بقلم / محمد عبد الرحمن صادق
قال تعالى : ” حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {110} ” ( يوسف 110 ) .
– إنه ما من دعوة صادقة ، ورسالة سامية – منذ أن بعث الله تعالى الرسل الكرام ، وإلى يومنا هذا – إلا مرت بأوقات من الشدة والضيق والتضييق ما لم يتحمله من أصحابها إلا من كان صحيح العقيدة ، سليم العبادة ، صادق الإيمان . قال تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً {9} إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً {11} “( الأحزاب 9 – 11 )
– وفي أوقات الضيق والتضييق هذه يستأنس أصحاب الدعوات بكتاب الله تعالى لكي يجدوا بين طياته مخرجاً – وهو أهل لذلك ، وهم أهل لذلك – ، ولكن في بعض الأحيان يتم الاستشهاد ببعض الآيات على وجه غير الوجه الصحيح لها .
– والآية الكريمة التي بين أيدينا ” حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ …… ” ربما يستشهد بها بعض المستشهدون ويضعونها في غير موضعها ، وخاصة إذا حمي الوطيس واشتدت المواجهة بين الحق والباطل وكان للباطل دولة . والحقيقة أن تفسير هذه الآية له وجوه عدة ، آثرت أن أضع مُجملها في بداية الحديث كقاعدة يُبنى عليها ، وذلك لتهيئة ذهن القارئ لاستقبال ما بعدها من تفاسير المفسرين جزاهم الله جميعاً عنا خيراً .
– أولاً : مُجمل ما ورد في قوله تعالى ” اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ” حيث جاء تفسيرها على وجوه عدة :-
1- قوله تعالى : ” اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ” أي يئِسوا من إيمان قومهم وأيقنوا أن قومهم كذبوهم .
2- أو خشوا تحول من آمن من قومهم ونكوصهم بعد إيمانهم .
3- أو وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا ( بفتح الكاف والذال مُخففاً ) ، لما رأوا من تفضل الله عز وجل في تأخير العذاب .
4- أو قرُب أن يتسلل ذلك إلى نفوس الرسل ( دون ترجمته إلى أقوال أو أفعال ) .
5- أو أن الرسل كانت تخاف بُعد تحقيق ما وعدهم الله به من النصر والتمكين ، فهم يوقنون بأن وعد الله تعالى كائن لا محالة ولكن الخوف كان من أن يطول عليهم الابتلاء .
6- أو ظن الرسل أن الله تعالى أخلف ما وعدهم إياه ، بالانتصار على الباطل وبالتمكين ، وذلك لتطاول الزمن أو لانتفاش الباطل وأهله . فهم ربما حدثوا أنفسهم بشيء من ذلك دون ترجمته إلى أقوال أو أفعال . ( وهذه أضعف التأويلات ) لأن الرسل منزهون عن مثل هذه الأشياء .
– ثانياً : قال القرطبي رحمه الله : …. وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم . وهذا الباب عظيم ، وخطره جسيم ، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم . المعنى : وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالاً ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب . ” حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ” أي يئسوا من إيمان قومهم . ” وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ” بالتشديد ، أي أيقنوا أن قومهم كذبوهم . وقيل المعنى : حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذبوهم ، لا أن القوم كذبوا ، ولكن الأنبياء ظنوا وحسبوا أنهم يكذبونهم ، أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك ، فيكون ” وَظَنُّواْ ” على بابه في هذا التأويل . وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف ” كُذِبُواْ ” بالتخفيف ، أي ظن القوم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ، ولم يصدقوا .
– وقيل : المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم وفي رواية عن ابن عباس ، ظن الرسل أن الله أخلف ما وعدهم .
– وقيل : لم تصح هذه الرواية ، لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن ، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر، فكيف قال : ” جَاءهُمْ نَصْرُنَا ” ؟! قال القشيري أبو نصر : ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم ، وفي الخبر : ” إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به ” .
– ويجوز أن يُقال : قربوا من ذلك الظن ، كقولك : بلغت المنزل ، أي قربت منه . وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال : كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء ، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا ، ثم تلا : ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ ) ( البقرة 214 ) .
– وقال الترمذي الحكيم : وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر ، لا من تهمة لوعد الله ، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت ، حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم ، فكانت إذا طالت عليهم المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه .
– وقال المهدوي عن ابن عباس : ظنت الرسل أنهم قد أخلفوا على ما يلحق البشر، واستشهد بقول إبراهيم عليه السلام : ” رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ” الآية . والقراءة الأولى أولى . وقرأ مجاهد وحميد – ” قد كذبوا ” بفتح الكاف والذال مُخففاً ، على معنى : وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا، لما رأوا من تفضل الله عز وجل في تأخير العذاب. ويجوز أن يكون المعنى : ولما أيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم جاء الرسل نصرنا .
– وفي البخاري عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل : ” حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ” قال : قلت : أكذبوا أم كذبوا ؟ قالت عائشة : كذبوا . قلت : فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ؟ قالت : أجل ! لعمري ! لقد استيقنوا بذلك ، فقلت لها : ” وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ” قالت : معاذ الله ! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها . قلت : فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين أمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك .
– ثالثاً : ورد في مختصر تفسير ابن كثير للصابوني غفر الله له وأطال في عمره : …. قال ابن جرير، عن إبراهيم بن أبي حمزة الجزري قال، سأل فتى من قريش سعيد بن جبير قال : أخبرنا أبا عبد اللّه كيف هذا الحرف : فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة : ” حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ” قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم ، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا ، فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجلاً يدعى إلى علم فيتلكأ ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلا ( أخرجه ابن جرير الطبري ) . ثم روى ابن جرير أيضاً من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فأعتنقه ، وقال : فرج اللّه عنك كما فرجت عني . وأما ابن مسعود فقال ابن جرير، عن تميم بن حزم ، قال: سمعت عبد اللّه بن مسعود يقول في هذه الآية : ” حتى إذا استيأس الرسل ” من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم ، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا بالتخفيف ، فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس واللّه أعلم .
– رابعاً : قال سيد قطب رحمه الله : ….. تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله ، فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين ، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين ، مُدمراً ماحقاً لا يقفون له ، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير .
ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً . فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئاً . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء . والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة ، لذلك يشفقون أن يدعوها ، فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطرحوها ، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون الذين لا يتخلون عن دعوة الله ، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة .
– إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل ، إما أن تربح ربحاً مُعيناً مُحدداً في هذه الأرض ، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة ! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية – والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والإتباع في أي زمان أو مكان – يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل ! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود ! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله ، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات ! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف ، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضاً . وأنه من ثم لا تنضم إليها – في أول الأمر – الجماهير المستضعفة ، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله ، التي تُؤْثِر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة ، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً .
– وختاماً : أذكر بقوله تعالى : ” مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {23} ” ( الحديد 22 – 23 ) . كما أذكر بقوله تعالى : ” …….. وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {87} ” ( يوسف 87 ) .
– أدعوا المولى عز وجل أن يكون هذا الطرح لهذه الآية الكريمة قد وضح المعنى لمن التبس عليه فهمها أو وضعها في غير موضعها ، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه . كما أدعوه سبحانه وتعالى أن يُفرج كرب المكروبين وهم المهمومين ، وأن يأذن لدينه أن يسود ولشريعته أن تعم الأرض وتقود .