كتاب حفظ القرآن الكريم.. للشيخ محمد الدويش

كتاب حفظ القرآن الكريم.. للشيخ محمد الدويش

المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد –

فقد كانت البشرية تعيش في تخبط وتيه وتُوزِّع ولاءاتها بين طواغيت وأصنام، وبين كهان ومشعوذين، قد أسلمت يدها كالأعمى لهؤلاء يقودونها أينما أرادوا وكيفما شاءوا.

فجاء الله تبارك وتعالى بهذا الكتاب هادياً ومبشراً ونذيراً للناس، ((كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. الله الذي له ما في السموات ومافي الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد)) (إبراهيم1-2).

جاء هذا الكتاب المبين فنقل الله به الناس من الجاهلية والشرك إلى الهداية والتوحيد، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وتحولت تلك الأمة التي تحمله من أمة لا تُذْكر إلا مثالاً على الهمجية والتخلف، إلى أمة تأخذ بزمام البشرية أجمع لتقودها لسعادة الدارين.

وما هي إلا سنوات وانطلق حملة هذا الكتاب يجوبون الديار، ويقطعون الفيافي حاملين رسالة التوحيد ومشعل الهداية للبشرية أجمع، وهاهي قبورهم المتناثرة هنا وهناك تبقى شاهداً على هذه الحقيقة.

ودار الزمان دورته، وأصبح الأمر كما قال الشاعر-

ومافتيء الزمان يدور حتــى     مضى بالمجد قوم آخرونــا

وأصبح لا يرى في الركب قومي    وقد عاشوا أئمته سنينــا

وآلمني وآلم كل حـــــر     سؤال الدهر أين المسلمونا

واليوم وقد بدأت بشائر النور تلوح في الأفق، يشعر جيل الصحوة وحاملو الراية أن عنوان فلاحهم، وأمارة استقامة منهجهم، ودليل سيرهم على خطا الرعيل الأول في الإقبال على كتاب الله.

فبدأ الشباب يتوافدون على حفظ القرآن والإقبال على تلاوته وتدبره، وهي خطوة رائدة بإذن الله تحتاج إلى من يدفعها لتبذل المزيد، ولمن يقول لأولئك الذين لما يلحقوا بالقافلة بادروا ففي الأمر متسع، وهلموا قبل أن يفوت الأوان.

وتأتي هذه الرسالة -وهي الرابعة ضمن رسائل للشباب- علها أن تساهم في دفع المسيرة، وتوجيه الشباب نحو مزيد من الإقبال على كتاب الله وتعاهده، وأن تكون معيناً ومثبتاً لأولئك الذين سلكوا هذا الطريق.

وفيها تحدثت عن فوائد حفظ القرآن الكريم، وبعض النماذج من أخبار الحفاظ، وختمتها بوصايا عاجلة لحملة كتاب الله، ولم أتحدث فيها عن طرق الحفظ ووسائله، فهذا الجانب قد تحدث عنه كثير من الكتَّاب.

والله أسأل أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، وأن يبارك في هذا الجهد إنه سميع مجيب،،،

لماذا نحفظ القرآن؟

لماذا نحفظ القرآن؟ سؤال لا يطرحه مسلم جاد إلا من باب الرغبة في التعرف على فضائل هذا العمل وآثاره ليزداد رغبة وحماسة؛ ذلك أن قضية فضيلة حفظ القرآن مقررة لدى كل مسلم بداهة، بغض النظر عن موقعه في سلم الثقافة، وعن مدى تدينه واستقامته.

وهاهي محاولة لحشد بعض الفضائل والمزايا لحفظ القرآن الكريم، سواء ما دلت عليها النصوص الشرعية صراحة، أو كان ذلك مما يفهم من عموم النصوص وقواعد الشرع.

1 – حفظ القرآن هو الأصل في تلقيه

لقد وصف الله تبارك وتعالى هذا القرآن بقوله ((بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)) (العنكبوت49) وقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث القدسي-«إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرأه نائماً ويقظان»(رواه مسلم).

قال النووي «فمعناه محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على مر الزمان».

ومن لطائف الاستدلال في ذلك ما استدل به أبو الفضل الرازي فقال«ومنها أن الله عز وجل لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجوماً متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة، إلا ليتلقوه حفظاً، ويستوي في تلقفه في هذه الصورة الكليل والفطن، والبليد والذكي، والفارغ والمشغول، والأمي وغير الأمي، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله حفظاً ولفظاً قرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف».

2 – القرآن مصدر التلقي عند الأمة

القرآن الكريم دستور الأمة، فإليه الحكم والتحاكم، ومنه الاستمداد والتشريع، وما من صغيرة أو كبيرة إلا ونبأها في هذا الكتاب العزيز ((وما كان ربك نسياً))(مريم64)، وهو مع ذلك الضياء الذي تحمله الأمة لسائر الناس لتؤدي رسالتها، خير أمة أخرجت للناس، شهيدة عليهم في الدنيا والآخرة، فلا يصير المرء مسلماً إلا بالإيقان أنه من عند الله، والخضوع والاستسلام له، فإذا كان هذا شأن القرآن في حياة الأمة، فما بالك بشأن من يحفظه ويعنى به؟

3 – حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة

صرح بعض أهل العلم أن حفظ القرآن الكريم واجب على الأمة فإن قام بذلك قوم وإلا سقط الإثم عن الباقين.

قال بدر الدين الزركشي «قال أصحابنا تعلم القرآن فرض كفاية، وكذلك حفظه واجب على الأمة، صرح به الجرجاني في الشافي والعبادي وغيرهما».

4 – التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم

لقد جعل الله تبارك وتعالى للأمة في محمد صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً))(الأحزاب21).

ويتعبد المسلم لربه تبارك وتعالى في البحث والتعرف على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما كان يفعل في أموره وأحواله، ومن ثم التأسي بها واتباعها.

وحفظ كتاب الله تبارك وتعالى فيه من التأسي به صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم يحفظه ويديم تلاوته ومعارضة جبريل به، وقد نبه على هذا المعنى أبو الفضل الرازي المقريء فقال«فمنها ما لزم الأمة من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جلي أمر الشرع وخفيه، قولاً وفعلاً، على الوجوب أو الندب إلى أن يقوم دليل على أنه كان -عليه السلام- مخصوصاً به من قوله أو فعله، فلما وجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حافظاً بجميع ما نزل عليه من القرآن، ومأموراً بقراءته، حتى أنه -عليه السلام- من شدة تمسكه بحفظه كان يعرض على جبريل -عليهما السلام- في كل سنة مرة واحدة، وفي السنة التي قبض فيها عرض عليه -عليهما السلام- مرتين، وكان يعرض على أصحابه ويعرضون عليه، ويعجل به ليستكثر منه، لئلا ينسى ولحرصه عليه، فنهي عنه بقوله تعالى ((ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه)) (طه114) وبقوله عز وجل ((لا تحرك به لسانك لتعجل به)) (القيامة16) وأمر بالترتيل، وأمن مما كان يصده عن ذلك وهو خشية النسيان والتفلت منه بقوله تعالى ((سنقرئك فلا تنسى))(الأعلى6) علمنا أن الأمة لزم حفظه مع الإمكان و

ثم قال بعد أن ذكر وجوهاً أخرى «غير أني أتقدم عليه بسند ما تقدم من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعرضه على غيره، وعرض الصحابة رضي الله عنهم بعضهم على بعض، ففي جميع ذلك مستدل أنه من الله سبحانه وتعالى دعا به إلى حفظه، وعطف على العمل بما فيه، وأن لا يسع أحد أن يتخلف عن حفظه أو تحفظه، وتلاوته على الدوام إلا عن عذر ظاهر».

مجالس حفظ القرآن

لئن كان الناس يفتخرون بمجالس تصلهم بقوم ذوي شأن لدى الناس، أو تحقق لهم مطالب يسعون إليها، فأولئك الذين يجلسون في مجالس حفظ كتاب الله تبارك وتعالى أولى بذلك وأسعد، ذلك أنهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم «…وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه »(رواه مسلم).

فهي فضائل أربع يدركها هؤلاء-

1 – نزول السكينة من الله تبارك وتعالى.

2 – غشيان الرحمة، ورحمة الله قريب من المحسنين ومن عباده الصالحين، وما أفقر العبد لرحمة الله، أليس في دعائه كثيراً ما يقول يا أرحم الراحمين؟ فهاهو باب الرحمة مفتوح فبادر بولوجه علَّ الله أن يرحمك.

3 – أن تحفهم الملائكة وهم عباد الله المكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

4 – أن يذكرهم الله فيمن عنده، فأين هذا مما يسعى إليه بعض الناس أن يذكره أحد الأكابر أو يثني عليه، فأي فضيلة للعبد أسمى وأعلى من أن يذكره الله تبارك وتعالى فيمن عنده.

وثمة فضائل ومناقب أخرى لهذه المجالس جاءت في سائر النصوص-

5 – فمنها أن هذه المجالس غالباً ما تكون في بيوت الله تبارك وتعالى، وقد أثنى الله على من يعمرها بالعبادة ((في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تهليهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب))(النور36-38).

وأخبر صلى الله عليه وسلم عن شأن المساجد فقال« أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها»(رواه مسلم).

6 – كثيراً ما يجلس القارئ في هذه المجالس بعد أداء الفريضة، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وحث عليه، وأخبر أن صاحبه تصلي عليه الملائكة «فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه»(رواه البخاري).

7 – وهي مجالس روادها من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، الذين رفع الله شأنهم، وأعلى ذكرهم في الدنيا والآخرة.

8 – ورد فضل الاجتماع على الذكر والعلم، ومن ذلك الحديث الطويل في شأن الملائكة الذين يتتبعون مجالس الذكر.

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم« إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادواهلموا إلى حاجتكم، قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم ما يقول عبادي؟ قالوا يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول هل رأوني؟ قال فيقولون لا، والله ما رأوك، قال فيقول وكيف لو رأوني؟ قال يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وتحميداً، وأكثر لك تسبيحاً، قال يقول فما يسألوني؟ قال يسألونك الجنة، قال يقول وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال يقول فكيف لو أنهم رأوها، قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة، قال فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار، قال يقول وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال يقول فكيف لو رأوها؟ قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافة، قال فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال هم ا

ولاشك أن أفضل الذكر والعلم تلاوة كتاب الله وحفظه والوقوف عند حدوده ومعانيه.

وتأمل كيف غفر الله لهذا الذي لم يكن منهم، إنما جاء لحاجة فجلس، لتجد فيه إجابة على سؤال كثير ممن يشتكي من ضعف النية، أو التقصير، أو أنه يفعل بعض الذنوب في الخلوات، فيدعوه ذلك للتفكير في مفارقة الجلساء الصالحين الأخيار.

إلى المحاضن التربوية

وبعد هذا السرد لهذه الفوائد التي تتأتى لحافظ القرآن الكريم والمشتغل به نتساءل أين الشباب عن العناية بهذا القرآن، وأين جيل الصحوة عن حفظه وتدارسه؟

وما حجم حفظ القرآن ضمن برامجنا التربوية؟ أليس أولى من كثير مما ينشغل به الشباب اليوم؟ ولماذا لا يصبح حفظ القرآن والعناية بتعلمه أساس برامجنا ومنطلقها، أما حين يكون جزءاً منها فأحسب أننا لم نقدره حق قدره.

ومع عتبنا على إخواننا الذين يقصرون في هذا الأمر ولا يولونه حق رعايته فإننا نشد بأيدي أولئك الذين جعلوا مبدأ التربية والتوجيه حفظ القرآن الكريم، ونرى أنها بداية بإذن الله تؤذن بالسير على منهج سلف الأمة، إذ كان هذا شأنهم وديدنهم.

وعلى المدى الأوسع حين ننقل الطرف إلى مقاعد الدراسة فإننا نشارك الأديب مصطفى صادق الرافعي شكواه وهمه إذ يقول «نحن نأسف أشد الأسف وأبلغه بل أحراه أن يكون هماً يعتلج في الصدر ويستوقد في الضلوع إذ نرى نشء هذه الأيام قد انصرفوا عن جمع القرآن واستيعابه وأحكامه قراءةً وتجويداً، فلا يحفظون منه إن حفظوا إلا أجزاء قليلة على أنهم ينسونها بعد ذلك، ثم يشب أحدهم كما يشب قرن الماعز نبت على سواء، ولا يثبت على التواء، ويخرج وقد عق لغته وأنكر قومه، وانسلخ من جلدته واستهان بدينه وخرج من آدابه، ولا يستحي من ذلك أن يقول هاأنذا فاعرفوني».

وإنه لمما يبعث على الأسى ويحز في قلب كل مسلم غيور أن نرى فئاماً من خريجي الجامعات، بل وربما حملة الشهادات العليا في العالم الإسلامي اليوم لا يجيدون تلاوة كتاب الله، فضلاً عن حفظ شيء منه، وكم نسبة الذين يتجاوز حفظهم الجزء الأخير من القرآن الكريم في خريجي الجامعات في العالم الإسلامي اليوم؟

أليس من الجدير بالعناية أن يتنادى المربون وأصحاب الشأن في الأمة الإسلامية اليوم إلى كلمة سواء تعيد الاعتبار لكتاب الله عز وجل في برامج التعليم.

فهلا كانت هناك خطوةٌ لتقرير قدر من القرآن على الطلاب والطالبات، وهل كل ما يدرسه أولئك أهم وأحوج من القرآن الكريم؟

ولقد أثبتت الدراسات العلمية المعاصرة أن حفظ القرآن في المراحل الأولية من التعليم له أثره على ملكات ومهارات مهمة يحتاج إليها التلميذ.

ففي دراسة أجراها الدكتور سعد المغامس أظهرت نتائج الدراسة أن تلاوة القرآن الكريم وحفظه ودراسته أسهمت في تنمية مهارات القراءة والكتابة لدى تلاميذ الصف السادس الابتدائي مما مكن التلاميذ في مدارس تحفيظ القرآن الكريم من الحصول على درجات أعلى من متوسط أقرانهم في مدارس التعليم العام، حيث أظهرت الدراسة أنه توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين متوسط درجات تلاميذ الصف السادس من مدارس تحفيظ القرآن، ومتوسط درجات تلاميذ مدارس التعليم العام لصالح تلاميذ مدارس تحفيظ القرآن، وذلك من خلال اختبارات القراءة والكتابة التي أعدها الباحث، وكذلك من واقع درجات التلاميذ في سجلات المدارس التي اعتمد عليها في نجاحهم من الصف الخامس إلى الصف السادس».

وفي دراسة أخرى أجرتها د. هاتم ياركندي أظهرت نتائج الدراسة« وجود فروق دالة إحصائياً بين مجموعة طالبات تحفيظ القرآن الكريم، وطالبات الصف الرابع في المدارس العادية في مهارتي القراءة والإملاء لصالح طالبات تحفيظ القرآن الكريم».

والمربون اليوم إذ يدعون إلى إعادة الاعتبار لمادة القرآن الكريم فليس ذلك لأنه يزيد من مهارات معينة للتلاميذ، بل لأنه دستور الأمة وأولى ما تعنى بتعلمه وتعليمه.

الحـفظ بين العزيمة وهم الطريقة

يحرص كثير من الشباب حين يدرك فضل حفظ القرآن على تحقيق هذا الأمر، بل إن المسلم يحمل هذا الشعور ابتداءً دون أن يحدَّث بفضل حفظ القرآن، وما من مسلم أياً كان إلا ويتمنى أن يكون قد حفظ القرآن، بغض النظر عن جدية هذه الأمنية وتفاوتها.

حينها يتساءل الشاب كثيراً ما الطريقة المثلى لحفظ كتاب الله؟ كيف أحفظ القرآن؟ أريد الحفظ فما السبيل؟… وهي تساؤلات جادة يبحث فيها صاحبها عن إجابة تعينه على بلوغ هذا الهدف وتحقيقه، ويشعر أن إجابة هذا السؤال تحل له اللغز الذي حيره كيف يحفظ القرآن، فقد سعى وحاول ولكن..؟ ومن ثم يدعوه ذلك إلى التفتيش والسؤال عن طرق الحفظ معتقداً أنه سيجد الإجابة الشافية، وسيجد الحل لهذا اللغز المحير.

إنه ومع التسليم بأن هناك ضوابط مهمة تعين الحافظ على سلوك هذا الطريق، وأن الجهل بها قد يضيف عليه أعباءً من الوقت والجهد، وقد يتسبب ذلك في ضياع جزءٍ من وقته سدى، إلا أن العامل الأساس والأهم ليس هو هذا، وستبقى مسؤولية الجهل والإخلال بها محصورة في دائرة التأخر أو ضعف الحفظ، أما أن تكون هي وحدها التي تملك الحل السحري فهذا أمر لا يمكن.

أرأيت رجلاً يقف أسفل جبل شاهق ويراد منه أن يصعده راجلاً فيتساءل عن الطرق الموصلة إلى القمة، فيُعطى خارطة دقيقة أتراه يستطيع ذلك دون أن يكون لديه همة عالية وعزيمة جادة تدفعه لتحمل المصاعب؟

وحين تقدم قائمة محددة بتكاليف إقامة مشروع اقتصادي وخطوات ذلك، فلن تفيد هذه القائمة من لا يملك القدرة أو الاستعداد للتفرغ لهذا المشروع والقيام به.

كذلك حفظ كتاب الله تبارك وتعالى طريق فيه نوع من الطول والمشقة، ويحتاج ممن يريد سلوكه إلى همة وعزيمة، وجد وتحمل، يحتاج إلى أن يخصص له جزءاً من وقته لا يصرفه لغيره، وأن يعيد ترتيب أولوياته ليكون هذا المشروع في مقدمتها، وأن يعطيه بعد ذلك الفترة الزمنية الكافية.

وهذا لا يعني أن نهمل العناية بالطريقة المناسبة والأسلوب الأمثل، والاستنارة بتجارب الآخرين، لكن ذلك كله إنما يأتي بعد أن يملك المرء النية الصادقة، والعزيمة الجادة، والهمة العالية ويبدأ الخطوات العملية.

من سير الحفاظ وأخبارهم

يدرك المسلم بفطرته فضل حفظ القرآن وعلو منزلة حامله، وحشد النصوص والفضائل مما يرسخ هذا المعنى ويزيده.

وحين يضاف لذلك النماذج الواقعية العملية تزيد من يقين المرء بقدرته على تحويل هذه المعاني إلى واقع ملموس، وليس أدل على ذلك من عناية القرآن الكريم والسنة النبوية بإيراد القصص والنماذج للاعتبار والاتعاظ والتأسي.

وهذه طائفة يسيرة من سير الحفاظ وأخبارهم علها أن تكون منارة ومثلا يحتذى للجيل.

من أخبار الشباب والغلمان

كان عمرو بن سلمة -رضي الله عنه- وهو من صغار الصحابة حريصاً على تلقي القرآن، فكان يتلقى الركبان ويسألهم ويستقرئهم حتى فاق قومه أجمع، وأهَّله ذلك لإمامتهم، ولنستمع لذلك من روايته -رضي الله عنه- إذ يقول«كنا على حاضر فكان الركبان -وقال إسماعيل مرة الناس- يمرون بنا راجعين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  فأدنو منهم فأسمع حتى حفظت قرأناً، وكان الناس ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، فلما فتحت جعل الرجل يأتيه فيقول يا رسول الله، أنا وافد بني فلان وجئتك بإسلامهم، فانطلق أبي بإسلام قومه فرجع إليهم، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قدموا أكثركم قرأناً» قال فنظروا وإني لعلى حِواء عظيم، فما وجدوا فيهم أحداً أكثر قرأناً مني، فقدموني وأنا غلام…(رواه أحمد).

ويتساءل الشاب اليوم وهو يرى هذا النموذج، فقد كان هذا الصحابي الشاب -رضي الله عنه- حريصاً على حفظ القرآن وتعلمه، ولم يتح له ما أتيح لنا اليوم من وسائل وإمكانات، فليس أمامه حلقة لتحفيظ القرآن، ولا تسجيلات أو مقرئ متفرغ، بل إن القرآن ليس مجموعاً له في مصحف يقرأه ويحفظ منه، ومع ذلك يبلغ هذا المبلغ رضي الله عنه.

ونلمس الحرص نفسه عند زيد بن ثابت -رضي الله عنه- فيأتي قومُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  مفاخرين بما حصَّل صاحبهم، يحدثنا عن ذلك فيقول إن قومه قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم  وقال «يا زيد، تعلم لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمن يهود على كتابي» قال زيد فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب(رواه البخاري وأحمد).

وآخر أيضاً جاوز العاشرة بقليل وهو البراء بن عازب -رضي الله عنه- يقول« فلم يقدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  حتى قرأت سوراً من المفصل ».

وعبدالصمد بن عبدالرحمن بن أبي رجاء البلوي (ت 619هـ) روى عن أبيه القرآن تلاوة، وسمع منه عدة كتب، ومات أبوه وله نحو من عشر سنين.

وعلي بن هبة الله الجميزي (ت 649هـ) حفظ القرآن وهو ابن عشر سنين.

ومجد الدين ابو البركات ابن تيمية (ت 652هـ) حفظ القرآن وتفقه على عمه الخطيب فخر الدين، ثم رحل في صحبة سيف الدين ابن عمه وهو مراهق.

زيد بن الحسن تاج الدين الكندي ت(613هـ)، قرأ القرآن تلقيناً على أبي محمد سبط الخياط وله نحو من سبع سنين وهذا نادر -كما قال الذهبي- وأندر منه أنه قرأ بالروايات العشر وهو ابن عشر حجج.

أبو شامة (ت 665هـ) قرأ القرآن صغيراً، وأكمل القراءات على شيخه السخاوي وعمره سبعة عشر عاماً.

أبو بكر بن عمر بن مُشَبَّع المِقصّاتي (ت 713هـ) قرأ القرآن وهو دون العشرين.

حمزة بن حبيب الإمام المقرئ (ت 158هـ)، قال عن نفسه «ولدت سنة ثمانين، وأحكمت القراءة ولي  خمس عشرة سنة».

خلف بن هشام بن ثعلب الإمام الحافظ الحجة شيخ الإسلام (ت 229هـ) خرج من بغداد وعمره (19) عاماً لم يخلف فيها أقرأ منه.

مكي بن أبي طالب العلامة المقرئ ولد سنة (355هـ) وقرأ بالقراءات على ابن غلبون سنة (376هـ) أي حين كان عمره (21) سنة.

أبو علي الأهوازي المقرئ المحدث ولد سنة (362هـ) عني من صغره بالروايات والأداء قرأ لقالون سنة (378هـ) أي حين كان عمره (16) سنة.

أبو بكر النقاش المقرئ المفسر أحد الأعلام، المولود سنة (266هـ) عني بالقراءات من صغره، فقرأ على الحسن بن عباس بن أبي مهران الرازي سنة (285) ، وذلك حين كان عمره (19) عاماً.

ومنهم الإمام النووي فقد ذكر عنه شيخه يسين بن يوسف المراكشي قال رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين بنوى والصبيان يكرهونه على اللعب معهم وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم ويقرأ القرآن في تلك الحال، قال فوقع في قلبي محبته، وكان قد جعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن، قال فأتيت معلمه فوصيته به، وقلت له إنه يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال لي أمنجم أنت؟ فقلت لا وإنما انطقني الله بذلك، قال فذكر المعلم ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم».

وحين يقف الشاب على مثل هذه النماذج تعلو همته وتزداد، ويسعى للتأسي بهم واللحاق بركبهم، ويشعر أنه حين يقبل على كتاب الله تبارك وتعالى كما أقبلوا يقفز حاجز الزمن ليشعر أنه وإياهم في درب واحد؛ فمن أحب قوماً حشر معهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

ويتساءل حينها أين ما أرى عليه بعض أترابي الذين فتنوا بنجوم اللهو والعبث، وسعوا للتشبث بما هم عليه – مما أنا عليه من التأسي بهؤلاء؟

وصايا لحملة القرآن

الوصية الأولى

ألا سأل أحدكم نفسه هذا السؤال لماذا أحفظ القرآن؟ ألأني صحبت قوماً يحفظون فحفظت معهم؟ أم لأني درست في مدرسة تحفيظ القرآن؟ أم ليقال حافظ؟ أم لأن والدي ألزمني بذلك. فهلا حرصنا على تصحيح النية، واستصحاب الإخلاص لله وحده.

عن إياس بن عامر قال أخذ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بيدي ثم قال«إنك إن بقيت سيقرأ القرآن ثلاثة أصناف، فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا، ومن طلب به أدرك»(أخرجه الدارمي).

الوصية الثانية

إن من أعظم حقوق كتاب الله دوام التلاوة، وتكرار القراءة، وكثيراً ما يصف الله عباده المتقين بأنهم يتلون كتابه حق تلاوته ((إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور)) (فاطر29). ((ليسوا سواءً  من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله ءاناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين))(آل عمران112-115).

الوصية الثالثة

لقد ضرب لكم النبي صلى الله عليه وسلم  مثلاً بصاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال «تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصياً من الإبل في عقلها»(رواه البخاري)

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه صلى الله عليه وسلم  قال «إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت»(رواه البخاري ومسلم).

فالله الله في تعاهد ما حفظتموه، وإياكم أن تفرطوا بهذه النعمة التي حباكم الله تبارك وتعالى إياها.

الوصية الرابعة

لقد قرأتم في كتاب الله ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته))(ص29) ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها))(محمد24)، فتدبر القرآن والعمل به هو الأساس، وإياكم أن يقف همكم عند مجرد إقامة حروفه.

الوصية الخامسة

يفتن كثير من الشباب بالشهوات، ويخرون صرعى أمام دواعي الفتنة، والإغراء التي عمت وطمت في هذا العصر، أما أنتم فلكم شأن آخر

أحدهم إن أحس فراغاً صار يفكر في شهوته قد شغلته المجلة الهابطة والفيلم الساقط والنظرة الآثمة، وأنت إن وجدت الفراغ قرأت القرآن، فمصحفك في صدرك تتلوه أينما كنت، وهو تتعلق نفسه بفتاة وربما بغلام، وهذا عنوان موت القلب، وعلامة العطب والخذلان عافانا الله وإياكم، أما أنت فتتعلق همتك، ونفسك للاقتداء بأنبياء الله، ومن قص الله عليك قصتهم في كتابه، وهو يفتن بالغانيات من أبناء الدنيا، أما أنت فقد عقدت العزم على خطبة الحور العين الكواعب الأبكار فتأيمت مما حرم الله عليك لتظفر بها في دار البقاء والنعيم.

فكن أيماً مما سواها فإنها     لمثلك في جنات عدن تأيم

الوصية السادسة

لقد رفع الله الناس في هذه الدنيا منازل ورتب ((وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ))(الأنعام165). ((أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً)) (الزخرف32) وها أنتم ترون الناس حولكم وقد حازوا من الدنيا إلى رحالهم ما حازوا الشرف، المال، الجاه، التفوق، وأنتم -شأنكم شأن سائر البشر -قد تمتد أعينكم إلى ما هم فيه، لكنكم حين تتذكرن أنكم قرأتم في كتاب الله وصيته لنبيه ((ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتهم فيه ورزق ربك خيرٌ وأبقى)) (طه131) تزهدون بما هم عليه وترضون بمنزلتكم العالية (أهل الله وخاصته).

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بالفيديو| خالتي تصفية والدير.. جديد “تعاشب شاي”

بث الإعلامى أحمد بحيري حلقة أخرى من حلقات برنامجه “تعاشب شاي” على موقع يوتيوب، اليوم ...