القمة الروسية الإفريقية…محاولة لاستعادة النفوذ السوفيتي تصطدم بالمصالح الغربية

تحت شعار “من أجل السلام والأمن والتنمية”، انعقدت القمة الروسية الافريقية بمنتجع سوتشي الروسي، يومي 23 ،24 أكتوبر الماضي، بدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعبد الفتاح السيسي بوصفه رئيس الاتحاد الافريقي في دورته الحالية، وبحضور نحو 54 رئيس دولة وحكومة أفريقية.

وأسفرت القمة عن توقيع عقود تجارية كبرى، واتفاقات لتحقيق شراكة استراتيجية بين الطرفين.

وعكس البيان الختامي للقمة التوصل إلى اتفاقات لتعزيز التعاون في المجالات المختلفة، وأعلن بوتين في مؤتمر صحافي ختامي، أن الأطراف اتفقت على تحويل القمة الروسية – الأفريقية إلى آلية ثابتة لتعزيز الشراكة، مع الاتفاق على عقد لقاءات مماثلة، مرة كل 3 سنوات، وبالتناوب في استضافتها بين روسيا وأحد بلدان القارة، مع وعود  روسية بإمكانية زيادة حجم التجارة بين روسيا وأفريقيا، الذي يبلغ حالياً نحو 20 مليار دولار، إلى 40 مليار دولار خلال الأعوام المقبلة.

كما أشار إلى أن الشركات الروسية مستعدة للتعاون مع الشركاء الأفارقة في مجالات، مثل تحديث البنية التحتية، وتطوير أنظمة الاتصالات، والتكنولوجيا الرقمية، مشدداً على أن الشركات الروسية توفر أحدث التقنيات والخبرات للشركاء في أفريقيا.

فيما أعلن أنطون كوبياكوف مستشار الرئيس الروسي أن حجم الصفقات المبرمة قد بلغ 13 مليار دولار، مشيراً إلى أنه شارك في فعاليات المنتدى أكثر من 104 دول وكيانات أجنبية، إلى جانب الدول الأفريقية.

وكان الكرملين أشار إلى توقيع أكثر من 30 عقداً ومذكرة تعاون مع بلدان القارة الأفريقية. وأبرز ما أعلن عنه هو إطلاق صندوق استثماري مشترك بقيمة 5 مليارات دولار، وعقد مهم لشركة السكك الحديدية الروسية مع مصر، تبلغ قيمته الإجمالية نحو مليار دولار، فضلاً عن عقود عسكرية كبرى مع عدد من بلدان القارة الأفريقية.

وكان الرئيس فلاديمير بوتين شدد في افتتاح أعمال المنتدى على أن روسيا «مصممة على تعزيز وجودها في القارة»،وهو ما يلخص أهداف القمة الأولى من نوعها.

وتفتح القمة الباب واسعا إمام تعميق النفوذ الروسي بافريقيا، على الطريقة الصينية التي تتوسع بشكل متسارع في العمق الإفريقي..

الإرث السوفييتي

وبحسب مراقبين سياسيين، تأتي القمة كمحاولة روسية للحاق بركب التنافس الاقتصادي على ثروات القارة السمراء وأسواقها، مستغلة الإرث السوفييتي، وصعود دورها العالمي..بعد سنوات التسعينيات “العجاف” التي شهدت انهيار الاتحاد السوفييتي وتخلي وريثته روسيا عن معظم حلفائه في حقبة صعود الإصلاحيين وما رافقها من انهيار اقتصادي وانكفاء عن العالم.


حيث أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقابلة مع وكالة “تاس” أن بلاده “ستعود إلى أفريقيا وترغب بالتعاون مع دول القارة بطريقة حضارية وفي إطار القانون”، مشدداً على أنه “لا نسعى لتوزيع ثروات القارة، ولكننا نريد التنافس على التعاون مع أفريقيا”، وأن “التنافس يجب أن يكون حضارياً” وأن يتم في الإطار القانوني. وفي تذكير بالخطاب السوفييتي، قال بوتين “تفضّل بعض الدول الغربية الضغط والابتزاز بدلاً من التعاون المثمر مع الدول ذات السيادة الأفريقية. لذلك يحاولون إعادة المستعمرات المفقودة “في غلاف جديد” من أجل الحصول على أرباح كبيرة”، مضيفاً “إنهم يسعون جاهدين لاستغلال القارة من دون اعتبار للأشخاص الذين يعيشون هناك والمخاطر البيئية وغيرها”. وأشار الرئيس الروسي إلى أنه ليس فقط أوروبا الغربية والولايات المتحدة والصين تهتم بمشاريع مشتركة مع الدول الأفريقية، مؤكداً أن أفريقيا “قارة الفرص، التي تجذب تركيا والهند ودول الخليج وإسرائيل وغيرها من البلدان المتقدمة”، لافتاً إلى اتفاقات عسكرية تربط روسيا مع 30 بلداً أفريقياً
.

وخلص إلى أن موسكو مستعدة للتعاون مع أفريقيا في محاربة الإرهاب والجريمة وتجارة المخدرات والهجرة، وأن “أجندة موسكو الأفريقية موجّهة نحو المستقبل ولا تقبل الألعاب الجيوسياسية“.

ويبدو أن موسكو قررت تكرار تجارب القوى العظمى الأخرى بعدما كانت مترددة، فالصين عقدت مؤتمرات قمة مع القادة الأفارقة منذ العام 2000. وفي عام 2018، وقّعت في منتدى التعاون الصيني الأفريقي نحو 150 اتفاقية تعاون، وانضمت 28 دولة أخرى في المنطقة إلى المشروع الصيني “الحزام والطريق“.

وفي العام الماضي، وفي تصريحات أثناء جولة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على عدد من البلدان الأفريقية جنوب الصحراء، اقترح لافروف على أديس أبابا تعاوناً بين الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوراسي، والتركيز حالياً على إنشاء مناطق اقتصادية خاصة لجذب الاستثمارات وزيادة حجم التبادل التجاري، بدلاً من تشكيل مجلس “روسيا أفريقيا”، كما هو الحال في الآليات المعتمدة مع الاتحاد الأفريقي من الصين والهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا.

السلاح والأمن

وفي مؤشر إلى أهم المنتجات التي يمكن أن تقدّمها موسكو للقارة السمراء، نظّمت شركة “روس ابرون إيكسبورت” المعنية بتجارة السلاح معرضاً ضخماً للمنتجات العسكرية الروسية روجّت فيه لأنظمة الدفاع الجوي المختلفة، وبعض أصناف الأسلحة ومحطات الرادار، وعرضت قرب مدخل المركز الإعلامي للقمة طائرة “ميغ 35” الحديثة. وفي تصريحات قبل القمة، قال المدير العام للشركة ألكسندر مخييف “نحن نتفهم جيداً احتياجات شركائنا وأصدقائنا ونقدّر تقديراً كبيراً رغبتهم في جعل أفريقيا منطقة آمنة. أنا متأكد من أن المنتجات الروسية الصنع التي تم اختبارها في ظروف قتال حقيقية تتوافق مائة في المائة مع هذه الأهداف”، لافتاً إلى أن الشركة جاهزة لتنفيذ “عدد من المشاريع المهمة” في القارة ولذلك تنظر إلى هذا العام على أنه “عام أفريقيا لنظام التعاون العسكري التقني الروسي“.

وتستأثر روسيا تاريخياً بحصة كبيرة  في سوق السلاح في أفريقيا، وتشير وثائق هيئة التعاون العسكري إلى أن 20 بلداً أفريقياً كانت تعتمد في تسليحها على الاتحاد السوفييتي، وأن حجم الصادرات بين عامي 1984 و1991 تجاوزت 17.2 مليار دولار. وحسب شركة “روس ابرون إيكسبورت”، حلّت روسيا في المرتبة الأولى لصادرات السلاح إلى بلدان جنوب الصحراء بين 2011 و2015 بحصة 30% من حاجة هذه البلدان.

وأفاد معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام بأن صادرات السلاح الروسي إلى أفريقيا ما بين 2000 و2015 بلغت 12 مليار دولار ما يشكّل نحو 11% من إجمالي صادرات الأسلحة الروسية. وتأمل روسيا في زيادة صادرات المروحيات والطائرات والصواريخ والدبابات بعد حقل التجارب السوري، علماً أن معظم التعاون العسكري حالياً يعتمد على ذخائر الأسلحة القديمة، وإعادة تحديثها، إضافة إلى الآليات والمركبات العسكرية. وذكرت إحصاءات رسمية روسية أن حجم الطلبيات الأفريقية على الأسلحة الروسية وصل إلى 20.4 مليار دولار في 2018.

وفي حواره الأخير مع “تاس”، ذكر بوتين أن نحو 2500 عسكري أفريقي يتدربون في الكليات العسكرية الروسية حالياً. ومنذ مطلع العام الماضي، تُقدّم روسيا أسلحة للجيش في جمهورية أفريقيا الوسطى بعد حصولها على تخويل من الأمم المتحدة للقيام بذلك، فيما توفر الحماية الأمنية للرئيس فوستين أرشانج تواديرا الذي يعتمد على مستشار أمني روسي، كما أرسلت في العام 2018 خمسة ضباط عسكريين و170 مدنياً بصفة “مدربين” للقوات المسلحة في أفريقيا الوسطى، على الرغم من أن هذه القوات تتلقى تدريباً من قبل الاتحاد الأوروبي.

كما ترسل روسيا أسلحة إلى الكاميرون لدعمها في حربها ضد جماعة “بوكو حرام” المتطرفة، ووقّعت عقود شراكات عسكرية مع جمهورية الكونغو الديمقراطية وأنغولا.

كعكة الاقتصاد الافريقي

ونتيجة زيادة مصالح شركات روسيا العابرة للقارات، تراهن موسكو على رفع حصتها في مشاريع البنية التحتية، ولكن عينها تبقى على التعاون في مجال النفط والغاز والطاقة النووية، والتنقيب عن المواد الخام واستغلالها، مثل مناجم الأحجار الثمينة والذهب، إضافة إلى الألمنيوم، إذ تنشط منذ سنوات عدة شركات روسية في هذه المجالات في غرب ووسط أفريقيا، إضافة إلى جنوب أفريقيا، وأخيراً في السودان ومصر.

وتحظى ثلاث شركات روسية عملاقة بنفوذ كبير في السوق الأفريقية، هي “روسنفت” النفطية و”روس آتوم”، و”وروس أبورون ايكسبورت” المختصة بتوريد الأسلحة. والآن، تحتل هذه الشركات المملوكة للدولة الروسية مواقع قوية في شمال أفريقيا، لكنها تسعى للتوسع في الدول الأفريقية الأخرى. واتفقت “روس آتوم” على بناء محطة للطاقة النووية في نيجيريا، والتعاون مع السودان والكونغو وإثيوبيا، وتموّل روسيا مشروع الضبعة النووي في مصر بقيمة 25 مليار دولار.

وعلى الرغم من نمو العلاقات الاقتصادية بين روسيا وأفريقيا باضطراد في السنوات الأخيرة، فإنها تبقى متواضعة مقارنة بعلاقات أفريقيا مع الصين والبلدان الغربية وحتى الهند أو تركيا.

وحسب الإحصاءات الروسية، بلغ حجم التبادل التجاري في عام 2017 مع أفريقيا 14.5 مليار دولار بزيادة 3.4 مليارات عن 2015، مقارنة بنحو 220 ملياراً، و100 مليار دولار هي حجم تجارة أفريقيا مع الصين والولايات المتحدة على التوالي.

ولا تعكس العلاقات الحالية الإمكانات والروابط التاريخية، فالاتحاد السوفييتي كان يرتبط باتفاقات صداقة وتعاون مع عشرات البلدان الأفريقية التي ساعدها في فترة الاستقلال في بناء مئات المؤسسات الاقتصادية الحيوية، وساهم في إعداد عشرات ألوف الكوادر العلمية. وتأمل روسيا في حدوث اختراقات جدية في علاقاتها مع بلدان جنوب الصحراء، لكن الواقع يكشف أن مصر والجزائر والمغرب تستأثر بأكثر من ثلثي تجارة روسيا مع القارة السمراء.

تحول استراتيجي

ومع تغليظ العقوبات الأمريكية والأوربية عام 2014 على روسيا على خلفية النزاع مع أوكرانيا، عملت موسكو على تعميق أنشطتها في أفريقيا، حيث ضاعفت موسكو تجارتها مع أفريقيا ثلاث مرات تقريبا، من 6 مليارات و600 مليون دولار في عام 2010 إلى 18 مليارا و900 مليون دولار في عام 2018.

وصرح بوتين خلال اليوم الأول من القمة أن العلاقات التجارية مع دول أفريقيا تجاوزت العام الحالي 20 مليار دولار، وأنه يأمل أن تتضاعف مجددا خلال السنوات الأربع  أو الخمس  القادمة.

وتستثمر موسكو حاليا مليارات الدولارات في مناجم الماس بجمهورية أفريقيا الوسطى، وخام البوكسيت في غينيا، ومناجم البلاتينيوم في زيمبابوي.

كما تسعى شركة الطاقة الذرية الحكومية الروسية مجموعة (روساتوم) للحصول على عقود في جميع أنحاء القارة بما في ذلك أوغندا وكينيا ونيجيريا وزامبيا.

وأيضا وكالة المسح الجيولوجي الروسية وقعت اتفاقات مع جنوب السودان ورواندا وغينيا الاستوائية للبحث عن الكربون على أراضيهم.

الديون بوابة روسية مجربة

وفي العقدين الأخيرين استخدمت روسيا ورقة ديون الدول الأفريقية المتراكمة منذ عهد الاتحاد السوفييتي في تعزيز علاقاتها مع هذه الدول، إذ قامت بشطب أكثر من 20 مليار دولار أميركي من الديون، وفق ما أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مايو 2008، خلال حفل استقبال أقيم في موسكو بمناسبة “يوم أفريقيا“.

كما شطبت روسيا ديوناً سيادية لدول عديدة خلال 2017 تصل قيمتها إلى 140.2 مليار دولار، منها ديون دول أفريقية، كالجزائر بقيمة 4.7 مليارات دولار، و9.6 مليارات دولار لإثيوبيا. وصرح مسؤولون روس بأن عملية شطب الديون هذه، تأتي في إطار اتفاق يمنح موسكو امتيازات في مشاريع اقتصادية مستقبلية في هذه البلدان، تطاول مجالات عدة مثل البناء والنفط والغاز، والتعدين وصفقات الأسلحة والاستثمارات وغيرها.

الصراع مع الغرب حول افريقيا

ومن الواضح أن روسيا تسعى لعلاقات مع أفريقيا وفق قواعد جديدة لا تنطلق من محددات أيديولوجية، بل على أساس المنفعة المشتركة، ومصالح شركاتها، حتى لا تضطر إلى شطب ديون على غرار شطب أكثر من 36 مليار دولار من ديون الاتحاد السوفييتي السابق على أفريقيا، وتنظر إلى القارة السمراء كسوق لأسلحتها، ومصدر لزيادة أرباح شركاتها العاملة في مجال الطاقة والخامات.

وفي العهد السوفييتي، حافظت موسكو على وجودها القوي في أفريقيا، كجزء من الحرب الأيديولوجية ضد الغرب، إذ دعمت حركات تحررية أفريقية وأرسلت عشرات آلاف المستشارين إلى الدول التي انتهى الحكم الاستعماري فيها. لكن انهيار الاتحاد السوفييتي والمشاكل الاقتصادية والنزاعات الداخلية التي شهدتها روسيا خلال التسعينيات، دفعت موسكو إلى التخلي عن مشاريعها الأفريقية، وإغلاق عشرات السفارات والقنصليات والمراكز الثقافية.

وتسبّب نقص التمويل وإغلاق العديد من السفارات والقنصليات الروسية في افريقيا، وتوقّف برامج المساعدات، بانخفاض مستوى العلاقات بشكل كبير، وقبل نحو عقد، بدأ الكرملين بإعادة بناء شبكاته القديمة والعودة بشكل تدريجي إلى أفريقيا.

فرص افريقية وازنة

وبحسب تقديرات استراتيجية،  يمكن للطرف الإفريقي أن ينظر إلى مسألة تحسين العلاقات مع روسيا، باعتباره أمراً جذاباً يمكن أن يساعدها في استغلال ورقة المنافسة مع أوروبا والصين، ويمكّنها من الحصول على قنوات استثمار وتنمية جديدة و”دعم بلد قوي في الساحة السياسية الدولية” وفق رأي الخبير السياسي يفغيني كوريندياسوف، الذي شغل منصب سفير الاتحاد السوفييتي وروسيا في عدة دول أفريقية.

كما يرى خبراء أن روسيا لا ترتبط بأذهان الأفارقة بالإرث البغيض الذي تركه الاستعمار الأوروبي في أفريقيا، وهو أمر قد يعد عامل جذب بالنسبة للدول الأفريقية التي تلقّى العديد من كبار مسؤوليها تعليمهم في الاتحاد السوفييتي. وأوضح الأكاديمي بوندارينكو أنه “في السابق، لم يكن أمام الدول التي لم يرغب الاتحاد الأوروبي في التعاون معها على غرار السودان وزيمبابوي خيارات سوى الالتفات إلى الصين” لكن “روسيا تقدّم نفسها الآن كبديل واضح”، وبالتالي، بإمكان هذا الوضع الجديد أن “يغيّر المنظومة الجيوسياسية في القارة بشكل ملموس“.

كما يرى مراقبون أن أسلوب تعامل روسيا مع قضايا حقوق الإنسان، ونظرتها للانتهاكات في الدول الأفريقية على أنها “شأن داخلي”، تُعدّ عامل جذب إضافي نحو موسكو، مقارنة بواشنطن التي تفرض بين الحين والآخر عقوبات على دول أفريقية وتتجنّب التعاون معها اقتصادياً، أو بيع أسلحة لها.

فيتو أمريكي غربي

وقد لقي الاهتمام الروسي بأفريقيا ترحيب العديد من قادة دول القارة، نظرا لتوظيفهم العلاقة مع روسيا في مواجهة الضغوط الأمريكية التي تمارسها واشنطن عليهم.

وقد تجلى التقارب الأفريقي الروسي في عام 2014، من خلال معارضة أو امتناع أكثر من نصف الدول الأفريقية عن تأييد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.

ويذهب معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية الأمريكي إلى أن روسيا تسعى إلى استغلال الانسحاب الأمريكي المتصور من أفريقيا، وتقديم نفسها كشريك آمن أكثر ثقة إلى البلدان التي يقلص فيها الجيش الأمريكي من وجوده فيها.

المعهد قدم عدة توصيات للإدارة الأمريكية لكبح النفوذ الروسي في أفريقيا، أبرزها تركيز جهود واشنطن في الدول التي تحاول روسيا توسيع نفوذها فيها لاستباق الجهود الروسية، مثل الدول ذات النفوذ الجغرافي السياسي كنيجيريا وإثيوبيا، والدول التي تعاني من نزاعات سياسية مثل مدغشقر، والدول التي تواجه تهديدات أمنية مثل موزمبيق ودول الساحل.

كذلك دعا المعهد، إلى التقليل من أهمية الدور الروسي في أفريقيا مثلما فعلت فرنسا في ديسمبر الماضي عندما استصدرت قرارًا من مجلس الأمن الدولي بتمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى دون الإشارة إلى الوجود الروسي في بانجي. وهو ما دفع روسيا والصين للامتناع عن التصويت على القرار.

بجانب تفعيل العقوبات الأمريكية والدولية لردع الحكومات الأفريقية عن العمل مع أفراد روس خاضعين للعقوبات أو مع قطاع الدفاع والاستخبارات في روسيا.

ومن ضمن توصيات المعهد تحدي جهود الدعاية الروسية في القارة عبر تبني حملة إعلامية أمريكية استباقية، لمواجهة الأنشطة الروسية، وتقوية العلاقات الأمريكية مع القادة الأفارقة والمجتمع المدني.

السيسي عراب بوتين

وقد لفتت القمة الأنظار للدور الذي يلعبه السيسي في التمهيد السياسي لتقوية العلاقات الروسية الافريقية، وهو ما يضع علامات استفهام كبرى حول علاقاته مع أمريكا والغرب!!.

حيث يضع السيسي مصر كمعبر لروسيا  للحصول على مواقع متقدمة في الشرق الأوسط وافريقيا، وهو ما وصفه بوتين في قمته بالقاهرة مع السيسي، في ديسمبر 2018، لتوقيع عقود محطة الضبعة النووية، بأن مصر “الشريك القديم والموثوق به في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا“.

وكانت العلاقات بين روسيا ومصر عادت إلى قوتها عقب قيام السيسي بالإطاحة بنظام الرئيس محمد مرسي بانقلاب عسكري،  في يوليو 2013 إذ كان بوتين ينظر إلى نظام الإخوان ببعض الريبة والقلق نتيجة لعلاقاتهم مع الجماعات الإسلامية في شمال القوقاز؛ والجدير بالذكر أن المحكمة العليا الروسية تدرج جماعة الإخوان في قوائم الإرهاب منذ عام 2006. لكن هذا لم يمنع بوتين من البحث عن أي وسيلة للتعاون مع الإخوان المسلمين في مصر لاستعادة أي دور في الساحة المصرية، وقد تجلى ذلك في تأييد بوتين لدور محمد مرسي في حرب غزة 2012، واستقبال بوتين لمرسي في موسكو أبريل 2013. ومع صعود السيسي إلى المشهد في مصر تغير الحال ووجد بوتين ضالته في السيسي فهو رجل عسكري صعد إلى المشهد السياسي ويسعى إلى الحكم في ظل ظروف صعبة ويحتاج إلى بعض الدعم ومقابل ذلك فهو مستعد لتقديم التنازلات.

وبالفعل لم يضيع بوتين تلك الفرصة، وبدلا من ذلك، راح يسعى بكل عزم لجعل مصر دولة تدور في الفلك الروسي الجديد وجاءت أبرز محاور العمل على ذلك متمثلة في المحاور العسكري والاقتصادي والسياسي ،
عبر صفقات التسليح الروسية للجيش المصري الذى يعتمد في جزء كبير من تسليحه على الأسلحة الأميركية، أولها كان بقيمة تزيد عن 3 مليارات دولار بتمويل خليجي (السعودية، الأمارات)، وفي السياق العسكري نفسه قامت القوات الروسية والمصرية في سبتمبر 2017 بتنفيذ مناورات عسكرية عرفت باسم “حماة الصداقة”، سبقها في وقت لاحق من نفس العام انتشار لبعض وحدات القوات الخاصة الروسية بإحدى القواعد العسكرية في المنطقة الغربية المتاخمة للحدود الليبية لتنفيذ بعض العمليات وتقديم العون للمليشيات الليبية التابعة لخليفة حفتر والتي تتمتع بدعم مصري ـ روسي
.

ومؤخرا تم الاتفاق بين الجانبين على إعداد وثيقة تعاون تمكن الروس من استخدام الأجواء والقواعد العسكرية المصرية في عمليات عسكرية. ويعد هذا المستوى من التعاون العسكري بين البلدين، مستوى غير مسبوق منذ عدة عقود
وقبل صعود السيسي للحكم في 2014،  وفر بوتين للسيسي دعما سياسيا ،  فكانت موسكو أولى العواصم من خارج المحيط العربي التي استقبلت السيسي في أغسطس 2014 عقب استحواذ السيسي على الرئاسة بشهرين تقريبا. ويذكر أن بوتين قد دعم ترشيح السيسي لمنصب الرئيس حتى قبل أن يعلن السيسي ذلك رسميا
.

ونتيجة لذلك أصبح القرار السياسي المصري يدور في فلك السياسة الروسية، بتبعية كاملة للسياسة الروسية فيما يتعلق بالملف السوري، عبر التصويت لصالح القرارات الروسية في مجلس الأمن…

وفي نفس السياق ولكن على الجبهة الليبية تتبنى القاهرة نفس وجهة نظر موسكو بمساندة مليشيات ما يعرف بالجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر.

وعلى الصعيد الاقتصادي،

فاق حجم التبادل التجاري والاقتصادي بين مصر وروسيا مؤخرا خمسة مليارات دولار (بلغت نسبة الصادرات المصرية لروسيا منهم 446 مليون دولار، بينما وصلت نسبة الصادرات الروسية لمصر 4.2 مليار دولار)، كما بلغ حجم ما صدرته روسيا لمصر من سلعة القمح الاستراتيجية والتي تمثل جزءا كبيرا من غذاء الشعب المصري 5.5 مليون طن من إجمالي 10 ملايين هي كل ما كل ما تستهلك مصر وتنتج منه محليا قرابة الـ 4.5 مليون طن. كما أكد بوتين والسيسي في لقائهما الأخير في القاهرة على مشروع المنطقة الصناعية الروسية في منطقة قناة السويس باستثمارات تصل إلى 7 مليارات دولار، وأكد بوتين على أن خطوات ضم مصر للاتحاد الاقتصادي الأوراسي ستنتهي قريبا.

وبعد توقف دام لأكثر من عامين عادت مؤخرا حركة الطيران بين موسكو والقاهرة مما يعنى عودة السياحة الروسية إلى مصر، الا أن رحلات الكيران الشارتر، إلى منتحعات شرم الشيخ، ما زالت متوقفة، وسط سلسلة وعود بعودتها قريبا، والتي كانت قد توقفت بعد تفجير طائرة روسية فوق سيناء في أكتوبر 2015 والتي راح ضحيتها 224 من الروس. وتمثل السياحة الروسية حوالي 40 في المئة من حجم السوق السياحي في مصر بعائدات قدرت بحوالي 2.5 مليار دولار في عام 2015.وتقوم روسيا ببناء محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية في منطقة الضبعة شمال غرب مصر، وستقوم روسيا بتمويل ذلك المشروع عن طريق تقديم قرض قيمته 25 مليار دولار لمصر. ووفقا لتصريح ألكيسي ليخاتشيوف رئيس شركة روساتوم المنفذة للمشروع…

وستقوم روسيا طبقا للعقود الموقعة بإدارة هذه المحطة لمدة قد تصل إلى أكثر من 60 عاما، مما يؤمن لها تواجدا في مصر كل هذه المدة ويضمن عدم تكرار طرد الروس من مصر مثلما فعل السادات من قبل في العام 1972.

فيما يرى السيسي في روسيا ـ بوتين حليفا يمكن الاعتماد عليه أكثر من الولايات المتحدة بالرغم من كل الدعم الذي تقدمه واشنطن للقاهرة…

خاتمة

وعلى أية حال يبقى الاقتصاد هو القاطرة الروسية الأقوى للتوغل في افريقيا، ولتحقيق أهدافها الاقتصادية، بالحصول على المواد الخام، التي تعاني من نقصها الصناعات الروسية، مثل المنجنيز والبوكسيت والكروم، بجانب بيع أسلحتها، وتشغيل شركاتها في البنية التحتية الافريقية والطاقة.

أما التمدد  السياسي والأمني لإتتسارع عليه روسيا عبر الشركات الأمنية الروسية في افريقيا، كشركة فاغنر القريبة من الكرملين..

إلا أن التمدد الروسي يبقى محاطا ببعض التحديات،  نظرا لقيام علاقات روسيا مع افريقيا على أساس التجارة والشراء فقط، بينما دول مثل الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي تعطي مساعدات تنموية واستثمارات في أفريقيا تفوق ما تقدمه روسيا.

لذا، رغم جهود روسيا لتعزيز وجودها وتوطيد علاقاتها في أفريقيا، إلا أنه ما زال أمامها الكثير لتلحق بمنافسيها الدوليين هناك.

إلا أن القمة الروسية الافريقية تؤثر على طبيعة النفوذ الغربي بشكل عام، الأميركي خصوصا، فيما يتعلق بتحالفات المصالح الاقتصادية، في توقيت دقيق تسعى فيه القارة نحو الاستفادة بشكل أفضل من مواردها الأولية عبر التصنيع، وهو ما لم يساعد الغرب فيه واكتفى تاريخيا بنزح الثروات الأفريقية، مرة باستعمار عسكري مباشر، وأخرى بآلية الشركات متعددة الجنسيات.

ومؤخرا أضحت أفريقيا هدفاً بارزاً في إطار تجديد روسيا لاستراتيجيتها حول العالم، بخاصة في ظل تعاظم تأثيرها على الصعيد الدولي، حيث نصّت وثيقة السياسة الخارجيَّة للاتحاد الروسي، التي وقَّعها الرئيس بوتين في 2016، على أن روسيا ستتوسَّع في علاقاتها مع دول قارَّة أفريقيا في مختلف المجالات؛ سواء على المستوى الثنائيّ، أو المستوى الجماعيّ؛ وذلك من خلال تحسين الحوار السياسي، وتكثيف التعاون الشامل؛ السياسيّ، والتجاريّ والاقتصاديّ، والعسكريّ والفنيّ، وفي مجال التعاون الأمنيّ…

وقد أطلقت روسيا في عام 2015 المنتدى الروسيّ الأفريقي “The Russian-African Forum” بهدف تأسيس علاقات سياسيَّة واقتصاديَّة وتجارية جديدة بين الطرفين، كما تسعى روسيا إلى التفاعل مع القضايا الأفريقية على الصعيد الدولي، ومنها الدعوة الأفريقية إلى إصلاح الأمم المتحدة، وأحقية حصول القارة السمراء على مقعد أفريقي في مجلس الأمن الدولي، لكي تُعزّز من وجودها.

وتشارك قوات روسيَّة في حفظ السلام في دول إريتريا، وإثيوبيا، والسودان، وجنوب السودان، والكونغو الديمقراطية، إضافة إلى كوت ديفوار وليبيريا، والصحراء الغربية.

ويتجاوز حجم الجنود الروس المشاركين في تلك العمليات حجم نظرائهم من دول فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية..

كما تستخدم روسيا التجارة في السلاح كمدخل مهم لتوسيع شراكاتها في المنطقة، وتعميق العلاقات السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة مع دول المنطقة، فقد باعت شركة “Rosoboron Export” خلال الفترة من 2011- 2013 أكثر من 12 طائرة هليكوبتر هجومية من طراز Mi-24، وطائرات نقل هليكوبتر Mi-814، للحكومة السودانية.

وقد اعتمدت روسيا أيضا سياسة تخفيض عبء الديون عن قارة أفريقيا؛ حيث ألغت ديونا بقيمة 20 مليار دولار في عام 2012، إضافة إلى 16 مليار دولار تم إسقاطها عن كاهل الأفارقة في عام 2008. كما خفَّضتْ عبء الديون لعدد من دول القرن الأفريقي، مثل إثيوبيا في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، في الوقت الذي قدّمت فيه مساعدات إنسانية لبلدان المنطقة، مثل إثيوبيا والصومال، بما يشكل تطوراً إيجابياً في مسار العلاقات الروسية مع هذه الدول.

وقد حققت روسيا اختراقا مهما على الساحة الأفريقية، حينما استطاعت أن تحصل على موافقة أممية بتسليم الأسلحة لأفريقيا الوسطى عام 2017، وتدريب جنودها على استخدامها، والتي يفرض عليها حظر أممي منذ 2013 بسبب النزاع المسلح بين الطوائف، وذلك في ديسمبر  من نفس العام. في هذا السياق تمت الاستجابة لطلب من رئيس أفريقيا الوسطى بالحصول على الأسلحة، ولذا قامت روسيا بتسليم أسلحة خفيفة وقوات للتدريب في يناير  2018، وكذلك عقدت صفقة أسلحة أخرى في أغسطس  2018.

لم تكتفِ روسيا بالأسلحة فقط، حيث أصدرت مجلة “أتلانتك” الأميركية تقريرا يشير إلى وصول 170 مستشارا مدنيا واعتبارهم من قوات شركة عسكرية خاصة “فاغنر”، وذلك لتدريب القوات الحكومية، كما تمت الإشارة إلى ظهور 500 آخرين من مقاتلي “فاغنر” على حدود السودان- جمهورية أفريقيا الوسطى، فضلا عن توفير قوات خاصة لتأمين فوستين ارشانج تواديرا، رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، كما تمت الإشارة إلى ظهور  شركة عسكرية أخرى تسمى باتريوت، والتي يبدو أنها تمتلك صلات جيدة بمسؤولي وزارة الدفاع وتقدم أجوراً عالية تصل إلى مليون روبل في الشهر، الأمر الذي يزيد من احتمالية استمرار الوجود في أفريقيا الوسطى والانتشار في مزيد من الدول الأفريقية.

وقد أسهمت روسيا بشكل أساسي في إدارة اتفاق السلام بأفريقيا الوسطى تحت مظلة الاتحاد الأفريقي وبتسهيلات واضحة من السودان منذ يوليو 2017، وأتى توقيع الاتفاق في أغسطس 2018، وذلك بإدارة مفاوضات بين الجبهة الشعبية لنهضة أفريقيا الوسطى، والحركة الوطنية لأفريقيا الوسطى، وحركة الأنتي بلانكا، والوحدة من أجل سلام أفريقيا الوسطى. وتبع ذلك تعزيز التعاون في مجال التعليم، والتبرعات الروسية  في بناء المستشفيات وتوفير قوات خاصة لتأمينها ومراقبة توصيل مواد البناء لاستكمال العديد من المستشفيات.

وفي هذا السياق، يعتبر الحصول على الذهب والماس واليورانيوم من أهم الدوافع الرئيسة لروسيا بشأن الوجود في أفريقيا الوسطى، حيث تعتبر دولة غنية بهذه الموارد، كما عبّرت روسيا عن ذلك بشكل صريح، حيث أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عقب لقائه رئيس أفريقيا الوسطى في مايو  2018، عن سعي بلاده لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.

وفي نفس السياق، تلعب المراكز الثقافية الروسية للعلوم والثقافة دوراً في تعزيز الوجود الروسي في المنطقة، حيث تعمل بشكل مثمر في إثيوبيا، إلى جانب تنزانيا والكونغو وزامبيا، كما تقدم روسيا المنح والتدريب للطلبة الأفارقة في الجامعات الروسية، ففي عام 2017 درس أكثر من 1800 شاب أفريقي في روسيا، وبشكل عام، هناك 15 ألف شاب أفريقي يدرسون في روسيا منهم 4000 في مِنَح دراسية مُمَوَّلَة من الحكومة الروسية.

..ومن ثم تأتي القمة كبوابة لتقنين التمدد الروسي في القارة الإفريقية، تحقيقا لمصالحها أولا، على حساب القارة الأفقر…

x

‎قد يُعجبك أيضاً

السيسي يُطعم المصريين الخبز المصاب بـ”الإرجوت” السام لإرضاء الروس!

رصد تقرير استقصائي لموقع “أريج” كيف يُطعم السيسي المصريين الخبز المصاب بفطر قمح “الإرجوت” لإرضاء ...