بقلم: حازم عبد الرحمن
شهدت العاصمة الماليزية كوالالمبور في الفترة من 18 إلى 21 ديسمبر 2019 انعقاد قمة إسلامية مصغرة لمناقشة عدد من المشكلات في الدول الإسلامية مثل التخلف والفقر وتدهور برامج التنمية, وظاهرة الإسلاموفوبيا واتهام الإسلام بالإرهاب, وجرائم الإبادة والتطهير العرقي , والحروب داخل البلاد الإسلامية.
وقد شارك في القمة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان, والرئيس الإيراني حسن روحاني, وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني, ورئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد، وغابت السعودية عن القمة, وبعثت برسالة اعتذار عن عدم الحضور، تقول إن سبب قرارها بالغياب هو أن القمة ليست الساحة المناسبة لطرح القضايا التي تهم مسلمي العالم، البالغ عددهم 1.75 مليار نسمة، والحقيقة أن المملكة انزعجت بعد أن تلقت دعوة للحضور؛ لكونها تترأس منظمة التعاون الإسلامي حاليا, وبها مقرها الرئيسي؛ فاستشعرت أن القمة تمثل محاولة، لإيجاد قيادة جديدة للعالم الإسلامي، وكذلك خشيتها التعرض للعزلة الدبلوماسية، في ظل حضور كل من إيران وقطر وتركيا.
وفي ختام القمة قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في تصريحات له إن باكستان تعرضت لضغوط سعودية لإثنائها عن المشاركة، مشيرا إلى أن السعوديين هددوا بسحب الودائع السعودية، من البنك المركزي الباكستاني، كما هددوا بترحيل أربعة ملايين باكستاني يعملون في السعودية، واستبدال العمالة البنغالية بهم، وكان رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي كان من الداعين أساسا لعقد القمة، قد اتخذ قرارا في اللحظة الأخيرة بعدم الحضور.
وشن الإعلام السعودي والإماراتي هجوما حادا على قمة كوالالمبور ووصفها بالتغريد خارج السرب، والإضرار بالتعاون والعمل الإسلامي المشترك، وقد ردت كل من تركيا وماليزيا على ذلك بالتأكيد على أن المخاوف من أن تكون قمة كوالالمبور المصغرة، بديلا لمنظمة التعاون الإسلامي ليس لها ما يبررها, وأنه يجب ألا تخاف أي دولة من أي تعاون بدأ صغيراً، لأنه من الممكن أن يتوسع مع الوقت ويضم كل العالم الإسلامي داخله.
مكانة السعودية
احتلت السعودية منذ إنشائها سنة 1932 مكانة متميزة لدى العالم الإسلامي, فيوجد بها المسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، واللذان يعدان أهم الأماكن المقدسة عند المسلمين, ويصف العاهل السعودي نفسه بأنه خادم الحرمين الشريفين, وتمتلك الدولة ثاني أكبر احتياطي للبترول في العالم, وسادس احتياطي للغاز، وتعتبر أكبر مصدر نفط خام في العالم والذي يشكل قرابة 90% من الصادرات، وتحتل المرتبة التاسعة عشر من بين أكبر اقتصادات العالم ولذلك فهي من القوى المؤثرة سياسيًا واقتصاديًا في العالم.
لكن الصورة الحالية للسعودية باتت مختلفة؛ فقد أصبحت المملكة ذيلا لإمارة أبو ظبي في رعاية الثورة المضادة ونموذجا في ممارسة القمع, والاستبداد, والفساد, وانهيار القانون, وغياب العدالة, والتحالف مع العدو.. كل ذلك أمام وعي جماهيري كبير بالأحداث وخلفياتها, بسبب انهيار جدار القمع الإعلامي المتمثل في سقوط احتكار السلطة لوسائل الإعلام, وظهور الإعلام الاجتماعي البديل, الذي تصنعه الشعوب وليس السلطة,. وقد بلغ القمع في السعودية حدا غير مسبوق باعتقال أعداد كبيرة من العلماء والدعاة ورجال الأعمال وتعذيبهم, ومطاردة من نجح في الهروب إلى الخارج, حتى يتم الإيقاع به وقتله وتقطيع أشلائه, كما حدث في جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في مدينة إسطنبول بتركيا, ولا يوجد في الدولة برلمان حقيقي له سلطة الرقابة والتشريع, ونظام الحكم مطلق تماما, يقوم بتسخير مقدرات الشعب لخدمة النظام؛ فلا أحد يعرف شيئا عن ثروة الدولة التي ينهبها أفراد السلطة الحاكمة, ولا يستطيع مواطن أن يسأل عن الثروات المليارية التي تنقلها العائلة الحاكمة إلى الخارج وتودع في بنوك أجنبية, في حين أن الفقر يغزو مناطق كثيرة بمملكة البترول الغنية.
ولا يجرؤ أحد على مساءلة الحكومة التي يرأسها الملك نفسه عن خطأ ارتكبته, أو ظلم أوقعته على أحد من الرعية, ولا توجد خطط مستقبلية لمشاركة الشعب في مسئوليات الحكم, وأصبح من يدير الحكم المطلق في البلاد هو ولي العهد محمد بن سلمان, بمعاونة مجموعة من أقرانه يرتبطون في الأساس بمحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي وقاموا بتوريطه في جرائم وفضائح جعلت مكانة المملكة تنزلق إلى هوة سحيقة غير مسبوقة؛ بسبب غرور الأمير الشاب الذي أسكرته السلطة فرأى نفسه ملكا قبل الأوان, دون أن تتوفر له مؤهلات الملك, من حكمة وخبرة ودربة ورجال مخضرمين صادقين معه, فانقاد لمؤامرات أستاذه محمد بن زايد, وراح يخطط لغزو قطر عسكريا للاستيلاء على غازها, وأشعل حربا في اليمن فشلت في تحقيق أهدافها, واعتقل العلماء والدعاة والمثقفين ورجال الأعمال, بل اعتقل رئيس وزراء لبنان سعد الحريري وكذلك وزراء من الحكومة الشرعية باليمن, وهي ممارسات غير مسبوقة في تاريخ المملكة أساءت إليها, ونالت من مكانتها, وقد فشل الأمير في الدفاع عن بلاده أمام عصابة مسلحة, وراح يستنجد مع والده الملك سلمان بمؤتمرات قمة خليجية وأخرى عربية من هجوم جماعة الحوثي اليمنية بالطائرات المسيرة على المملكة التي تشتري صفقات السلاح الأمريكية بمئات المليارات من الدولارات.
مقاطعة القمة
وقد كانت المقاطعة السعودية لقمة كوالالمبور تعبيرا عن شعور بخسارة جانب من المكانة التي ترسخت عبر عقود, ودفاعا عنها في عصر جديد جاء حكامه عبر انتخابات حرة, ويدعون إلى استعادة أمجاد الحضارة الإسلامية, والتباحث للوصول إلى حلول قابلة للتنفيذ لمشاكل العالم الإسلامي, والمساهمة في تحسين العلاقات بين المسلمين وبين الدول الإسلامية فيما بينها, وتشكيل شبكة تواصل فعالة بين القادة والعلماء والمفكرين في العالم الإسلامي؛ فكيف ترضى السعودية أن يستحوذ أحد غيرها على هذه القيمة الكبيرة, التي تعني تصدر مكانتها على الساحة الإسلامية, وقد زاد الإحساس بتضخم الذات السعودية بعد تراجع الدور المصري إثر الانقلاب العسكري على الحكم الشرعي في 3 يوليو 2013 وتسليم عبد الفتاح السيسي دور مصر القيادي إلى السعودية التي كانت الراعي الأول للانقلاب, لكن صعود تركيا في عهد إردوغان كدولة إسلامية قوية مؤثرة في الساحة الدولية لم يدع للسعودية فرصة الاستئثار بالزعم أنها تتصدر قيادة العالم الإسلامي؛ فقد كانت مواقف تركيا الأقوى بين الدول كافة في الدفاع عن الأقصى والقضية الفلسطينية, وبثت الروح في منظمة التعاون الإسلامي عندما تولت رئاستها, وأحرجت كثيرا ممن يزعمون الدفاع عن الحق الفلسطيني, وعلى رأسهم السعودية ومصر.. من هنا كانت نظرة الرياض إلى قمة كوالالمبور كخصم من رصيد السعودية ومكانتها, وطلبت وضعها تحت رعاية منظمة التعاون الإسلامي؛ حتى يتسنى لها تصدر المشهد, زاعمة أن طلبها يهدف إلى توحيد دول المنظمة, وهو غير صحيح؛ فالقمم العربية المصغرة التي انعقدت عشرات المرات بين زعماء مصر والسعودية وسوريا والعراق وغيرها من الدول العربية وفي أوقات وظروف متنوعة استدعت عقد مثل تلك القمم- لم تتسبب في تهميش دور جامعة الدول العربية، ولم ينظر إليها أحد على أنها تهدف إلى تشكيل تكتل عربي جديد بديلاً عن الجامعة, بل إنه سبق أن شكلت دول الخليج الست منظمة للتعاون بعيدا عن جامعة الدول العربية, من دون أن يعني ذلك تمزيق الصف العربي, بل تكرر هذا النموذج في مجلس التعاون العربي (الذي لم يعش طويلا), وكان يضم مصر والعراق والأردن واليمن, وكانت له نفس أهداف مجلس التعاون الخليجي , وبالمثل أنشئ اتحاد المغرب العربي, من خمس دول تمثل في الجزء الغربي من العالم العربي وهي : المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا وموريتانيا. وذلك من خلال التوقيع على ما سمي بمعاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي؛ لذلك فإنه لا يمكن اعتبار أي تجمع دولي خصما من رصيد أحد إلا في حالة العداء, وهي غير متوفرة بالطبع في قمة كوالالمبور, التي تمت بهدف الدفاع عن الأمة الإسلامية, والتأثير في الساحة الدولية, ولا يمكن إنكار أن منظمة التعاون الإسلامي أصبحت جسدا بلا روح, كالجامعة العربية من حيث الجمود وعدم التأثير؛ فلم يظهر لها موقف قوي من الكارثة التي عصفت بمسلمي بورما ( الروهينجا ), وكذلك قضية كشمير التي أعلنت الهند قبل شهرين ضمها تماما إليها بعد أن كانت تعيش ضمن حكم ذاتي واضح, وأصبحت بلا دور إزاء الجرائم التي ترتكب يوميا ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة, ولا يبدو لها أثر في مواجهة جرائم الصهاينة بتهويد القدس وتهديد المسجد الاقصى.
سحب البساط
الحقيقة أن سحب البساط من تحت أقدام السعودية لم يبدأ في قمة كوالالمبور, وإنما بدأ يوم تخلت المملكة عن دورها الذي صنعته عبر سنين طويلة, وبدلا من أن يكون دورها في خدمة قضايا المسلمين, راحت تنافس على زعامة العالم الإسلامي؛ فاصطدمت بدول قوية فرضت نفسها وتأثيرها في الساحة الدولية, باستقلال إرادتها واحترام شعوبها وأمتها, وعدم خضوعها للابتزاز الذي ظل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يمارسه كفاصل إهانة يوجهه إلى حكام الرياض أثناء خطاباته أو لقاءاته معهم, ولم تفهم الرياض أن المكانة الدولية لا تكون بالادعاء أو الميراث, وإنما بالدور؛ فكان أن ورطها ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في أن تتزعم وتتصدر بلا قدرات؛ فسقطت في مستنقع اليمن, وخسرت رصيدها في العالم الإسلامي بدعمها الثورات المضادة, وإسهامها في سحق إرادة الشعوب المسلمة الطامحة إلى ربيع الحرية؛ لذلك فلا قمة كوالالمبور ولا غيرها له علاقة بسحب البساط من السعودية, وإنما هو فشل أهل الحكم فيها الذين باتوا يتلقون التعليمات من إمارة أبو ظبي.