مباحث في علوم الحديث للإمام الشهيد حسن البنا

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

 

أما بعد، فقد جرت سنة الله تبارك وتعالى أن يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها أمر دينها، ومن هؤلاء المجددين الإمام الشهيد حسن البنا – رحمه الله.

 

– ولقد كان الإمام الشهيد بشهادة المنصفين آية من آيات الله في العلم والفقه، والذكاء والحكمة، والفصاحة والبيان، والتخطيط والإدارة…….

 

ولقد ترك الإمام الشهيد تراثًا نفيسًا هو بحق درر متلألئة تدل على علمه وفقهه، ودقة فهمه….

 

ولولا كثرة مشاغله بالأسفار لإيقاظ الأمة، وتربيتها على معاني الإسلام السامية؛ لألف الكثير والكثير في مختلف الفنون، وشتى العلوم؛ ولكنه آثر تأليف الرجال تلبيةً لمقتضى الحال.

 

– وإنَّ من يزور مكتبة الإمام الشهيد، ويطلع على روافده العلمية ليدرك مدى اطلاعه الواسع، وثقافته العميقة، كيف لا، وهو أمام آلاف المراجع من الكتب الأمهات، وغيرها في شتى فنون الثقافة الإسلامية، والعلوم الإنسانية.

 

– وصدق من قال فيه:

 

إن حسن البنا إذا تحدَّث مع المفسرين كان إمامهم، وإذا جلس مع الفقهاء كان فقيههم، وإذ تكلَّم في الحديث كان أستاذهم، وإذا تحدَّث في السياسة كان قائدهم…….

 

وهذه شهادة عن احتكاك ومعايشة، وتفاعل ومخالطة، ولولا ما ذكرناه سابقًا من كثرة المشاغل لسعد الناس بفقه الإمام الشهيد المسطور في الكتب.

 

ومع هذا فإن الله لم يحرمنا خير هذا الإمام الرباني، فوقعت بين أيدينا درةً من تراثه؛ هي عبارة عن مذكرة مختصرة في علوم الحديث:

 

(وهذه المذكرة هي سلسلة مقالات في الأصل).

 

وهذه المذكرة عجيب أمرها:

 

– فهي تخاطب الإخوان جميعًا، والقراء كلهم على تفاوت مستوياتهم.

 

– وهي تتعلق بعلم من العلوم الدقيقة التي تحتاج إلى صياغة خاصة في الأسلوب والعرض؛ مما جعل رواد هذا العلم قلة.

 

– ولكننا نجد الإمام الشهيد بما آتاه الله من علم وحكمة، وحسن بيان، وجمال خطاب، نجده قد أتى بالعجب، فقد بسط هذا العلم ويسَّره جدًّا، وقرَّبه للقراء؛ بحيث لا يكون هنالك مشقة وعناء ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾ (المائدة: من الآية 54).

 

وإن هذه المذكرة تكشف لنا عدة أمور مهمة منها:

 

– سعة اطلاع الإمام الشهيد، وتضلعه في هذا الفن، وذلك من خلال مراجع المذكرة ومصادرها، ومن خلال عرضه لأقوال العلماء المتعددة في المسألة الواحدة.

 

– جمع الإمام الشهيد بين دقة المحدث، وفقه الداعية؛ وهي أمور أدَّى غيابها إلى بلاء عظيم، أما أسلافنا فقد كانوا يراعونها أشد المراعاة.

 

ونلمح هذا في ذلك العنوان:

 

“من الحكمة والكياسة في التحديث تحري المصلحة والمناسبات في الرواية، فلا يحدث بكل صحيح كل أحد”.

 

– حرصه الشديد على اتباع السنة، وظهورها، وتقديمها على ما عارضها من آراء، وما خالفها من تقليدات. كل هذا بأسلوب مقنع، صريح في بيانه، خالٍ من النيل والتجريح.

 

– احترام آراء العلماء في المسألة الواحدة، ما دام للرأي وجاهته، والمسألة اجتهادية.

 

– عفة الإمام الشهيد في نقد المخالفين مع بيان الصواب، وكشف الخطأ بألطف أسلوب.

 

ونلمح ذلك عند مناقشته مسألة تمحيص المتون.

 

– العرض البديع، والبيان الفريد، الذي لم أعثر على مثله في مسألة: “الحديث القدسي، والفرق بينه وبين القرآن والحديث النبوي”.

 

وكم كنا نود أن لو أكثر الإمام الشهيد من مباحث هذا العلم العظيم القدر، الجليل الشأن، كيف لا، وهو يتعلق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ولكن ظروف عصره- رحمه الله- كانت تلحُّ عليه في أمور لا تجد من يقوم بها من إرساء قواعد الدعوة وأصولها، وبيان أهدافها وغاياتها، وتحديد وسائلها وأساليبها، ورسم مراحلها وخطواتها، وكشف عقباتها وسبل تذليلها…. وصناعة الجنود العظام، والأبطال الرجال الذين يحملون رايتها، وينطلقون من المحراب إلى الميدان بادئين بـ”الله غايتنا”، منتهين إلى “الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.

 

فرحمة الله ورضوانه على الإمام الشهيد.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

 

الرواية والإسناد:

 

ما الإسناد؟ وما المتن؟

 

تقرأ الحديث الشريف فيطالعك أول ما يطالعك “السند”.

 

وهو: سلسلة الرواة الذين نقل عنهم هذا الحديث من لدن رسول الله– صلى الله عليه وسلم- إلى أن انتهى إلى أحد الحفاظ المشهورين كمالك أو البخاري أو مسلم رضي الله عنهم.

 

والإسناد: رفع الحديث إلى قائله.

 

وقال ابن جماعة: المحدثون يستعملون السند والإسناد لشيء واحد.

 

وأما المتن: فهو ألفاظ الحديث نفسها.

 

ومعرفة السند هي الأساس عند المحدثين في الحكم على درجة الحديث، إذ إن عماد الصحة أو الضعف عندهم درجة الراوي من الصدق، ودرجة روايته من الوضوح والثقة.

 

ولهذا كانت عنايتهم بالأسانيد عظيمة، نشأ عنها علم مصطلح الحديث بلواحقه من علم الرجال والأنساب والكنى والأسماء والجرح والتعديل.

 

الإسناد من خصائص الأمة الإسلامية:

 

ولم يؤثر عن أمة من الأمم العناية برواة أخبارها وكتبها، ومأثورات أنبيائها، كما عرف ذلك عن هذه الأمة الإسلامية التي عنيت بهذه الناحية أتم العناية؛ حتى إن اهتمامها بالأسانيد والرواة لم يقف عند حد العلوم الشرعية، بل تعداها إلى العلوم الأدبية والأخبار التاريخية وغيرها، وإن كان في الحديث النبوي وما إليه أدق وأوضح.

 

قال أبو علي الجياني: (خصَّ الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب).

 

وقال ابن حزم: “نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خصَّ الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود، ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد صلى الله عليه وسلم، بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا… ولا يمكن أن يبلغوا إلى صاحب نبي ولا إلى تابع له”.

 

وقد أثر عن السلف في الحث على العناية بالإسناد أقوال كثيرة:

 

قال ابن المبارك: “الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما يشاء”.

 

وقال سفيان بن عيينة: “حدث الزهري يومًا بحديث فقلت: هاته بلا إسناد، فقال الزهري: أترقى السطح بلا سلم؟”.

 

وقال الثوري: “الإسناد سلاح المؤمن”.

 

وقال أحمد بن حنبل: “طلب الإسناد العالي سنة عن السلف؛ لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة، فيتعلمون من عمر ويسمعون منه”.

 

وقال محمد بأن أسلم الطوسي: “قرب الإسناد قرب- أو قربة- إلى الله تعالى”.

 

وقال محمد بن سيرين: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخدون دينكم”.

 

وقال: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”.

 

وحكى الأوزاعي عن سليمان بن موسى قال: (لقيت طاووسًا، فقلت: حدثني فلان كيت وكيت، قال: إن كان صاحبك مليًا فخذ عنه).

 

أنواع التحمل ودرجاته:

 

وكما لو كانوا يتحرون حال الراوي؛ كانوا يعنون كذلك بالطريقة التي تلقى بها عن شيخه.

 

وطرق التلقي تختلف في الأسلوب وفي الرتبة ومنها:

 

1- السماع من لفظ الشيخ إملاءً من حفظه، أو تحديثًا من كتابه.

 

2- قراءة الطالب على الشيخ.

 

3- سماع الطالب على الشيخ بقراءة غيره.

 

4- المناولة مع الإجازة كأن يدفع له الشيخ أصل سماعه، أو فرعًا مقابلاً به، ويقول له: أجزت لك روايته عني.

 

5- الإجازة المجردة عن المناولة، ولها أنواع كثيرة مفصلة في كتب الفن.

 

6- المناولة من غير إجازة بأن يناوله الكتاب مقتصرًا على قوله: هذا سماع، ولا يقول اروه عني، ولا أجزت لك روايته.

 

قيل: تجوز الرواية بهذه المناولة، والصحيح عندهم عدم الجواز، ومثلها.

 

7- الإعلام: كأن يقول: هذا الكتاب من مسموعاتي من غير أن يأذن له في روايته عنه.

 

8- الوصية: كأن يوصي بكتاب عند سفره أو موته.والأرجح عدم جواز الرواية به.

 

9- الوجادة: كأن يجد حديثًا أو كتابًا بخط شيخ معروف، لا يرويه الواحد عنه بسماع ولا إجازة، فله أن يقول: وجدت أو قرأت بخط فلان.

 

قال النووي: وأما بالوجادة فعن المعظم أنه لا يجوز.

 

وقطع البعض بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به.

 

قال: وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان غيره.

 

أقدم إجازتين مأثورتين:

 

1- إجازة أبي خيثمة لزكريا بن يحيى: جاء في شرح ألفية العراقي نقلاً عن الإمام أبي الحسن محمد بن أبي الحسين بن الوزان، قال: “ألفيت بخط أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب الحافظ الشهير صاحب يحيى بن معين وصاحب التاريخ ما مثاله:

 

قد أجزت لأبي زكريا يحيى بن مسلمة أن يروي عني ما أحب من كتاب التاريخ الذي سمعه مني أبو محمد القاسم بن الأصبح وحمد بن عبد الأعلى، كما سمعاه مني، وأذنت له في ذلك ولمن أحب من أصحابه، فإن أحب أن تكون الإجازة لأحد بعد هذا، فأنا أجزت له ذلك بكتابي هذا.

 

وكتب أحمد بن خيثمة بيده في شوال سنة ست وسبعين ومائتين”.

 

2- إجازة حفيد بن شيبة للخلال، وكذلك أجاز حفيد يعقوب بن شيبة، وهذه نسختها فيما حكاه الخطيب:

 

“يقول محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة: قد أجزت لعمر بن أحمد الخلال وابنه عبد الرحمن بن عمر ولِخِتْنَه على بن الحسن جميع ما فاته من حديثي مما لم يدرك سماعه من المسند وغيره، وقد أجزت ذلك لمن أحب عمر، فليرووه عني إن شاءوا.

 

وكتبت له ذلك بخطى في صفر سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة”.

 

دقة التحري وسعة معرفة أئمة الفن بأحوال الرواة:

 

وإن ما أثر عن أئمة رواية الحديث في دقة تحريهم عن أقوال الرواة وسعة معرفتهم بكل ما يتصل له من شئون خاصة أو عامة لمّا يقضي منه العجب.

 

ولقد كانوا يتحرجون من الرواية حتى عن الثقات؛ لتوهم الشبهة في بعض تصرفاتهم المتصلة بالرواية.

 

ولا تثبت صفة التقدم والحفظ لأحد من رجال الحديث؛ حتى يكون قد حفظ متن الحديث وألفاظه وسنده حفظًا تامًّا، ثم ألمَّ بمعرفة رجاله وأحوالهم فردًا فردًا، ثم أضاف ذلك العلم بطرق روايته المختلفة.

 

وهذا الإمام مسلم بن الحجاج يحدثنا في مقدمة صحيحه عن شيء من هذا، فيقول شارحًا منهاجه في الرواية: “ثم إنا إن شاء الله مبتدئون في تخريج ما سألت، وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك وهو:

 

– أنّا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

– فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس.

 

– فأما القسم الأول: فإنا نتوخى أن نقدِّم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها، وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا.

 

– فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإنْ كانوا فيما وصفنا دونهم؛ فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم: كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار.

 

فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة، وخصلة سنية.

 

ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم: عطاء، ويزيد، وليثًا بمنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث والاستقامة فيه؛ وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لا شك عند أهل العلم بالحديث في ذلك للذي استفاض عندهم من صحة حفظ منصور والأعمش وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث.

 

وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت ابن الأقران كابن عون، وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جميلة وابن أشعث الحراني؛ وهما صاحبا الحسن وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال أفضل، وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم.

 

فعلى نحو ما ذكرنا من الوجوه نؤلف ما سألت ثم الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم، فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن مسور أبي جعفر المدائني، وعمرو بن خالد، وعبد القدوس الشامي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وغياث بن إبراهيم، وسليمان بن عمرو أبي داود النخعي، وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث، وتوليد الأخبار.

 

– ومن أمثلة التورع في الرواية حتى عن الثقات ما رواه مسلم بعد ذلك عن أبي الزناد عن أبيه قال: “أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله”.

 

وإذا رجعت إلى كتب الرجال والعلل والجرح والتعديل أدهشك ما ترى من ذلك.

 

جودة الحفظ وسرعته ودقته وكثرته:

 

ولقد اشتهر الكثير من أئمة الحديث بسرعة الحفظ وجودته، ودقته وكثرته حتى كانوا أعاجيب الدنيا في هذه المعاني، ومنهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الذي روى عنه في ذلك الغرائب المدهشة منذ كان غلامًا؛ حتى لقي ربه.

 

ولقد حدث عن نفسه فيما رواه الفريري قال: “ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب”.

 

قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟

 

فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يومًا: فيم كان يقرأ للناس؛ سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم؟

 

فقلت: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهزني.

 

فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك.

 

فدخل فنظر فيه ثم رجع، فقال: كيف هو يا غلام؟

 

فقلت: هو الزبير وهو ابن عدي عن إبراهيم. فأخذ القلم وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت.

 

فقال له إنسان: ابن كم حين رددت عليه؟

 

فقال: ابن إحدى عشرة سنة.

 

قال: فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع. وعرفت كلام هؤلاء– يعني أصحاب الرأي.

 

وقال حامد بن إسماعيل وآخر: كان البخاري يختلف معنا إلى السماع وهو غلام، فلا يكتب؛ حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له. فقال: إنكما قد أكثرتما على فأعرضا على ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرًا وأضيع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.

 

وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت سلم بن مجاهد يقول: “كنت عند محمد بن سلام البيكندي، فقال لي: لو جئت قبل لرأيت صبيًّا يحفظ سبعين ألف حديث.

 

قال: فخرجت في طلبه فلقيته، فقلت: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟

 

قال: نعم وأكثر، ولا أجيئك بحديث عن الصحابة أو التابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم.

 

ولست أروى حديثًا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه حفظًا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

 

ومن ذلك الحادثة المشهورة التي يرويها ابن عدي فيقول:

 

سمعت عدة مشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد، فاجتمع أصحاب الحديث، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا لإسناد هذا، وإسناد هذا لمتن هذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فقام وسأله عن حديث منهم:

 

فقال: لا أعرفه.

 

فسأله عن آخر.

 

فقال: لا أعرفه؛ حتى فرغ من العشرة.

 

وفعل مثل ذلك مع من بقي من المشايخ، لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه.

 

حتى إذا فرغوا، التفت إلى الأول، فقال: أما حديثك الأول فإسناده كذا وكذا، والثاني كذا وكذا، والثالث إلى آخر العشرة، فرد كل متن إلى إسناده.

 

وفعل بالثاني مثل ذلك إلى أن فرغ.

 

فأقر له الناس بالحفظ والتقدم.

 

اختلاف درجات الحديث باختلاف مراتب الرواة:

 

وبهذا الاختلاف في درجات الرواة، وقوة الأسانيد، اختلفت مراتب الحديث، وقوة الاحتجاج بها، ووضع لكل منها اسم ووصف يكشف عن درجته.

 

فالصحيح، والحسن، والضعيف، وما إلى ذلك من أوصاف وألقاب للأحاديث، إنما مرده وأصله هذا الاختلاف في طبقات الرواة.

 

ونرجو أن نوفق في الكلمة التالية إلى التعرض لهذه الناحية بالذات؛ حتى نضع بين يدي القراء الكرام من الذين لم يتصلوا بهده الدراسات خلاصة موجزة واضحة لترجمة هذه الاصطلاحات، ليسهل عليهم الاتصال بهذه الكتب والفنون إذا وجدوا الوقت والرغبة.

 

الحديث والخبر والأثر:

 

تدور هذه الألفاظ الثلاثة على ألسنة المحدثين، والمشتغلين بهذا الفن، والمتصلين به.

 

– ومنهم من يعتبرها بمعنى واحد: وأنها جميعًا ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريرًا أو صفةً.

 

– وقيل: الحديث: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

 

والخبر: ما جاء عن غيره.

 

والأثر: ما روي عن صحابة أو تابعي.

 

– ولعل خير ما يقال في هذا الشأن: إن الحديث إذا أطلق هكذا انصرف إلى ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وأن الخبر والأثر ينصرفان إلى هذا المعنى بالقرينة المميزة مع صحة إطلاقها على غير الحديث من الأخبار والمرويات عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.

 

ومعلوم أن السنة هي فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو قوله أو إقراره.

 

الحديث القدسي:

 

أطال أهل الفن في تعريف الحديث القدسي، والفرق بينه وبين القرآن والحديث النبوي.

 

وخلاصة ما ذكروه في ذلك، وأولاه بالصواب إن شاء الله:

 

– أن الحديث القدسي إلهام من الله تبارك وتعالى لنبيه في اليقظة أو في النوم صورًا من المعاني والمقاصد، يشعر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يأمره بتصويرها لعباده، فيصورها لهم بعبارة من لفظه هو صلى الله عليه وسلم على أنه يرويها عن ربه عز وجل.

 

ومثاله: حديث أبي ذر الغفاري المطول الذي رواه النووي في أربعينه، وهو الرابع والعشرون منها: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرمًا بينكم، فلا تظالموا” الحديث.

 

وهو بهذا التعريف غير معجز، ولم يوح به إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بواسطة جبريل عليه السلام، وليست ألفاظه من عند الله بداهةً.

 

– أما القرآن الكريم: فترتسم معانيه وألفاظه في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقاء الملك، وينتهي الوحي وقد وعى النبي صلى الله عليه وسلم ما ألقى إليه بلفظه ومعناه، ويبلغه الناس؛ فيكون معجزًا؛ لأن لفظه وتركيبه من عند الله.

 

– وأما الحديث النبوي: فهو تعبير عن الحقائق والمعاني والأفكار التي تفيض بها نفس النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه هو عليه الصلاة والسلام.

 

وهو صدق وحق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى أبدًا.

 

قالوا: ولرواية الحديث القدسي صيغتان:

 

إحداهما: أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه؛ وهي عبارة السلف.

 

وثانيتهما: أن يقول: قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والمعنى واحد.

 

ولا شك أن الأولى أفضل؛ لأنها لا توهم التشبيه بالقرآن الكريم.

 

بين المتن والإسناد:

 

عرفنا في الفصل السابق كيف أن أئمة هذا الفن- جزاهم الله خيرًا- بذلوا منتهى الجهد في تحري أحوال الرواة وشئونهم، وأن هذا كان مدار ترجيحهم لصدق الحديث وقوته أو ضعفه.

 

– ويقول بعض الباحثين:

 

“إنه كان يجب أن تبذل العناية كذلك لتمحيص المتون، والحكم على قوة الأحاديث وضعفها بما يسفر عنه التمحيص.

 

فقد يأتي بعض المتون وفيه ما لا يتفق مع نتائج البحث العلمي.

 

ففي الوقت الذي تصرف فيه الهمة إلى الكشف عن أحوال الرجال، وتحري شئون الرواة، يجب كذلك أن نعتني بتطبيق متن الحديث على حقائق البحث العلمي، والحكم بعد ذلك على الحديث بالميزانين معًا لا بميزان واحد”.

 

وهذا قول له بعض المبررات، وفيه كثير من الوجاهة، ويجب أن يكون ذلك من عمل هذا الجيل الممحص النقاد الذي ارتقت فيه وسائل النقد العلمي إلى حد كبير.

 

ولكن لا يجب أن تفوتنا مع ذلك هذه الملاحظات:

 

1- إن اتهام السلف رضوان الله عيهم بإهمال النظر في المتون جملة غير صحيحة، فكثيرًا ما كانوا يعنون بهذه النظرة، ويردون بعض المرويات لهذا السبب، ويتخذون من عدم انطباق المتن على قواعد الشرع الجلية دليلاً على ضعف إسناده، وعدم نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووهم راويه.

 

كما رد ابن عباس حديث أبي هريرة رضى الله عنه: “من حمل جنازة فليتوضأ”.

 

وعلل هذا الرد بقوله: (لا يلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة).

 

فروح النظر في المتون، والاستدلال بها على درجة الحديث كانت موجودة إذن.

 

2- إن هذا الميزان ميزان اعتباري بحسب العقول والعصور كذلك، فما نعده نحن اليوم حديث خرافة، كان يعتبر في بعض العصور الماضية حقيقة من حقائق العلوم والمعارف الرسمية حينذاك، والشواهد على ذلك كثيرة.

 

وما نعتبره نحن اليوم حقيقةً علميةً مقررةً، لو ذكر لمن سبقونا لاعتبروا قائله مجنونًا، ولحكموا عليه بالإعدام. وقد فعلوا، وتلك طبيعة التطور العلمي.

 

وما كنا لنكلف سلفنا فوق ما يطيقون، وجزاهم الله أفضل الجزاء بما جاهدوا.

 

أما الأخذ بميزان تمحيص الإسناد، ومعرفة حال الرواة، والحكم على درجة الحديث بهذا الاعتبار، فهو أدق الموازين وأضبطها؛ لأنه يعتمد على أمور حسية واقعية، لا يختلف معها التقدير الصحيح إلا إذا تدخلت الغايات والأهواء. ومن حسن الحظ أنها لم تتدخل إلا بعد أن تناولت هذا الميزان أطهر النفوس، وأنقى القلوب، وأعف الأيدي، فنفت عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين، والحمد لله رب العالمين.

 

3- ولهذا كان ما عرف من الأحاديث التي حكم عليها أهل هذا الفن بالصحة مخالفًا لبعض مقررات العلوم قليلاً جدًّا، نادرًا كل الندرة، قد أحصى وعرف، فلم يتعد العشرات إلى المئات إن لم يكن الآحاد.

 

وكثير منها يمكن التوفيق بينه وبين هذه المقررات بضرب مقبول ميسور من التأويل، والباقي يحمل على أنه رواية بالمعنى لم يدقق فيها الراوي. و﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ (يوسف: من الآية 41).

 

وسنعرض لشيء من الأمثلة خلال البحث إن شاء الله.

 

المتواتر والآحاد

 

– الحديث المتواتر: هو ما نقل عن عدد من الرواة يحصل العلم بصدقهم ضرورة بأن يكونوا جمعًا، لا يمكن تواطؤهم على الكذب، يروونه عن مثلهم عن مثلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

ولهذا كان مفيدًا للعلم الضروري، ويجب العمل به.

 

واختلفوا في تحديد هذا العدد: فمن قائل: أربعة، ومن قائل: سبعة، ومن قائل: عشرة، ومن قائل: سبعين، ولم يجمع أهل الفن على عدد معين.

 

– والمتواتر قسمان:

 

* لفظي: وهو ما تواتر لفظه.

 

* ومعنوي: وهو ما تواتر القدر المشترك فيه.

 

وللأول أمثلة كثيرة منها:

 

– حديث “من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار”. رواه نحو المائتين.

 

– وحديث المسح على الخفين. رواه سبعون.

 

– وحديث رفع اليدين في الصلاة. رواه نحو الخمسين.

 

ومن أمثلة الثاني: أحاديث رفع اليدين في الدعاء؛ فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيها: رفع يديه في الدعاء.

 

ولكنها في قضايا ومواضع مختلفة.

 

فكل موضع منها لم يتواتر، ولكن القدر المشترك، وهو: رفع اليدين في الدعاء تواتر باعتبار المجموع.

 

– والأحاديث المتواترة قليلة طبقًا لدقة هذا الشرط، وتعسر توفره، خصوصًا إذا بالغنا في العدد، وأخذنا بقول من حددوه بالمائة أو بالسبعين أو نحوها.

 

– ولهذا أُثر عن أبي حنيفة رضى الله عنه أنه لم يظفر من المتواتر إلا بسبعة عشر حديثًا، فحرف هذا المعنى بعض المغرضين الذين يريدون أن يهربوا من القول بحجية الحديث، ووجوب العمل به، وزعموا أن أبا حنيفة مع جلالة قدره في الفقه لم يجد من الأحاديث الصحيحة إلا سبعة عشر حديثًا، فوضع الصحيح بدلاً من المتواتر، للاستدلال على ما يريدون، وهو زعم غير صحيح، وقد نبهنا عليه.

 

الحديث الآحاد: وأما حديث الآحاد: فهو ما لم يتوفر فيه شرط التواتر السابق.

 

وجوب العمل بخبر الآحاد:

 

قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مقدمة مسلم: “نبه مسلم رحمه الله تعالى على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع؛ وهي: وجوب العمل بخبر الواحد، فينبغي الاهتمام بها، والاعتناء بتحقيقها”. وقد أطنب العلماء رحمهم الله في الاحتجاج لها وإيضاحها.

 

وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدثين.

 

وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي رحمه الله.

 

وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه.

 

ونذكر هنا طرفًا فنقول:

 

– اختلف العلماء في حكمه:

 

فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع، يلزم العمل بها، ويفيد الظن، ولا يفيد العلم.

 

وإبطال قول من قال لا حجة فيه ظاهر.

 

– فلم تزل كتب النبي صلى الله عليه وسلم وآحاد رسله يعمل بها، ويلزمهم النبي صلى الله عليه وسلم العمل بذلك.

 

– واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم من السلف والخلف على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة وقضائهم به، ورجوعهم إليه في القضاء والفتيا، ونقضهم به ما حكموا على خلافه، وطلبهم خبر الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده، واحتجاجهم بذلك على من خالفهم، وانقياد المخالف لذلك.

 

وهذا كله معروف، لا شك في شيء منه.

 

والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد.

 

وقد جاء الشرع بوجوب العمل به؛ فوجب المصير إليه.

 

– وأما من قال: يوجب العلم: فهو مكابر للحس.

 

وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب وغير ذلك متطرق إليه؟!

 

– ونقل في الفتح عن ابن القيم ما ملخصه:

 

“السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه”:

 

– أحدها: أن توافقه من كل وجه فيكون من توارد الأدلة.

 

– ثانيها: أن تكون بيانًا لما أريد بالقرآن.

 

– ثالثها: أن تكون دالةً على حكم سكت عنه القرآن، وهذا الثالث يكون حكمًا مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتجب طاعته فيه.

 

ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يطاع إلا فيما وافق القرآن لم تكن له طاعة خاصة. وقد قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)﴾ (النساء).

 

وقد تناقض من قال: إنه لا يقبل الحكم الزائد على القرآن إلا إن كان متواترًا أو مشهورًا، فقد قالوا بتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم ما يحرم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط والشفعة والرهن في الحضر، وميراث الجدة، وتخيير الأمة إذا أعتقت، ومنع الحائض من الصوم والصلاة، ووجوب إحداد المعتدة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر، وإيجاب الوتر، وأن أقل الصداق عشرة دراهم، وتوريث بنت الابن السدس مع البنت، واستبراء المسبية بحيضة، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطع رجل السارق في الثانية، وترك القصاص مع الجرح قبل الاندمال، والنهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وغيرها مما يطول شرحه.

 

وهذه الأحاديث كلها آحاد، وبعضها ثابت، وبعضها غير ثابت، ولكنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام.

 

ولهم في ذلك تفاصيل يطول شرحها، ومحل بسطها أصول الفقه.

 

وقد قسموا أحاديث الآحاد بعد ذلك إلى عدة أقسام.

 

أنواع الأحاديث ودرجاتها

 

علمت مما تقدم أن الحديث يحكم على درجته بأحوال رواته، وأحوال الرواة لا تحصى، وأحوال المتون كذلك.

 

ومن هنا قال السيوطي بعد أن ذكر هو والنووي خمسةً وستين نوعًا للأحاديث: (ليس هذا آخر الممكن في ذلك فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى).

 

ومع ذلك فهذه الأنواع التي لا تُحصى ولا تخرج عن ثلاثة أقسام: الصحيح، والحسن، والضعيف.

 

لأنه إن اشتمل من أوصاف القبول على أعلاها فالصحيح، أو على أدناها فالحسن، أو لم يشتمل على شيء منها فالضعيف.

 

ويتصل بكل قسم من هذه الأقسام بحوث نجملها فيما يلي:

 

الحديث الصحيح:

 

هو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، مع السلامة من الشذوذ والعلل.

 

وهناك الصحيح لغيره وهو: ما لم تتوافر فيه هذه الشروط بأكمل معانيها؛ ولكنه اكتسب وصف الحصة لسبب آخر؛ كالرواية من غير وجه، أو تلقي العلماء له بالقبول، أو الانطباق التام على الآيات المحكمة، أو بعض أصول الشريعة. فإن هذه المعاني وأشباهها ترفعه إلى درجة الصحة.

 

مراتب الصحيح:

 

إن رتب الصحيح ودرجاته تتفاوت في القوة بحسب تفاوت الأوصاف المتقدمة. فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه.

 

ومن المرتبة العليا في ذلك ما أطلق عليه بعض أئمة الفن أنه أصح الأسانيد: كالزهري عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه. وكمحمد بن سيرين عن عبيدة بن عمر السلماني عن علي. وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود. وكمالك عن نافع عن ابن عمر.

 

قال النووي رحمه الله: والصحيح أقسام:

 

* أعلاها: ما اتفق عليه البخاري ومسلم.

 

* ثم ما انفرد به البخاري.

 

* ثم ما انفرد به مسلم.

 

* ثم ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه.

 

* ثم على شرط البخاري.

 

* ثم على شرط مسلم.

 

* ثم ما صححه غيرهما من الأئمة.

 

فهذه سبعة أقسام.

 

– ولم تستوعب الأحاديث الصحيحة في مؤلف واحد، وإن كانت الأصول الخمسة وهي: “صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي”، لم يفتها من الصحيح إلا اليسير كذا قال النووي.

 

– وأول مصنف في الصحيح: موطأ الإمام مالك.

 

– وتلاه: صحيح البخاري.

 

– وإذا قيل: أصح شيء في هذا الباب، فلا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث. فإنهم يقولون: هذا أصح ما جاء في هذا الباب وإن كان ضعيفًا.

 

ومرادهم: أرجحه أو أقله ضعفًا.

 

الحديث الحسن:

 

قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: “أول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف أبو عيسى الترمذي”. ولم تعرف هذه التسمية عن أحد قبله.

 

وقد بيَّن أبو عيسى مراده بذلك: فذكر أن الحسن ما تعددت طرقه، ولم يكن فيهم متهم بالكذب، ولم يكن شاذًا وهو دون الصحيح الذي عرف عدالة ناقليه وضبطهم.

 

وأما من قبل الترمذي من العلماء، فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي، لكن كانوا يقسمونه إلى: صحيح، وضعيف.

 

– والضعيف كان عندهم نوعان:

 

ضعيف ضعفًا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي.

 

وضعيف ضعفًا يوجب تركه، وهو الواهي.

 

أقسام الحسن:

 

والحسن قسمان:

 

1- حسن لذاته: وهو ما اشتهر رواته بالصدق، ولم يصلوا في الحفظ رتبة رجال الصحيح. وهذا تعريف ابن الصلاح.

 

– وقال الطيبي: “الحسن: مسند من قرب من درجة الثقة، أو مرسل ثقة، وروي كلاهما من غير وجه، وسلم من شذوذ وعلة”.

 

– وقد تقدم تعريف الترمذي.

 

– ومن ألطف تعاريفه: “ما اتصل إسناده بنقل عدل، قلَّ ضبطه عن الصحيح غير شاذ ولا معلل”.

 

وخلاصتها جميعًا: أنه أقل من الصحيح، وفوق الضعيف.

 

2- حسن لغيره: وعرفه ابن الصلاح: بما كان في إسناده مستور لم تتحقق أهليته، غير مغفل، ولا كثير الخطأ في روايته، ولا متهم يتعمد الكذب فيها، ولا ينسب إلى مفسق آخر، واعتضد بمتابع أو شاهد. فأصله ضعيف، وإنما طرأ عليه الحسن بالعاضد الذي عضده، فاحتمل لوجود العاضد، ولولاه لاستمرت صفة الضعف فيه، ولاستمر على عدم الاحتجاج به.

 

مراتب الحسن:

 

وللحسن رتب كالصحيح.

 

– فأعلاها: ما قبل لصحته؛ كبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر، وأمثال ذلك وهو أدنى مراتب الصحيح.

 

– ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وضعفه؛ كحديث الحارث بن عبدالله، وعاصم بن ضمرة، وحجاج بن أرطأة ونحوهم. قاله الذهبي.

 

– والحسن لذاته المشهور رواته بالعدالة والصدق اشتهارًا دون اشتهار رجال الصحيح، إذا روى من وجه آخر، ترقى من الحسن إلى الصحيح. وهذا هو الصحيح لغيره.

 

ومثاله: حديث الترمذي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة”.

 

فإن محمدًا وإنْ اشتهر بالصدق، والصيانة، ووثقه بعضهم لذلك، لم يكن متقنًا لسوء حفظه، فحديثه حسن لذاته.

 

وبمتابعة محمد عليه في شيخ شيخه، وهو أبو هريرة؛ يرتقي إلى الصحة لغيره، فقد رواه جماعة غير أبي سلمة عن أبي هريرة.

 

والمتابعة قد يراد بها متابعة الشيخ، وقد يراد بها متابعة شيخ الشيخ.

 

والحديث رواه الشيخان من طريق الأعرج عن أبي هريرة فهو: صحيح لذاته من هذا الطريق، صحيح لغيره من طريق محمد بن عمرو.

 

الاحتجاج بالحسن:

 

وجمهور المحدثين، وعامة الفقهاء على أن الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه في القوة. ولهذا أدرجه طائفة في أنواع الصحيح؛ كالحاكم، وابن حيان، وابن خزيمة.

 

وقال السخاوي: منهم من يدرج الحسن في الصحيح لاشتراكهما في الاحتجاج، بل نقل ابن تيمية إجماعهم عليه إلا الترمذي خاصة.

 

وقال الخطابي: على الحسن مدار أكثر الحديث؛ لأن غالب الأحاديث لا تبلغ رتبة الصحيح، وعمل به عامة الفقهاء، وقبله أكثر العلماء.

 

قال: وشدد بعض أهل الحديث، فرد بكل علة قادحة كانت أم لا.

 

كما رُوي عن أبي حاتم أنه قال: سألت أبي عن حديث، فقال: إسناده حسن، فقلت: يحتج به؟ فقال: لا.

 

– وزيادة راوي الصحيح والحسن مقبولة.

 

إذ هي في حكم الحديث المستقل، وهذا إن لم تناف رواية من لم نرد نفتها ولزم من قبولها رد الأخرى؛ احتيج للترجيح.

 

فإن كان لأحدهما مرجح فالأخرى شاذة.

 

قال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها: “وزيادة راويهما- أي الصحيح والحسن– مقبولة، ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة؛ لأنه إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها، فهذه تقبل مطلقًا؛ لأنها في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة، ولا يرويه عن شيخه غيره. وإما أن تكون منافيةً بحيث يلزمهم من قبولها رد الرواية الأخرى؛ فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها، فيقبل الراجح، ويرد المرجوح.

 

– واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقًا من غير تفصيل.

 

ولا يتأتى ذلك عن طرق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح ألا يكون شاذًّا، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه.

 

والعجب ممن أغفل منهم ذلك مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح، وكذا الحسن.

 

– والنقول عن أئمة الحديث المتقدمين، كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة وأبي حاتم، والنسائي، والدار قطني، وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها. ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة.

 

– ويصف الترمذي بعض الأحاديث بأنه “حسن صحيح”:

 

ويرى بعض المحدثين في هذا التعبير ما يستوقف النظر؛ لأن وصف الحسن قاصر عن الصحة.

 

وقد أجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: “إن تردد أئمة الحديث في حال ناقليه؛ اقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين. فيقال فيه:

 

– حسن وصفه عند قوم.

 

– وصحيح باعتبار وصفه عند قوم.

 

وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد؛ لأن حقه أن يقول: حسن أو صحيح.

 

وعليه، فما قيل فيه: حسن صحيح، دون ما قيل فيه صحيح؛ لأن الجزم أقوى من التردد. وهذا من حيث التفرد.

 

فإن لم يحصل تفرد، فإطلاق الوصفين على الحديث يكون باعتبار إسنادين؛ أحدهما: صحيح فقط، والآخر حسن.

 

وعلى هذا، فما قيل فيه: حسن صحيح فوق ما قيل فيه صحيح فقط إذا كان فردًا؛ لأن كثرة الطرق تقوي.

 

ألقاب تشمل الصحيح والحسن:

 

الجيد، والقوي، والصالح، والمعروف، والمحفظ، والموجود، والثابت، والمقبول؛ كلها ألفاظ مستعملة عند أهل الحديث في الخبر المقبول، صحيحًا كان أو حسنًا، أو ضعيفًَا يصلح للاعتبار.

 

لواحق:

 

1- هل توجب صحة الحديث القطع به؟

 

للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

 

– الوجوب مطلقًا. وقد ذهب إلى ذلك ابن طاهر المقدسي.

 

– عدم الوجوب لجواز الخطأ والنسيان على الثقة. وعزاه النووي في التقريب للأكثرين والمحققين، وأنهم قالوا: إنه يفيد الظن ما لم يتواتر.

 

قال في شرح مسلم: (لأن ذلك شأن الآحاد، ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما).

 

وتلقي الأمة بالقبول إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه بخلاف غيرهما، فلا يعمل به حتى ينظر فيه، ويوجد فيه شروط الصحيح. ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما القطع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

 

– تخصيص الوجوب بما رواه الشيخان أو أحدهما. وهو اختيار ابن الصلاح.

 

وأضاف إليه ابن حجر المشهور والمسلسل بالأئمة.

 

قال أبو إسحاق الإسفراييني: أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذلك خلاف في طرقها ورواتها.

 

قال: فمن خالف حكمه خبرًا منها، وليس له تأويل سائغ للخبر، نقضنا حكمه لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول.

 

واستثنى ابن الصلاح من المقطوع بصحته في الصحيحين ما تكلم فيه من أحاديثها.

 

وقال ابن حجر في شرح النخبة: الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم خلافًا لمن أبى ذلك.

 

قال: وهو أنواع: منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ التواتر، فإنه احتف به قرائن: منها:

 

– جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح إلى غيرهما.

 

– وتلقي العلماء بكتابيهما بالقبول.

 

وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ.

 

وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته.

 

2- وإذا صح الحديث فقد وجب العمل به، وإن لم يخرجه الشيخان، ولا يترك العمل به لرأي ولا تقليد إمام ولا لتوهم إجماع.

 

قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): (والذي ندين الله عليه، ولا يسعنا غيره، أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس، كائنًا من كان، لا راويه ولا غيره).

 

إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، ولا يحضره وقت الفتيا، أو يفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلاً مرجوحًا، أو يكون في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه.

 

ولو قدر انتفاء ذلك كله– ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه– لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك.

 

كان الإمام أحمد إذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه كائنًا من كان، ولذا لم يلتفت إلى خلاف عمر رضي الله عنه في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس، ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار. وهذا كثير جدًّا.

 

ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملاً ولا رأيًا ولا قياسًا ولا قول صاحب، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا، ويقدمونه على الحديث الصحيح.

 

– وقال الشعراني في الميزان: “فإن قلت: فما أصنع في الأحاديث التي صحت بعد موت إمامي ولم يأخذ بها؟”.

 

فالجواب: ينبغي لك أن تعمل بها، فإن إمامك لو ظفر بها، وصحت عنده لربما كان أمرك بها؛ فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه.

 

ومن قال: لا أعمل بالحديث إلا إن أخذ به إمامي، فاته خير كثير، كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب، وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم؛ تنفيذًا لوصية الأئمة، فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم، لأخذوا بها، وعملوا بها، وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه.

 

– وقد بلغنا من طرق صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل يقول للإمام أحمد بن حنبل: إذا صح عندكم حديث فأعلمونا به لنأخذ به، ونترك كل قول قلناه قبل ذلك، أو قاله غيرنا، فإنكم أحفظ للحديث، ونحن أعلم به.

 

– وقال في الرد على من يزعم أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه يقدم القياس على الحديث ما نصه:

 

“ويحتمل أن الذي أضاف إلى الإمام أبي حنيفة أنه يقدم القياس على النص، ظفر بذلك في كلام مقلديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس، ويتركون الحديث الذي صح بعد موت الإمام”.

 

فالإمام معذور، وأتباعه غير معذورين. وقولهم: إن إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث لا ينهض حجة، لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصح عنده.

 

وقد تقدم قول الأئمة كلهم: إذا صح الحديث فهو مذهبنا، وليس لأحد معه قياس ولا حجة إلا طاعة الله وطاعة رسوله، بالتسليم له.

 

– وقال ابن عابدين الدمشقي في شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي: صح عن أبي حنيفة أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

 

ونقل فيها عن العلامة قاسم أنه قال في رسالته المسماة “رفع الاشتباه عن مسألة المياه”: لما منع علماؤنا رضي الله عنهم من كان له أهلية النظر من محض تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العالم العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف، قال: حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: ليس لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قولنا؟، تتبعت مآخذهم، وحصلت منها بحمد الله تعالى على الكثير، ولم أقنع بتقليد ما في صحف كثير من المحدثين.

 

– وقال في رسالة أخرى: وإني ولله الحمد، لأقول كما قال الطحاوي لابن حربويه: لا يقلد إلا عصى أو غبي.

 

3- يجب أن تفهم ألفاظ الحديث على طبيعتها ودلالتها من غير غلو في التأويل، ولا تقصير دون المراد.

 

– قال ابن القيم في كتاب الروح: “ينبغي أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه مالا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده، وما قصده من الهدى والبيان.

 

وقد حصل بإهمال ذلك، والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله.

 

بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إذا أضيف إليه سوء القصد.

 

فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع، في محنة الدين وأهله. والله المستعان.

 

وما أوقع القدرية والمرجئة، والخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والروافض، وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ حتى صار الدين بأكثر أيدي الناس هو موجب هذه الأفهام، والذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم عن الله ورسوله فمهجور لا يلتفت إليه، ولا يرفع هؤلاء به رأسًا.

 

– وقال الشيخ علم الدين الفلاني المالكي في كتابه “إيقاظ الهمم”:

 

نرى بعض الناس إذا وجد حديثًا يوافق مذهبه، فرح به، وانقاد له وسلم.

 

وإن وجد حديثًا صحيحًا سالمًا من النسخ والمعارض، مؤيدًا لمذهب غير إمامه، فتح له باب الاحتمالات البعيدة، وضرب عنه الصفح، والعارض، ويلتمس لمذهب إمامه أوجهًا من الترجيح مع مخالفته للصحابة والتابعين والنص الصريح.

 

وإن شرح كتابًا من كتب الحديث، صرف كل حديث خالف رأيه.

 

وإن عجز عن ذلك كله ادعى النسخ بلا دليل، أو الخصوصية، أو عدم العمل به، أو غير ذلك مما يحضر ذهنه العليل.

 

وإن عجز عن ذلك كله ادعى أن إمامه اطلع على كل مروي أو جلِّه، فما ترك هذا الحديث الشريف إلا وقد اطلع على طعن فيه برأيه المنيف.

 

فيتخذ علماء مذهبه أربابًا، ويفتح لمناقبهم وكراماتهم أبوابًا، ويعتقد أن كل من خالف ذلك لم يوافق صوابًا، وإنْ نصحه أحد من علماء السنة اتخذه عدوًّا، ولو كانوا قبل ذلك أحبابًا.

 

وإن وجد كتابًا من كتب إمامه المشهورة، قد تضمن نصحه، وذم الرأي والتقليد، وحرض على اتباع الأحاديث المشهورة نبذه وراء ظهره وأعرض عن نهيه وأمره، واعتقده حجرًا محجورًا.

 

4- ومن الحكمة والكياسة في التحديث؛ تحري المصلحة والمناسبات في الرواية، فلا يحدث بكل صحيح كل أحد.

 

– روى الشيخان عن معاذ رضي الله عنه قال: “كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار.

 

فقال: “يا معاذ، هل تدرى ما حق الله على عباده؟ وما حق العباد على الله؟”، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: “فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب مَن لا يشرك به شيئًا”. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟، قال: “لا تبشرهم، فيتكلوا”.

 

– وفي رواية لهما عن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو ردفه قال: “ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار”.

 

قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا.

 

فقال: “إذن فيتكلوا” فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا.

 

– وروى البخاري تعليقًا عن عليّ رضي الله عنه قال: “حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله”.

 

– وروى مسلم عن ابن مسعود قال: “ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.

 

– وقال الحافظ ابن حجر: وممن كره التحديث ببعض دون بعض:

 

– أحمد، في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على الأمير.

 

– ومالك، في أحاديث الصفات.

 

– وأبو يوسف، في الغرائب.

 

– ومن قبلهم أبو هريرة. كما روى عنه في الجرابين. وأن المراد ما يقع من الفتن ونحوه عن حذيفة.

 

– وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يتعمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي.

 

وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد. فالإمساك عنه عند مَن يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب.
x

‎قد يُعجبك أيضاً

بالفيديو| خالتي تصفية والدير.. جديد “تعاشب شاي”

بث الإعلامى أحمد بحيري حلقة أخرى من حلقات برنامجه “تعاشب شاي” على موقع يوتيوب، اليوم ...