«الجامية المدخلية» سلفيون في خدمة الأنظمة لتحريف الإسلام ووأد الربيع العربي

في عام 2010 كتب سلمان بن عبد العزيز (الملك الحالي) مقالة بصحيفة «الحياة» دافع فيها عن الدعوة الوهابية التي تأسست عليها الدولة السعودية الثالثة، لكنّ الأخطر أنه اعتبر الوهابية تمثل وحدها دون غيرها «العودة إلى الأصول الصحيحة للعقيدة الإسلامية الصافية التي هي أساسها ومنطلقها»، وفي هجومٍ صريح على منتقدي الوهابية، اعتبر سلمان بن عبدالعزيز أنّ الذين يُطالبون بإصلاحها يخالفون «مضامين الدعوة التي نادى بها القرآن الكريم والسنة النبوية»، وهو ما يفتح الباب علانية لتكفير كل المعارضين. وعلى هذا الأساس وجد التيار الجامي (السلفية المدخلية) المعروف بولائه المطلق للسلطة والأسرة السعودية،  مزيدا من الأرض الخصبة للتمدد داخل المملكة برعاية أجهزتها المخابراتية والأمنية، ومن ثم الانتشار في ربوع الدول العربية، وتكفير كافة القوى والحركات الإسلامية التي يعتبرها  «ضالة ومبتدعة»، وفيما كانت ممالك الخليج الثريّة تهتز بقوةٍ خوفًا من سقوط «الخلافة الحاكمة» إثر ثورات الربيع العربي عام 2011، تكفّل التيار الجامي المدخلي بإطلاق الفتاوى التي  حرمت المظاهرات، وبررت اعتقال المتظاهرين السلميين واعتبرت الداعين إلى ثورات الربيع العربي ضد الأنظمة المستبدة “خوارج” العصر ودعت الحكام إلى قتلهم والقضاء عليهم.

ومرت السنوات، وتولى سلمان بن عبدالعزيز في يناير 2015م عرش المملكة؛ وإذا بالرجل الذي اعتبر المطالبين بإصلاح الوهابية مخالفين للإسلام ذاته، تجري في عهده ردة على  ما نادت به الوهابية، وبرعاية مباشرة من نجله وولي عهده محمد بن سلمان،  ولأول مرة في تاريخ بلاد الحرمين يتم الانقلاب على صبغتها الدينية رغم تحفظاتنا عليها ، وفتحت مئات المراقص ويدوي الغناء الفاحش في أرجاء المملكة بخلاف العري والباليه، واستبدل ولي العهد محمد بن سلمان بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هيئة الترفيه التي فتحت لها  خزائن المملكة تنثرها على الممثلين والممثلات والمغنيين والمغنيات من جميع أنحاء العالم بخلاف لاعبي المصارعة، وتبنى نظام العاهل السعودي خلع المرأة برقعها وراحت تكشف عورتها في ظل حملة إعلامية ضخمة مصحوبة بأكبر موجة قمع بحق العلماء والدعاة الربانيين من رجال الصحوة الإسلامية.

أمام هذا التناقض وتلك الرد على مبادئ الوهابية، كان موقف “الجامية المدخلية” مدهشا غاية الإدهاش؛ إذ راحوا يبررون هذا الشذوذ وتلك الانحرافات، وبنفس الحماسة التي دافعوا بها عن الوهابية، راحوا يبررون هذه الردة عن الوهابية ويعتبرون من يعارض هذه التوجهات الجديدة للسلطة التي تخالف صميم الإسلام من “خوارج العصر” داعين إلى الطاعة المطلقة للحكام حتى لو كانوا ظالمين فاسقين؛ فانكشفوا مبرهنين على أن ولاءهم المطلق للأنظمة لا للإسلام، وأنهم يدورون مع السلطة حيث دارت؛ فإذا نادت بالوهابية كانوا وهابيين، وإذا نادت بغيرها كانوا أول المؤمنين بما تدعو له السلطة وأول المدافعين عن مواقفها مهما بلغت من شذوذ و انحراف.

فتاوى شاذة

يقول عبدالعزيز الريس، أحد رموز المدخلية في بلاد الحرمين: «طاعة الحاكم واجبة، ولو شرب الخمر علنا  ولو خرج على التلفاز يزني لمدة نصف ساعة، لا يجب نصحه أو انتقاده علانية». هكذا أفتى “الريس”، في شهر أغسطس 2018م، والمثير للأسف أن هذه الفتوى الشاذة صدرت في ساحة المسجد النبوي الشريف الذي بات مرتعا للمداخلة تحت رعاية النظام السعودي. بعد هذه الفتوى بأيام، خرج أحد رموز المداخلة بالإمارات العربية المتحدة، “محمد بن غيت” يفتي بكلام مشابه في سياق تعليقه على حديث منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم «ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة». مدعيا أن «كلمة شيئا نكره، مثلا يزني يشرب الخمر، يسرق، يأكل الربا، قل ما شئت من الموبقات ما عدا الكفر، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة». وسُئل الشيخ ربيع المدخلي (زعيم المدخلية في العالم حاليا) عن حكم المظاهرات والقيام بالثورات وتربية الشباب عليها ضد الحكام الظلمة والمستبدين. فأجاب أنّها من منهج ماركس ولينين وأمثالهم، وليست من مناهج الإسلام.

وفي أعقاب الانقلاب الذي قاده الطاغية عبدالفتاح السيسي في مصر منتصف 2013م، أفتى زعيم الجامية المدخلية محمد سعيد رسلان بكفر الإخوان منذ نشأتهم حتى اليوم، كما وصف الملايين من أنصارها بأنهم  خوارج مفسدون، وينبغي التعاون مع الدولة للخلاص منهم، والعمل كمخبرين للأمن وإرشاد السلطة عنهم وعن أتباعهم الذين وصفهم بـ “الجهلة الفسقة ومن الخوارج القعدة”. أما المدخلي طلعت زهران، فقد أفتى علنا بوجوب تزوير الانتخابات لمبارك كي لا يأتي الإسلاميون ولا العلمانيون للحكم فضلا عن التبليغ عن المعارضين للحاكم. وقبل مسرحية الرئاسة في مصر في مارس 2018م.

وفي أعقاب إطاحة السيسي بكل منافسيه والزج بهم في السجون لأسباب سياسية، أصدر عشرات السياسيين المعارضين بيانا يدعون فيه إلى مقاطعة الانتخابات مطالبين بوقفها باعتبارها فقدت الحد الأدنى من شرعيتها. وعلى الفور تدخلت المؤسسة الدينية الرسمية وأصدرت بيانات عديدة ترفض دعوات المقاطعة وتضفي شرعية على مسرحية بائسة جعلت مصر أضحوكة العالم. لكن  فتوى زعيم الجامية المدخلية محمد سعيد رسلان، جمعت كل سمات الشذوذ والانحراف عن النصوص ومقاصد الشريعة؛ كما عكست المبالغة في نفاق الحاكم والتزلف إليه؛ حيث أفتى بتحريم الانتخابات الرئاسية؛ مطالبا بإلغائها، وأن يبقى الجنرال السيسي حاكما مدى الحياة؛  مدعيا أن «الشرع يقول: إن ولي الأمر لا ينازع في مقامه ولا في منصبه ولا ينافس عليه، وأنه إذا لم يحدث ما ينتقص من أهلية الحاكم فـ «الشرع يقول إن ولي الأمر المسلم لا ينافس على منصبه الذي بوأه الله تعالى إياه». لكن رسلان لم يوضح النصوص التي تدعم رأيه الشاذ ومدى صحتها وتأويلها وصولا إلى صحة تنزيلها على حالة السيسي الذي اغتصب الحكم بانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب، ثم فرط في سيادة مصر على أرضها، وحصتها في مياه النيل  وثرواتها في البحر المتوسط وأبدى أعلى صور الموالاة للصهاينة وأعداء الأمة والإسلام.

وآخر المواقف، ما قامت به مليشيات الجامية المدخلية بليبيا  في ديسمبر 2019م  حيث ساهموا في تسليم مدينة سرت لمجرم الحرب خليفة حفتر بعد أن خانوا عهدهم مع  حكومة الوفاق المعترف بها دوليا وغدروا بها وبدلا من الدفاع عن المدينة ضد عدوان حفتر انحازوا له مبايعين رغم جهره بالعلمانية وارتكابه فظائع يندى لها جبين الإنسانية.

فمَنْ هؤلاء؟ ومَنْ يقف وراءهم بالتمويل والدعم؟ ولمصلحة من ينشرون معتقداتهم من المحيط إلى الخليج؟ ومن السعودية إلى اليمن، ومنها إلى مصر ثم ليبيا وصولاً إلى الجزائر، وما طبيعة أصولهم الفكرية والدينية؟ وما طبيعة علاقاتهم بباقي التيارات الإسلامية والسلفية؟ وما مخاطر تنامي هذا التيار على المجتمعات الإسلامية؟ وما الدور المشبوه الذي يراد له القيام به ضد تطلعات شعوب المنطقة نحو التحرر من الاستبداد والطغيان والعمل كذراع للأنظمة في مواجهة الربيع العربي الذي يهدف إلى إقامة نظم حكم رشيدة تقوم على الحرية والعدل وحق الشعوب في اختيار حكامها وعزلهم وفق آليات دستورية قانونية رشيدة؟

“في فراش المخابرات”

لا يمكن فهم أبعاد هذه الفتاوى المنحرفة والمواقف الشاذة للتيار الجامي المدخلي إلا بمعرفة النشأة التي قامت عليها “السلفية الجامية أو المدخلية” في دهاليز وغرف المخابرات السعودية إبان فترة حرب الخليج الأولى سنة 1991م، عندما وقع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين  في فخ الأمريكان واجتاح دولة الكويت الشقيقة، واختلف علماء المملكة والمسلمين على رأيين فيما يتعلق باستعانة الأنظمة العربية بالأمريكان ضد العراق: الفريق الأول، هم المؤسسة الدينية الرسمية التابعة للنظم والحكومات، مثل هيئة كبار العلماء بالسعودية وعلى رأسهم الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ العثيمين. والأزهر بمصر ، وهؤلاء أباحوا الاستعانة بــ”غير المسلمين” في إشارة إلى الغرب والأمريكان على المسلمين؛ لعدم قدرة المسلمين على مواجهة صدام حسين بمفردهم. والفريق الثاني، هم تيار الصحوة وعلى رأسهم العلماء الأجلاء سلمان بن فهد العودة وناصر العمر وسفر الحوالي وغيرهم، والعلماء المحسوبون على تيار الإخوان المسلمين بمصر والعالم العربي والإسلامي وعلى رأسهم العلامة يوسف القرضاوي؛ وهؤلاء أفتوا بتحريم الاستعانة بالغرب والأمريكان، وإن رفضوا في ذات الوقت ما فعله صدام حسين، محذرين من أن دخول القوات الأمريكية والغربية إلى المنطقة مفاسده أكبر، ولن يتمكن العرب من إخراجهم مرة أخرى؛ لاختلال موازين القوى لحساب غير المسلمين بخلاف أطماع الغرب في نفط العرب وثرواتهم، وأن الأولى هو حل الصراع سياسيا  عبر المصالحة بين الطرفين، وإذا لزم الأمر يتم تأسيس جيش عربي إسلامي  يتولى هو مواجهة الطرف الباغي “العراق” وفقا لنصوص القرآن {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ}( ). وبقيت المعركة الفقهية بين الطرفين في إطارها الشرعي دون تجاوز أو تجريح وفي ظل الاحترام المتبادل باعتبارها اجتهادات في إطار فهم وتأويل النصوص وفقه الموازنات بين المصالح والمفاسد.

بين الموقفين ، تبنى كل من الشيخ محمد إمام الجامي (1931-1996) الإثيوبي الأصل، وربيع بن هادي المدخلي، الذي وُلد بالسعودية عام 1932، موقفا ثالثا شديد التطرف  والانحياز لموقف الأنظمة العربية، واستمات في الدفاع عنها وتبرير سياستها، ولم يبح فقط الاستعانة بغير المسلمين في حرب البغاة المسلمين، بل شن حملة تشويه ضارية بحق  العلماء والفقهاء القائلين بتحريم الاستعانة بغير المسلمين في قتال المسلمين لمجرد أنهم عبروا عن  موقف يخالف موقف الحكام، وعرضوا رؤية مغايرة لما تراه الأنظمة. وتبنى هذان الشيخان حملة التجريح والبذاءة بحق دعاة وعلماء الصحوة وألف المدخلي في ذلك كتاب «”صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة بغير المسلمين»، الذي أفتى فيه بتكفير صدام حسين وجواز الاستعانة بالكفار في حربه وهاجم مواقف علماء ودعاة  الصحوة الذين يرفضون “الاستعانة بغير المسلم لقتال المسلم”. وإلى الشيخين ينسب هذا التيار الجديد الذي يمثل صورة جلية من صورة الابتداع في الدين والنفاق إلى الحكام على حساب الدين بتشويه مخالفيهم والفجور في خصومتهم  تجاه علماء ودعاة الإسلام.

وهناك حلقة غامضة حيال نشأة التيار المدخلي، تتعلق بشرارة الانطلاق والظهور، وهل جاءت انطلاقا من قناعات شخصية لدى المؤسسين له أم كانت هناك توجيهات من جانب أجهزة الأمن والمخابرات السعودية لهما بتبني هذه المواقف الحادة في تطرفها للنظام السعودي، والتي فاقت موقف المؤسسة الدينية الرسمية الممثلة في هيئة كبار العلماء.

وبعيدا عن هذه النقطة، فإن نشأة التيار الجامي المدخلي ما جاءت إلا في أحضان الأجهزة الأمنية التي تبنتها بذرة ورعتها وسقتها وأغدق حكام السعودية على الجامي والمدخلي ومن شايعهما بالمنح والمزايا والعطايا، وفتحت لهم أبواب الجامعات والمدارس والمساجد والأموال الطائلة ودفعت بهم إلى صدارة المشهد الديني حتى باتوا لسان السلطة ومبرري سياستها وجرائمها بإضفاء مشروعية دينية مزيفة على مواقفها عبر تأويلات متعسفة للنصوص ولي أعناقها كي تجعل منها ستارا لحماية الظلم والطغيان الذي تمارسه الأنظمة رغم أن الإسلام هو الدين الأعظم الذي شن حربا شعواء على الظلم والطغيان وجعل أعلى مراتب الشهادة كلمة حق عند سلطان جائر.

وراحت المخابرات السعودية  تُصدٍّر هذه البدعة وغرزت بذرتها الخبيثة في معظم البلاد العربية والإسلامية، والتي تلقفتها أجهزة المخابرات والأمن بالرعاية والاهتمام وفتحت لهم كل الأبواب وجعلت منهم سندا لها ومحاميا دينيا يأتي بالقراءات والتفسيرات المتعسفة والشاذة من أجل دعم مواقف النظم وتبرير مواقفها المنحرفة وصبغها بمشروعية دينية كاذبة.

من الفتاوى إلى حمل السلاح

وعندما اندلعت شرارة الربيع العربي في 2011م،  شكل تحديا  لشرعية الدكتاتوريات العربية وبنيتها ، ما دفع الأنظمة إلى إجراء تحويلات نوعية في أدوار السلفية المدخلية، فإلى جانب أدوارها التقليدية الإيديولوجية استدخلت في إطار الأجهزة القمعية، وشرعت في تأسيس هياكل عسكرية ومليشيات مسلحة. إذ لم تكتفِ بإصدار فتاوى مناهضة للحركات والمظاهرات والاحتجاجات الثورية العربية، فقد أفتى الشيخ ربيع المدخلي وأتباعه بحرمة الثورات والاحتجاجات والمظاهرات، لكنه سرعان ما دعا للانخراط في الأعمال القتالية وتشكيل مليشيات مسلحة ضد حركات الإسلام السياسي والجهادي بوصفهم من الـ”خوارج” و”البغاة” المتمردين على سلطة “ولي الأمر”، وناشري الـ”الفتن”.

فكان التحول الأعظم للجامية المدخلية ما جرى في ليبيا واليمن؛ حيث تحول هؤلاء من تبرير جرائم النظم بالفتاوي الشاذة والمنحرفة إلى تشكيلات ومليشيات مسلحة  إلى جانب النظم مهمتها محاربة توجهات الشعوب نحو الثورة وإقامة الحق والعدل في الأرض ، وشن الحرب الوحشية ضد القوى الإسلامية التي تتبنى الربيع العربي وحق الشعوب في الثورة ضد الظلم والاستبداد والفساد؛ فتشكيلات المداخلة المسلحة تدعم مجرم الحرب حفتر في ليبيا على حكومة الوفاق الشرعية المعترف بها دوليا. اتساقا مع مواقف النظم السعودية والمصرية والإماراتية التي أنشأت هذا التيار لهذا الغرض. كما جندتهم الإمارات في حربها باليمن من أجل السيطرة عليه حتى إنها تستخدمهم ضد حكومة الهادي المدعومة من السعودية وقوى الشرعية هناك، وتشن بهم حربا بلا هوادة على الإسلاميين المعتدلين مثل الإخوان المسلمين وغيرهم عبر الاغتيالات والخطف والاعتقالات التي طالت الآلاف.

«تأويلات شاذة وأدوار مشبوهة»

يرى مؤلف كتاب “زمن الصحوة” ستيفان لاكروا، أن الجامية المدخلية  تقوم على مبدأين لا يمكن تخطيهما:

الأول: الولاء الحاد والمطلق لولي الأمر والعائلة الحاكمة وتمجيد السلطة والدفاع عنها دفاعًا مستميتًا وتبني مواقفها وإضفاء مشروعية دينية عليها. ويلخص رمز المدخلية  محمد بن هادي المدخلي بأبيات شعرية مدى الولاء لسلطات النظام السعودي وتأثيم مخالفهم ومعارضهم، ويقول فيها: “نحبكم آل سعود ديانة لما لكم من سابق محمود، لنصركم الشيخ الإمام محمدًا ودعوته حتى على التوحيد، فأصبحتم الأنصار حقًا وحبكم دليلاً على من عنده توحيد”. ووصلت فكرة تقديس ولي الأمر بالنسبة للحركة الجامية إلى حد اعتبار بول بريمر الحاكم العسكري الأمريكي الذي عينه الرئيس الأمريكي جورج بوش رئيسًا للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق في 6 مايو 2003، ولي أمر لا يجوز الخروج عليه “ولو جلد ظهرك وسلب مالك” وعلى العراقيين السمع والطاعة.

والثاني:  طاعة ولي الأمر المطلقة وإضفاء الشرعية الدينية الكاملة عليه وعلى سياساته. وبحسب “لاكروا”، فإن هذين المبدأين يتغيران بحسب التحالفات السعودية، فكما شرعن مؤسسا الجامية  الاستعانة بالقوات الأمريكية،  لمواجهة العراق وضربه بعد ذلك،  تولى تابعوهم لاحقًا تبرير كل ما سيصدر عن السلطة من أقوال وأفعال دون إعطاء فرصة لأي تعبير عن الرأي المخالف لهوى السلطان، لأن ذلك في عرف المدخلي “نوع من الخروج المثير للفتن”.

بالطبع يتجاهل هؤلاء أن ولي الأمر إذا جاهر بالكبيرة من الكبائر  كالزنا وشرب الخمر، وجب إقامة الحد عليه؛ فكيف يستقيم بقاؤه في الحكم مع وجوب إقامة الحد عليه؟ الأمر الآخر، أن مجاهرة الحاكم بهذه الكبائر تسقط عنه شروط الولاية؛ فيكون من حق الرعية عندئذ  تقويمه أو عزله؛ وفقا للآليات الدستورية والقانونية التي لا تخلو منها الدساتير القويمة ونظم الحكم الرشيدة.

أما عن أدوارهم المشبوهة:

أولا: رأت الأنظمة في الجامية المدخلية معادلاً موضوعيًا للتيار الإسلامي المتنامي الذي يرفض اجتناب الخوض في السياسة، فقدمت العائلة الحاكمة دعمها لهذا التيار، وأصبحت الموارد المادية والمالية وافرة تحت تصرفه، ثم أخد يتوسع ويجذب مَنْ يعتبرون أنفسهم من المهمشين اجتماعيًا أو جعرافيًا.

ثانيا: يتباهى  المداخلة بدور التجسس والتخابر لحساب الأجهزة  الأمنية ورفعهم تقارير أمنية في رموز الحركة الإسلامية وعلماء ودعاة تيار الصحوة، ولعل أشهرها التقرير المعنون: “التنظيم السري العالمي بين التخطيط والتطبيق في المملكة العربية السعودية” الذي رفعه المداخلة منتصف التسعينيات من القرن الماضي إلى السلطات السعودية، وفصّلوا فيه ما يقولون إنه “ممارسات للإخوان المسلمين مرتبطة بخطة عالمية لتغيير النظام الحاكم”. هذا التقرير أوصى بضرورة تحرّك السلطات السعودية بأسرع وقت ممكن، لوضع حد لأنشطة المنظمة المذكورة، وبالفعل شنت السلطات حملات على الدعاة والعلماء المحسوبين على تيار الصحوة الإسلامية في المملكة، ثم زجت بكثير منهم في السجون، وحظرت أنشطة كثير منهم.

ثالثا: كان هذا التقرير الأمني تدشينا  لمرحلة الطعن في كل من يخالفهم من الدعاة والعلماء بدعوى ممارسة “الجرح والتعديل” في علوم الحديث والذي وضعه علماء السلف الصالح لوضع ضوابط قبول الحديث من الرواة، لكنهم يوظفون هذا العلم للطعن في مخالفيهم رغم أن تدوين الحديث النبوي انتهى منه العلماء منذ قرون عديدة!  لكن الغريب حقا أنهم يحصرون حربهم على الحركات الإسلامية دون الحركات العلمانية، بل إن  بعض شيوخهم يتغزلون في الليبرالية في ظل توجهات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الجديدة، يقول موسى العبد العزيز وهو من أبرز رموز الجاميّة المدخليّة ورئيس تحرير مجلّة السّلفيّة: “اللّيبراليون ليسوا علمانيّين؛ وهم أقرب إلى السلفيّة فطرةً من الإخوان والسّروريين ويستمرّ الغزل بين الجاميّة واللّيبراليّة بعد ذلك ليصل إلى المقارنة بين قنوات العريّ والقنوات الإسلاميّة المحسوبة على السّروريين؛ حيث يقول الشّيخ موسى العبد العزيز في مقابلة مع تركي الدّخيل على قناة العربيّة: “قناة المجد أخطر من قناة ستار أكاديمي”.

رابعا: يتسع مفهوم ولي الأمر عند الجامية المدخلية، ليشمل الحاكم مهما كانت رتبته سواء ملكًا أو وليًّا للعهد أو أميرًا أو وزيرًا أو مسئولا حكوميًّا له هالةٌ من القداسة يُمنع على كلّ أحد أن يقترب منها أو ينكر عليها أو ينتقد أيّ سلوكٍ بشكل واضح من أفعالها أو تصرّفاتها. بل يشمل أيضا  وجوب طاعة ولي الأمر الكافر، كما أفتى بذلك الشيخ عبدالمحسن العبيكان على  قناة mbc  في فتوى شهيرة تنصّ على أنَّ الحاكم الأمريكيّ في العراق بول بريمر هو وليّ أمر شرعيّ، واستدلّ على ذلك بأنَّ يوسف عليه الصّلاة والسّلام أقرّ بولاية العزيز على مصر وكان عزيز مصر حينها كافرًا! بل إن الشيخ المدخلي بندر العتيبي ـ وهو من تلاميذ العبيكان ـ في رسالة أسماها “رسالة الحكم بغير ما أنزل الله مناقشة تأصيلية علمية هادئة” حيث يقول: ” فما قرره أهل العلم مِن الكفر الأكبر، ووقع فيه الحاكم؛ فإنه لا يلزم منه جواز الخروج عليه ولو أقيمت عليه الحجّة، بل لا بد من النظر في الشروط الأخرى المبيحة للخروج”. وهذا يقطع الطريق على كلّ من يفكّر بالاقتراب من أيّ نظام حاكمٍ سواء كان كافرًا أو فاسدًا أو ظالمًا أو غير ذلك فلا يجوز بحال الخروج عليه أو حتّى انتقاده بذريعة عدم إثارة الفتن! وهو  ما يفتح الباب واسعا لتسويغ ليس فقط الأنظمة الظالمة المستبدة بل القبول بأي احتلال ولو كان كافرا وهو ما يسهم  في دعم الكيان الصهيوني بشكل سافر وتأويل منحرف وشاذ لمفهوم ومقاصد الشريعة الإسلامية.

خامسا:  لم تقتصر حملة السلفية المدخلية على مناهضة جماعة الإخوان المسلمين، والتيار الجهادي، بل طالت حركات المقاومة الفلسطينية، لا سيما حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي نعتها رسلان بـ”خوارج العصر”، استناداً إلى فتوى ربيع المدخلي بأن “الإخوان المسلمين لم يتركوا أصلاً من أصول الإسلام إلا نقضوه”.

سادسا: رغم كل هذه الانحرافات فإن الجامية المدخلية مصابون بأعلى درجات الكبر والغرور، ويرون أنفسهم هم المسلمون دون غيرهم، وأنهم يملكون ناصية الحق المطلق، يقول عبيد الجابري من مشايخ الجامية المدخلية «الحق الذي لا تشوبه شائبة الباطل، الحق الخالص، الحق الصافي من الكدر “عندنا عندنا عندنا”.. وإن رغمت أنوفكم، وشمخت رؤوسكم حتى تلحقوا المريخ!  سَمِعتم؟!».

خلاصة القول

 أن السلفية الجامية المدخلية  هي أداة النظم العربية المستبدة لتكريس الحكم الشمولي وشرعنة الطغيان وتحريم الثورات ضد الحكام الظالمين وحتى الكافرين.  تقوم الجامية المدخلية على الولاء المطلق للأنظمة حتى لو على حساب الإسلام ذاته،  وتدور مواقفهم مع مواقف الأنظمة حيث دارت. ويستميتون في الدفاع عن مواقف الأنظمة وإصدار التأويلات المتعسفة والفتاوى الشاذة التي تدعو إلى الخنوع الكامل للحكام حتى لو كانوا مجاهرين بالظلم والفجور والفساد.

من وظائف الجامية المدخلية أنها تمثل ذراع الأنظمة لمواجهة  موجات الربيع العربي وتحريم الثورات وجرى التحول الأكبر  من الانتقال من دائرة الفتاوى إلى دائرة التحول إلى مليشيات مسلحة لخدمة الأنظمة القمعية ضد الشعوب المقهورة التي تطالب بالحرية والعدل وإقامة شرع الله في  الأرض.

بدعوى وأد الفتنة ودعم الاستقرار تمارس الجامية المدخلية أبشع صور الفتنة من الكذب والغدر والخيانة والغيبة والنميمة وصولا إلى دعم الظالمين وسفك الدماء وقتل الأبرياء واغتيال الدعاة والعلماء.

التيار المدخلي لا يقوم على أسس وتفسيرات رصينة لنصوص الإسلام، ولكنه تيار تأسس في غرف المخابرات وبقاؤه مرهون ببقاء هذه الأنظمة وزوالها مرهون بزواله ولهذا يدافع أنصاره باستماتة شديدة عن النظم رغم بشاعة ما تقوم به من ظلم وفجور وفساد في الأرض.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

السيسي يُطعم المصريين الخبز المصاب بـ”الإرجوت” السام لإرضاء الروس!

رصد تقرير استقصائي لموقع “أريج” كيف يُطعم السيسي المصريين الخبز المصاب بفطر قمح “الإرجوت” لإرضاء ...