكرة ثم إلى مرحلة التنظيم، وفي هذا التطور يقول الأستاذ البنا:
“ولقد أخذت أفاتح كثيراً من كبار القوم في وجوب النهوض والعمل وسلوك طريق الجد والتكوين، فكنت أجد التثبيط أحياناً والتشجيع أحياناً، والتريث أحياناً، ولكنني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية” … “وفي الإسماعيلية أيها الإخوان وضعت أول نواة تكوينية للفكرة، وظهرت أول هيئة متواضعة نعمل ونحمل لواءها ونعاهد الله على الجندية التامة في سبيلها تحت اسم (الإخوان المسلمون) وكان ذلك في ذي القعدة سنة 1347هـ” (رسالة المؤتمر الخامس).
3- التدرج … والمراحل: ثم تبلورت الفكرة حركياً عند الأستاذ البنا في عدة مراحل متدرجة ومتداخلة أو متوازية ديناميكياً خلال الزمن. وفي هذا يقول:
“وأما التدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لابد لها من مراحل …: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج. وكثيراً ما تسير هذه المرحلة جنباً إلى جنب نظراً لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعاً، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخير ويربي، وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك” (رسالة المؤتمر الخامس).
فالمراحل عند الأستاذ البنا بالنسبة لتنظيم الدعوة على المستوى النظري البحت متتابعة؛ أما على أرض الواقعف يه قطعاً متوازية ومتداخلة، اللهم إلا إذا اعتبر أن التركيز على خط منها بنسبة أكبر نظراً لنمو العمل وتطوره سنداً لإطلاق وصف محدد على المرحلة، وبالتالي لا يلغي هذا لاوصف وجود الخطوط الأخرى، ولكنه يشير إلى نسبة التركيز المعتمدة.
ملخص لتصور الأستاذ البنا لمراحل العمل الدعوي:
وعليه، يمكن أن نلخص مراحل الدعوة بعد مرحلتي الخواطر والتجميع، وفقاً لفكر الأستاذ البنا، كما يلي:
1- مرحلة الدعاية والتعريف.
2- مرحلة الإعداد والتكوين.
3- مرحلة العمل والتنفيذ.
4- مرحلة الدولة/الدول (ذات المرجعية والقاعدة القيمية المشتركة).
5- مرحلة التمهيد للخلافة.
6- مرحلة استعادة الكيان الدولي أو الخلافة.
7- مرحلة الأستاذية وإقامة النموذج.
8- مرحلة الأستاذية وإقامة النموذج.
ويشرح الأستاذ البنا تصوره لكل مرحلة من هذه المراحل، وأهم معالمها في كتاباته، كما يلي:
أولاً: مرحلة الدعاية والتعريف: ويحدد الأستاذ البنا إطار هذه المرحلة وطبيعتها وسائلها فيقول:
“بنشر الفكرة العامة بين الناس، ونظام الدعوة في هذه المرحلة نظام الجمعيات الإدارية، ومهمتها العمل للخير العام، ووسيلتها الوعظ والإرشاد تاره، وإقامة المنشآت النافعة تارةً أخرى، إلى غير ذلك من الوسائل العملية. وكل شعب الإخوان القائمة الآن تمثل هذه المرحلة من حياة الدعوة، وينظمها “القانون الأساسي” وتشرحها وسائل الإخوان وجريدتهم، والدعوة في هذه المرحلة (عامة). ويتصل بالجماعة فيها كل من أراد من الناس متى رغب المساهمة ووعد بالمحافظة على مبادئها” (رسالة التعاليم).
ومن ثم، نستخلص سمات هذه المرحلة فيما يلي:
1- نظام الجمعيات الإدارية.
2- مهمة العمل للخير العام.
3- وسيلة الوعظ والإرشاد.
4- وسيلة إقامة المنشآت النافعة.
5- عمومية الدعوة.
6- احترام المبادئ والمساهمة في العمل للمنتسبين.
ثانياً: مرحلة الإعداد والتكوين: هذه مرحلة تخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف. وأهم ما يميز هذه المرحلة مسألة اختيار العناصر الصالحة، كما يشير الأستاذ البنا قائلاً:
“باستخلاص العناصر الصالحة”
وتتم هذه الخطوة من خلال ثلاث صور، وفقاً لفكر الأستاذ البنا، هي: الكتائب لتقوية الصف بالتعارف؛ وفرق الكشافة والجوالة والألعاب الرياضية لتقوية الصف بدنياً وتعوده الطاعة والنظام والأخلاق الرياضية الفاضلة؛ ثم درس التعاليم في الكتائب أو في أندية الإخوان المسلمين لتقوية الصف فكرياً بدراسة جامعة لأهم ما يلزم الأخ معرفته لدينه ودنياه.
ثالثاً: مرحلة العمل والتنفيذ:
وهي عند الأستاذ البنا، الخطوة العملية التي تظهر بعدها ثمار الدعوة. وفي هذا يقول:
“والدعوة في هذه المرحلة جهاد لا هوادة معه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون” (رسالة التعاليم)
رابعاً: مرحلة الدولة/الدول: وتعد الدولة الإسلامية عند الأستاذ البنا ركناً أساسياً في مشروع النهضة.
وحيث إن الدولة أحد أركان هذا المشروع، كما سوف نتطرق لهذا الركن بالتفصيل في الباب الثالث من هذه الدراسة، فإننا نود هنا أن نشير إلى أنه من الواضح في كتابات الأستاذ البنا أنه لا يهتم كثيراً بالمسميات، ولكنه كان شديد العناية بالمضمون. وعند الأستاذ البنا الدولة تقوم على إطار مرجعي. وفي الدولة الإسلامية، يجب أن يكون الإطار المرجعي هو الإسلام. وهنا يؤكد على قضية الترجمة الحية التطبيقية للقيم الإٍسلامية، حيث لا يمكن الانتقال بنجاح إلى مرحلة التمهيد للخلافة إلا بوجود اللبنات القطرية الإسلامية ذات الأرضية القيمية المشتركة، والبناء المضمون المشابه.
خامساً: مرحلة التمهيد للخلافة (الكيان الموحد للأمة): وعند الأستاذ البنا، لابد من تحرير الأوطان وتقريب الثقافات وجمع الكلمة حتى يؤدي ذلك إلى إعادة الخلافة. وفي هذا يقول:
“لابد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، … يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المجامع والمؤتمرات … ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، ثم إذا تم لها ذلك نتج عنه الاجتماع على “الإمام” الذي هو واسطة العقد، ومجمع الشمل، ومهوى الأفئدة …” (المؤتمر الخامس).
سادساً: استعادة الكيان الدولي الموحد أو الخلافة: وبتحقيق المرحلة السابقة يتم إعادة الخلافة. وفي هذا يقول الأستاذ البنا:
“وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافاتها وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة” (رسالة التعاليم).
سابعاً: الأستاذية بتقديم نموذج إنساني يعبر عن المنظومة القيمية للأمة: وهنا يؤكد الأستاذ البنا على النموذج الإسلامي الشامل كأساس لإحداث نهضة حقيقية، وكإطار لنشر الحق والخير في ربوع العالم، قائلاً:
“وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه” (رسالة التعاليم).
هذه هي السبعة مراحل للعمل الدعوى، والتي حددها الأستاذ البنا بوضوح وجلاء، والتي يحقق بمقتضاها مشروع النهضة غايته – تطبيقياً- ببناء الدولة الإسلامية “النموذج”، وأستاذية العالم كإطار لنشر الحق والخير في أرجائه
القسم الثاني – الوسائل
1- مفهوم الأستاذ البنا للوسائل:
الوسائل الرئيسة: ويحدد الأستاذ البنا الوسائل الركنية أو الجذرية في ثلاث، إذ يقول:
“أما الوسيلة التي وعدتك بالكلام عنها فهي أركان ثلاثة تدور عليها فكرة الإخوان:
أولها: المنهاج الصحيح،
وثانيها: العاملون المؤمنون،
وثالثها: القيادة الحازمة الموثوق بها” (رسالة دعوتنا).
ومرة أخرى يقول:
“وليست الوسلة القوة كذلك، فالدعوة الحقة إنما تخاطب الأرواح أولاً، وتناجي القلوب، وتطرق مغاليق النفوس، ومحال أن تثبت بالعصا، أو أن تصل إليها على شبا الأسنة والسهام، ولكن الوسيلة في تركيز كل دعوة وثباتها، معروفة معلومة مقروءة لكل من له إلمام بتاريخ الجماعات، وخلاصة ذلك جملتان:
1- إيمان وعمل.
2- ومحبة وإخاء” (رسالة دعوتنا في طور جديد).
ثم عاد ولخصها قائلاً:
“إن الوسائل العامة في الدعوات لا تتغير ولا تتبدل، ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة:
1- الإيمان العميق.
2- التكوين الدقيق.
3- العمل المتواصل” (رسالة بين الأمس واليوم).
2- الوسائل الحركية:
والمتأمل في كلام الأستاذ البنا حول موضوع الوسائل في رسائله المختلفة، والمستصحب للسياق التاريخي والظروف التي مرت بها الحركة في زمانه رحمه الله، ومن خلال وعيه وفقهه الشرعي والاجتماعي والسياسي الذي عرف به، نستطيع أن نستنتج منظومته في الوسائل التشغيلية أو الحركية التفصيلية، والمستمدة من الوسائل الرئيسة سالفة الذكر، ولعل أقرب النصوص تحديداً لهذه الوسائل ما جاء في رسالة المؤتمر السادس، إذ يقول الأستاذ البنا:
“أما وسائلنا العامة، فالإقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان، ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هي الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح .. ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية وتناصرها وتنحاز إليها القوة التنفيذية، وعلى هذا الأساس سيتقدم مرشحو الإخوان المسلمين حين يجيئ الوقت المناسب إلى الأمة ليمثلوها في الهيئات النيابية، ونحن واثقون بعون الله من النجاح ما دمنا نبغي بذلك وجه الله (ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويٌ عزيز) [الحج: 40]. أما ما سوى ذلك من الوسائل، فلن نلجأ إليه إلا مكرهين، ولن نستخدمه إلا مضطرين، وسنكون حينئذ صرحاء شرفاء، لا نحجم عن إعلان موقفنا واضحاً لا لبس فيه ولا غموض معه، ونحن على استعداد لتحمل نتائج عملنا أياً كانت، لا نلقي التبعة على غيرنا، ولا نتمسح بسوانا، ونحن أعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الفناء في الحق هو عين البقاء، وأنه لا دعوة بغير جهاد، ولا جهاد بغير اضطهاد، وعندئذ تدنو ساعة النصر ويحين وقت الفوز، ويتحقق قول الملك الحق المبين: (حتّى إذا استياس الرسل وظنّوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يُرد بأسنا عن القوم المجرمين) [يوسف: 110] (رسالة المؤتمر السادس).
ومن هذا النص يمكن إيضاح منظومة الوسائل الحركية في الرسم البياني التالي:
والتصدق على المحتاجين، وإقامة المنشآت النافعة من مدارس ومعاهد ومستوصفات ومساجد في حدود مقدرتها والظروف التي تحيط بها..” (رسالة المؤتمر السادس).
الوسيلة الأولى: الدعوة والبيان (الوعظ والإرشاد)
الدعوة، هي الطريقة الأساسية التي اتبعها كل الأنبياء والرسل، وهي الوسيلة الماضية إلى يوم القيامة، والتي حضنا عليها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وهي الواجب الذاتي الذي ينبغي على كل مسلم أن يقوم به. ويعبر الأستاذ عن هذه الوسيلة بقوله:
“المساهمة في الخير العام أيا كان لونه ونوعه، والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف.. وتعمل الجماعة على تعليم الأميين، وتلقين الناس احكام الدين، وتقوم بالوعظ والإرشاد، والإصلاح بين المتخاصمين، والتصدق على المحتاجين، وإقامة المنشآت النافعة من مدارس ومعاهد ومستوصفات ومساجد في حدود مقدرتها والظروف التي تحيط بها..” (رسالة المؤتمر السادس).
ويمكن تحديد مكونات أو عناصر هذه الوسيلة فيما يلي:
1- المساهة في الخير العام والخدمة الاجتماعية.
2- تعليم الأميين، وتلقين الناس أحكام الدين.
3- الوعظ والإرشاد.
4- الإصلاح بين المتخاصمين، والتصدق على المحتاجين.
5- إقامة المنشآت النافعة.
6- تكوين رأي عام، وتصحيح فهم المسلمين لدينهم.
7- استخدام النشرات والبيانات والمؤتمرات والبعثات في نشر الدعوة.
8- تقديم البرامج العملية الصالحة لشؤون الحياة.
9- محاربة الجهل والمرض.
الوسيلة الثانية: التربية (الإعداد والتكوين)
ولقد حرص الأستاذ البنا على هذه الوسيلة باعتبارها مصنع الرجال، وفي هذا يقول:
“أعدوا أنفسكم واقبلوا عليها “بالتربية الصحيحة” والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل، والعمل القوي، البغيض لديها الشاق عليها، وأفطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعادتها” (رسالة المؤتمر الخامس).
ولتوكيد هذا المعنى، يقرر الأستاذ البنا:
“… أن الإخوان المسلمين يقصدون أول ما يقصدون إلى تربية النفوس وتجديد الأرواح وتقوية الأخلاق، وتنمية الرجولة الصحيحة في نفوس الأمة. ويعتقدون أن ذلك هو الأساس الأول الذي تبنى عليه نهضات الأمم والشعوب” (رسالة هل نحن قوم عمليون).
وتحدث الأستاذ البنا عن الوسائل التي اتبعها في تربة الأنصار وتكوينهم وتعبئتهم في مواضع عديدة من رسائله، فيقول مثلاً:
“فقد بدأنا الدعوة فوجهناها إلى الأمة في دروس متتالية، وفي رحلات متلاحقة وفي مطبوعات كثيرة وفي حقلات عامة وخاصة، وفي جريدة الإخوان المسلمين الأولى ثم في مجلة النذير الأسبوعية، وأظن أننا وصلنا في هذه المرحلة إلى درجة نطمئن عليها وعلى أطراد السير فيها، وصار من ألزم واجباتنا أن نخطو الخطوة الثانية، خطوة الاختيار والتكوين والتعبئة، خطونا الخطوة الثانية في صور عدة” (رسالة المؤتمر الخامس).
ويمكن تلخيص صور التربية من إعداد واختيار وتكوين وتعبئة، وفقاً لفكر الأستاذ البنا فيما يلي:
1- الأسر. (محضن العلاقات الأخوية).
2- الكتائب. (معهد التربية الروحية).
3- الرحلات. (محضن العلاقات الاجتماعية).
4- الدورات. (مركز التأهيل والتدريب).
5- المخيمات. (معهد التربية الجسمية).
6- المؤتمرات. (معهد التربية العملية والفكرية).
الوسيلة الثالثة: العمل السياسي (النضال الدستوري)
إن التمهيد لنباء الدولة الإسلامية لا يتم إلا بالعمل السياسي، والذي يأخذ بدوره أشكالاً متنوعة، ويمر بأدوار متعددة. وتتميز الأدوار بأساليب مختلفة لأحداث النشاط السياسي. كما أن النشاط السياسي بذاته يؤدي دوراً دعوياً في استقطاب الأعضاء للجماعة، وفي قدرات الأفراد أنفسهم، إضافة إلى التوعية الاجتماعية العامة، وإشاعة الوعي الإسلامي، وتأكيد شمولية الإسلام. ويمكن الاستفادة من الأساليب المختلفة ما دامت مشروعة، ولا تنافي أصلاً من أصول الشريعة، وفي هذا يقول الأستاذ البنا:
“أما وسائلنا العامة:
1- فالإقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان.
2- ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هي الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح..
3- ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية وتناصرها وتنحاز إليها القوة التنفيذية.
4- وعلى هذا الأساس سيتقدم مرشحو الإخوان المسلمين حين يجيء الوقت المناسب إلى المة ليمثلوها في الهيئات النيابية، ونحن واثقون بعون الله من النجاح ما دمنا نبتغي بذلك وجه الله (ولنصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) [الحج: 40] (رسالة المؤتمر السادس).
الوسيلة الرابعة: الجهاد (الفريضة الماضية)
ويمثل الجهاد وسيلة أساسية من الوسائل العامة بمراتبه المختلفة (وفي مراتب الجهاد ارجع إلى رسالة هل نحن قوم عمليون؟ بند الجهاد عزنا)، وفي هذا يقول الأستاذ البنا:
“وأريد بالجهاد: الفريضة الماضية إلى يوم القيامة. والمقصود بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغزُ ولم ينو الغزو مات ميتةً جاهلية). وأول مراتبه إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك: جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة الحق عند السطان الجائر. ولا تحيا الدعوة إلا بالجهاد وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها، وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها، وجزالة الثواب للعاملين (وجاهدوا في الله حق جهاده) [الحج: 78]. وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: (الجهاد سبيلنا)” (رسالة التعاليم).
ولقد حدد الأستاذ البنا طبيعة الجهاد وظروف الإعداد وقواعد وشروط استخدام القوة. وفي ذلك يقر المبدأ مستنداً إلى الكتاب والسنة، ثم يضع ضوابط استخدامه فيما يلي:
أ- الإسلام ومبدأ الإعداد:
يقول الله عز وجل: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم) [الأنفال: 60]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف).
ب- متى تكون الجاهزية:
وهنا يحذر الأستاذ البنا من اللجوء إلى القوة.. قبل توافر شروطه، فيقول:
“أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح. ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعاً، وإنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال، مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك” (رسالة المؤتمر الخامس).
ج- القواعد والشروط:
ثم أشار بعد ذلك إلى شروط استخدام القوةن إذ يقول:
“ولكن الإخوان أعمق فكراً وأبعد نظراً من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا إلى أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها” … “وهل أوصى الإسلام – والقوة شعاره- باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال؟ أم حدد لذلك حدوداً واشترط شروطاً ووجه القوة توجيهاً محدداً؟ .. وهل تكون القوة أول علاج أم أن آخر الدواء الكي؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون؟..” (رسالة المؤتمر الخامس).
القسم الثالث – السياسات
1- مفهوم السياسات
السياسات هي المبادئ الحاكمة للعمل وما يرتبط بها من قواعد، لتترجم المنطلقات والتوجيهات إلى صيغ مرشدة لتوجيه مسيرة الحركة نحو الأهداف المعتمدة. وتأتي قيمة السياسات من كونها معايير يقاس بها معدلات التنفيذ والإنجاز، كما أنها دليل لمتخذ القرار تبصره بالأولويات والأهداف المنشودة والموارد والمخصصات المتاحة والمتطلبات التي يجب توفيهرا. كما تعتبر السياسة مرشداً للتفكير والتقدير، وموجهة للسلوك، وهادفة للاتصال ومنهاجاً للعمل، ووسيلة لتحديد الإجراءات اللازمة لتحقيق الأهداف الموضوعة والمحددة.
2- بواعث السياسات
إن المتتبع لكلام الأستاذ البنا حول سياسات الدعوة، يجد أنه قد تناولها في أكثر من رسالة وتحت عناوين مختلفة، ولقد اختارها بعد دراسة موضوعية للواقع الذي كان يعيشه في حينه. ولهذا، فقد جاءت هذه السياسات منسجمة مع اختياراته لمشروع النهضة الذي تقدم به للأمة.
وهذا ما ذكره –رحمه الله- معبراً عن بواعثه قائلاً:
“لعل من صنع الله لدعوة الإخوان أن تنبت في الإسماعيلية، وأن يكون ذلك على أثر خلاف فقهي بين الأهلين وانقسام دام سنوات حول بعض النقاط الفرعية التي أذكى نار الفرقة فيها ذوو المطامع والأغراض، وأن تصادف نشأتها عهد الصراع القوي العنيف بين الأجنبي المتعصب والوطني المجاهد، فكان من أثر هذه الظروف أن تميزت هذه الدعوة بخصائص خالفت فيها كثيراً من الدعوات التي عاصرتها” (رسالة المؤتمر الخامس).
لذلك جاء اجتهاد البنا منسجماً مع هذا الواقع كما سنرى من خلال السياسات العامة التي وضعها لحركته آنذاك.
3- السياسات العامة للدعوة
على أساس الواقع الذي عاشه الأستاذ البنان كان اجتهاده بالنسبة للسياسات العامة للدعوة، والمتمثلة وفقاً له فيما يلي:
1- البعد عن مواطن الخلاف الفقهي.
2- البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان.
3- البعد عن الهيئات والأحزاب عند البدايات.
4- التدرج في الخطوات واعتماد المرحلية.
5- إيثار الناحية العملية على الدعائية والإعلانية.
6- التركيز على الشباب لأنهم سر نهضة الأمم.
7- الاهتمام بالقرى والمدن على حد سواء.
8- التوازن بين العقل والعاطفة، وبين الواقع والخيال.
9- عدم المغامرة والمقامرة وتوفير الجهود للعمل النافع والإيجابي.
10- عدم تجريح الهيئات والأشخاص (الابتعاد عن الهجوم الشخصي).
11- عدم الانجرار إلى معارك جانبية سواء أكانت شرعية أو حزبية.
12- الالتزام بدستور الوحدة الثقافية (الأصول العشرين).
ومن المفيد أن نلقي بعض الضوء على هذه المعاني الهامة من كلام الأستاذ البنا نفسه بإيجاز:
1- البعد عن مواطن الخلاف الفقهي.
أ- الخلاف في الفرعيات أمر ضروري وواقعي.
ب- العيب في التعصب والحجر على العقول والآراء.
2- البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان.
أ- لسد الذرائع، خوف ظنون الناس، (سد الذرائع).
ب- حتى لا يطمس لون الدعوة الصافي، (التميز).
ج- حتى لا يحاول أحد الاستغلال أو التوجيه، (الاستقلال).
3- البعد عن الهيئات والأحزاب عند البدايات.
أ- الابتعاد في فترة البداية وفي حالة الضعف.
ب- التنافر والتناحر لا يتفق مع أخوة الإسلام.
ج- الأولى التجنب والصبر على الحرمان.
د- محاورتهم عند اشتداد الساعد وصلابة العود.
4- التدرج في الخطوات واعتماد المرحلية.
أ- عموم الدعاية.
ب- كثرة الأنصار.
ج- متانة التكوين.
5- إيثار الناحية العملية على الدعائية والإعلانية.
أ- مخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء.
ب- الموازنة بين هذه النظرة وبين ما ورد في إذاعة الخير.
ج- نفور الإخوان من اعتماد الناس على الدعايات الكاذبة والتهريج.
د- خشية الإخوان من معاجلة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة.
6-التركيز على الشباب لأنهم سر نهضة الأمم.
أ- الشباب هم أخصب المنابت للدعوات.
ب- المثابرة ومضاعفة الجهود لتأييد الشباب ومناصرته وعمله لدعوة الإخوان.
7- التوازن بين العقل والعاطفة، وبين الواقع والخيال.
أ- التوازن بين العقل والعاطفة.
ب- التازن بين الواقع والخيال.
ج- الانسجام مع نواميس الكون.
د- المغالبة والاستخدام والتحويل والاستعانة بالسنن الإلهية.
هـ- ترقب ساعة النصر.
هذه هي الخطوط الرئيسة للسياسات العامة التي وضعها الأستاذ البنا لحركة الإخوانن والدعوة لمبادئها، تنفيذاً لمشروع النهضة وإقامة الدولة النموذج.
الفصل العاشر – البناء التربوي للدعوة
القسم الأول – العقبات
أولاً: العقبات المتوقعة: بحنكة الخبير وخبرة المجرب ودقة العالم يوضح الأستاذ البنا طبيعة واسباب العقبات المتوقعة وموقف الإخوان تجاهها، فيقول:
“أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات، أما الآن فلا زلتم مجهولين ولا زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد (رسالة بين الأمس واليوم).
وفي الرسالة نفسها، حدد الأستاذ البنا العقبات الرئيسة فيما يلي:
العقبة الأولى: جهل الشعبز
العقبة الثانية: استغراب أهل التدين وإنكار العلماء الرسميين.
العقبة الثالثة: حقد الرؤساء والزعماء وذوي الجاه والسلطان.
العقبة الرابعة: وقوف كل الحكومات على السواء في وجوهكم والحد من نشاطكم.
العقبة الخامسة: تذرع الغاصبين بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم.
(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)
[التوبة: 32]
ثانياً: التجربة والامتحان (تكاليف النضال الدستوري): ثم يفصل بشفافية واستشراف في الرسالة نفسها ما سيتعرض له الإخوان من ابتلاءات نتيجة هذه العقبات فيما يلي:
الامتحان الأول: “فتسجنون وتعتقلون”.
الامتحان الثاني: “وتنقلون وتشردون”.
الامتحان الثالث: “وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم”.
الامتحان الرابع: “وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان”.
(أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون) [العنكبوت: 2].
ثانياً: الواجبات العشر أثناء المحن وأمام العقبات: ثم أخيراً، حدد الواجبات او عوامل النجاح في التغلب على هذه المحن والعقبات فيما يلي:
الواجب الأول: الإيمان بالله والاعتزاز بمعرفته والاعتماد عليه.
والواجب الثاني: عدم الخوف والرهبة إلا من الله تعالى.
الواجب الثالث: أداء الفرائض واجتناب النواهي.
الواجب الرابع: التخلق بالفضائل والتمسك بالكمالات.
الواجب الخامس: الإقبال على القرآن والسيرة ومدارستها.
الواجب السادس: الاهتمام بالناحية العملية والابتعاد عن الجدل.
الواجب السابع: التحاب والحرص على الرابطة الأخوية.
الواجب الثامن: الثبات على المبدأ.
الواجب التاسع: السمع والطاعة للقيادة.
الواجب العاشر: ترقب النصر وتأييد الله تعالى.
(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون (11) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جناتس تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبةً في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (12) وأخرى تحبّونها نصرٌ من الله وفتحٌ قريب وبشر المؤمنين (13) يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) [الصف: 10-14]. وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وسلك بنا وبكم مسالك الأخيار المهتدين، وأحياناً حياة الأعزاء السعداء وأماتنا موت المجاهدين والشهداء إنه نعم المولى ونعم النصير (رسالة بين الأمس واليوم).
القسم الثاني – البناء التربوي
أصناف الناس المحيطين بدعوة النهضة كما صنفهم الأستاذ البنا وموقفه منهم:
أ- أصناف الناس: حدد الأستاذ البنا الناس في بيئة الدعوة بأصناف اربعة إذ يقول:
“وكل الذي نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحداً من أربعة … وقد حان الوقت الذي يجب على المسلم أن يدرك غايته ويحدد وجهته”:
1- مؤمن: (ندعوه أن يبادر بالانضمام إلينا والعمل معنا).
2- متردد: (نتركه لتردده ونوصيه أن يتصل بنا عن كثب).
3- نفعى: (الله غني عمن لا يرى لله الحق الأول في نفسه وماله ..).
4- متحامل: (وهذا سنظل نحبه ونرجو فيئه إلينا واقتناعه بدعوتنها) (رسالة دعوتنا).
يقول:
“وها أنا ذا اصارح الغيورين من أبناء الإسلام بأن كل جماعة إسلامية في هذا العصر محتاجه أشد الحاجة إلى الفرد العامل، المفكر، الجريء، المنتج، فحرام على كل من آنس من نفسه شيئاً من هذا أن يتأخر عن النفير دقيقة واحدة” (رسالة هل نحن قوم عمليون).
1- العامل: الشخص العملي المتحرك.
2- المفكر: الشخص الذي يستأنس بعقله وفكره.
3- الجرئ: الشخص المقدام الشجاع المضحي.
4- المنتج: الشخص الذي يقدم إنجازات ويحقق نجاحات.
ثانياً: العملية التربوية
أ- المربى (الداعية) الفعال:
اشار الأستاذ البنا مؤكداً أهمية المربى ودوره الفعال في العملية التربوية مشدداً على بعض مواصفاته الأساسية. وفي هذا يقول:
“والدعاة اليوم غيرهم بالأم، فهم مثقفون مجهزون مدربون أخصائيون، حيث تختص بكل فكرة كتيبة مدربة توضح غامضها وتكشف عن محاسنها وتبتكر لها وسائل النشر وطرائق الدعاية، وتتلمس لها نفوس الناس أيسر السبل وأهونها وأقربها إلى الاقتناع والاتباع.. ولهذا كان من واجب أهل الدعوة (المربين) أن يحسنوا تلك الوسائل جميعاً حتى يأتي عملهم بثمرته المطلوبة” (رسالة دعوتنا).
ويحدد الأستاذ البنا شروط المربي المطلوب في قوله:
“إن هذه الدعوة لا يصلح لها إلا من حاطها من كل جوانبها ووهب لها من تكلفه إياه من نفسه وماله ووقته وصحته (قل إن كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) [التوبة: 24]. فهي دعوة لا تقبل الشكة إذ أن طبيعتها الوحدة فمن استعد لذلك فقد عاش وعاشت به” (رسالة دعوتنا).
إذن، مما تقدم نخلص إلى أن المواصفات الأساسية للمربين (الدعاة)، التي طالب بها الأستاذ البنا، هي:
1- مثقفون: (الثقافة الشرعية والإنسانية والحركية).
2- مجهزون: (الجاهزية المعنوية والذهنية، والمادية أيضاً).
3- مدربون: (التدريب على المهارات الحياتية وعلى استخدام ما جُهزوا به الاستخدام الأمثل).
4- متخصصون: (التخصص في مجال المحدد الذي يخدم فيه).
ب- الوسائل التربوية:
تحدث الأستاذ البنا عن الوسائل التي اتبعها في تربية الأنصار وتكوينهم وتعبئتهم في مواضع عديدة من رسائله. ففي رسالة المؤتمر الخامس، يحدد هذه الوسائل بقوله:
“فقد بدانا بالدعوة فوجهناها إلى الأمة في دروس متتالية وفي رحلات متلاحقة وفي مطبوعات كثيرة وفي حفلات عامة وخاصة، وفي جريدة الإخوان المسلمين الأولى ثم مجلة النذير الأسبوعية.. وأظن أننا وصلنا في هذه المرحلة إلى درجة نطمئن عليها وعلى أطراد السير فيها، وصار من ألزم واجباتنا أن نخطو الخطوة الثانية، خطوة الاختيار والتكوين والتعبئة. خطونا الخطوة الثانية في صور عدة أهمها:
1- الأسر: (محضن العلاقات الأخوية).
2- الكتائب: (معهد التربية الروحية).
3- الرحلات: (محضن العلاقات الاجتماعية).
4- الدورات: (مركز التأهيل والتدريب).
5- المخيمات: (معهد التربية الجسمية).
6- المؤتمرات: (معهد التربية العلمية والفكرية) (رسالة المؤتمر الخامس).
ثالثاً: مخرجات التربية
إن الهدف الأساسي من التربية هو تكوين الأفراد وتعبئتهم وإعداد الرجال الذين يحملون على كاهلهم واجب نشر الفكرة وتبليغها، وتمكين مشروع النهضة من أجل استئناف الحياة الكريمة على أسس الإسلام من جديد. وأهم مردود نتوقعه من التربية أن تخرّج لنا أفراداً يتمثلون مجموعة من القيم يعيشون بها ولها. والمتتبع لكلام الأستاذ البنا يجد أنه طرح “منظومة قيمية” تشمل أهم المواصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان تجاه نفسه وتجاه الجماعة.
كما يفصل الجدول التالي الأهداف التي يتعين على الأخ أن يحققها تجاه نفسه وتجاه الجماعة، والوسائل أو الواجبات التي يتعين عليه القيام بها لتحقيق هذه الأهداف، في ضوء منظومة القيم (أركان البيعة).
جدول إصلاح النفس
الأهداف الوسائل (الواجبات)
1- أن يكون قوي الجسم
(أداء الواجبات الصحية) 1- الكشف الصحي، والعلاج، والوقاية الجسمانية.
2- الابتعاد عن المنبهات والتدخين.
3- الاعتناء بالنظافة.
4- تجنب الخمر والمسكر والمفتر.
5- الرياضة والتدريب.
2- أن يكون متين الخلق
(أداء الواجبات الأخلاقية) 1- صادق الكلمة فلا تكذب أبداً.
2- الوفاء بالعهد والكلمة والوعد.
3- الشجاعة في الحقوق والاعتراف بالخطأ.
4- الوقار والجد والفكاهة الرزينة.
5- الحياء والإحساس والتواضع.
6- العدل والإنصاف وامتلاك الغضب.
7- تقديم الخدمات العامة.
8- الرحمة والكرم والسماحة والرفق.
3- أن يكون مثقف الفكر
(أداء الواجبات الثقافية) 1- الورد اليومي وتلاوة القرآن وتدبره والاستماع إليه.
2- دراسة السيرة وتاريخ السلف.
3- مطالعة الأحاديثن وحفظ الأربعين النووية.
4- دراسة رسالة في العقائد، ورسالة في فروع الفقه.
5- تكوين مكتبة خاصة، تعينك على الإلمام العام.
4- أن يكون قادراً على الكسب
(أداء الواجبات العملية والمالية) 1- مزاولة العمل الحر.
2- عدم الحرص على الوظيفة الحكومية.
3- إتقان العمل وعدم الغش.
4- حسن التقاضي وأداء حقوق الناس.
5- تجنب وسائل الكسب الحرام.
6- الابتعاد عن الربا في جميع المعاملات.
7- خدمة الثروة الإسلامية، والحرص على الاقتصاد الوطني.
8- الاشتراك في الدعوة بجزء من المال الخاص.
9- الإدخار للطوارئ والابتعاد عن الكماليات.
5- أن يكون سليم العقيدة
(أداء الواجبات العقائدية) 1- فهم الإسلام أنه نظام شامل لكل مناحي الحياة.
2- الإيمان بآيات الصفات ومنع التأويل والتعطيل.
3- عدم تكفير المسلم الذي أقر بالشهادتين.
4- كيفية الدعاء إلى الله ليست من مسائل العقيدة.
5- إنكار معرفة ادعاء الغيب ومحاربته.
6- زيارة القبور سنة بالكيفية المأثورة.
7- محبة الصالحين والأولياء قربة إلى الله تعالى.
8- محاربة البدع التي ليس لها أصل في دين الله.
6- أن يكون صحيح العبادة
(أداء الواجبات التعبدية) 1- دوام رقابة الله تعالى.
2- إحسان الطهارة والوضوء.
3- أداء الصلاة في أوقاتها.
4- صيام رمضان، وحج البيت.
5- استصحاب نية الجهاد.
6- تجديد التوبة والاستغفار.
7- مجاهدة النفس والغرائز.
7- أن يكون مجاهداً لنفسه
(أداء واجبات المجاهدة) 1- التقرب إلى الله بالطاعات.
2- الابتعاد من المعاصي.
3- تغليب الحسنات على السيئات.
4- الإكثار من العمل الصالح وفعل الخير.
8- أن يكون حريصاً على وقته
(أداء واجبات كفاءة استخدام الوقت) 1- إنفاق الوقت بما يعود بالخير.
2- إدراك فقه الأولويات.
3-التعود على تنظيم الوقت وحسن توزيعه.
9- أن يكون منظماً في شئونه
(أداء واجبات كفاءة التنظيم) 1- تنظيم العمل والمكتب والأوراق.
2- تنظيم العلاقات الأسرية والاجتماعية.
3- تنظيم الاجتماعات والواجبات.
10- أن يكون نافعاً لغيره
(أداء واجبات التكافل والنفع للغير) 1- تأدية حقوق الأخوة من الحب والتقدير والمساعدة والإيثار.
2- الاشتراك في تنمية الثروة الإسلامية بتشجيع المشروعات الإسلامية.
3- التدرب على الخدمات العامة.
ولقد ختم الأستاذ البنا هذه الأهداف والواجبات بقوله:
“أيها الأخ الصادق: هذا مجمل لدعوتك، وبيان موجز لفكرتك، وتستطع أن تجمع هذه المبادئ في خمس كلمات: الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن شرعتنا، والجهاد سبيلنا، والشهادة أمنيتنا، وأن تجمع مظاهرها في خمس كلمات أخرى: البساطة، والتلاوة، والصلاة، والجندية، والخلق. فخذ نفسك بشدة بهذه التعاليم، وإلا ففي صفوف القاعدين متسع للكسالى والعابثين. وأعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غاياتك، كان جزاؤك العزة في الدنيا والخير والرضوان في الآخرة” (رسالة التعاليم)