بقلم / محمد عبد الرحمن صادق
قال تعالى : ” وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {104} ” ( النساء 104 ) .
– عندما واجه المسلمون كفار قريش في غزوة أحد وحدث فيها ما حدث للمسلمين ، أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحابته الكرام بالخروج لتعقب آثار كفار قريش ، وقد بلغت الجراح والآلام والمتاعب بالمسلمين كل مبلغ ، وكان أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يخرج معه إلا من كان معه بالأمس . وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر أن يُضمِّد هذه الجراح النفسية والبدنية الغائرة ، حيث قتل في هذه الغزوة عشرات من خيرة الصحابة ومُثل بهم . وهنا كان التطييب والتطبيب من الله تعالى لهذه النفوس المكلومة ، حيث قال تعالى : ” وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141} أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142} وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ {143} ” ( آل عمران 139 – 143 ) . وكذلك نزل قوله تعالى : ” وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {104} ” ( النساء 104 ) .
1 – قال القرطبي رحمه الله : قوله تعالى : ” إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ ” أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضاً مما يصيبهم ، ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه ، وذلك أن من لا يؤمن بالله لا يرجون من الله شيئاً . ونظير هذه الآية : ” إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ” .
2 – قال الرازي رحمه الله : قوله تعالى : ” إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ ” والمعنى أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم ، فلما لم يصر خوف الألم مانعاً لهم عن قتالكم فكيف صار مانعاً لكم عن قتالهم ، ثم زاد في تقرير الحُجة وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين ، لأن المؤمنين مُقرون بالثواب والعِقاب والحشر والنشر، والمشركين لا يُقرون بذلك ، فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر والنشر يجدِّون في القتال فأنتم أيها المؤمنون المُقرون بأن لكم في هذا الجهاد ثواباً عظيماً وعليكم في تركه عقاباً عظيماً ، أولى بأن تكونوا مُجدِّين في هذا الجهاد ، وهو المراد من قوله تعالى : ” وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ” .
3 – قال السيوطي رحمه الله : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس ” إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ ” قال : تُوجعون ” وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ” قال : ترجون الخير . وأخرج ابن جرير عن قتادة في الآية يقول : لا تضعفوا في طلب القوم ، فإنكم إن تكونوا تتوجعون فإنهم يتوجعون كما تتوجعون ، وترجون من الأجر والثواب ما لا يرجون . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : لا تضعفوا في طلب القوم ، إن تكونوا تتوجعون من الجراحات فإنهم يتوجعون كما تتوجعون ” وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ” يعني الحياة والرزق والشهادة والظفر في الدنيا .
4 – قال الشعراوي رحمه الله : ” وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ ” إن الحرب تُرهقهم أيضاً كما ترهقكم ، لكنكم أيها المؤمنون تمتازون على الكافرين بما يلي : ” وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ” . فأنتم وهم في الألم سواء ، ولكن الاختلاف هو أن المؤمنين يرجون ما لا يرجوه الكافرون ، إن المؤمنين يعلمون لحظة دخولهم الحرب أن الله معهم وهو الذي ينصرهم ومن يمُت منهم يذهب إلى جنة عرضها السموات والأرض ، وهذا ما لا يرجوه الكفرة .
– والحق سبحانه وتعالى يطالب الفئة المؤمنة التي انتهت قضية عقيدتها إلى الإيمان بإله واحد ، هو سبحانه أنشأهم وخلقهم وإليه يعودون ، وهذه القضية تحكم حركات حياتهم ، إنه سبحانه يطالبهم أن يؤدوا مطلوبات هذه القضية ، وأن يدافعوا عن هذه العقيدة التي تثبت للناس جميعاً أنه لا معبود – أي لا مُطاع – في أمر إلا الحق سبحانه وتعالى . وحين تحكم هذه القضية أناساً فهي توحد اتجاهاتهم ولا تتضارب مع حركاتهم ، ويصبحون جميعاً متعاونين متساندين متعاضدين ، لذلك جعل الله الطائفة المؤمنة خير أمة أخرجت للناس ، لأن رسولها صلى الله عليه وسلم خير رسول أرسل للناس ، وطلب الحق من أهل الإيمان أن يجاهدوا الكافرين والمنافقين لتصفو رقعة الإيمان مما يكدر صفو حركة الحياة . …….. وكلمة ” وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ ” أي في طلبهم تدل على أن الأمة الإسلامية ليس مطلوباً منها فقط أن تدفع عن نفسها عدواناً ، بل عليها أن تطلب هؤلاء الذين يقفون في وجه الدعوة لتؤدبهم حتى يتركوا الناس أحراراً في أن يختاروا العقيدة .
– إذن فالطلب منه سبحانه : ألاّ تهنوا ولا تضعفوا في طلب القوم الذين يقفون في وجه الدعوة . ثم قال سبحانه : ” إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ” أي إنه إذا كان يصيبكم ألم الحرب والإعداد لها ، فأنتم أيضاً تحاربون قوماً يصيبهم ألم المواقع والحروب والإعداد لها ، فأنتم وهم متساوون في إدراك الألم والمشقة والتعب ، ولكن يجب ألا تغفلوا عن تقييم القوة فلا تهملوها ، لأنها هي القوة المُرجحة . فأنتم تزيدون عليهم أنكم ترجون من الله ما لا يرجون . والأشياء يجب أن تُقَوَّم بغاياتها والثواب عليها . لا يقولن أحد أبداً ( هذا يساوي ذلك ) .. فلا يهمل أحد قضية الثواب على العمل . ولذلك يقوم الحق سبحانه وتعالى بشرح هذه المعادلة حتى تكون الأذهان على بينة منها إعداداً وخوضاً للحرب واحتمالاً لآلامها .
5 – قال سيد قطب رحمه الله : ” وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {104} ” فإذا أصر الكفار على المعركة ، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصراراً ، وإذا احتمل الكفار آلامها ، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام . وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال ، وتعقب آثارهم ، حتى لا تبقى لهم قوة ، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . وإن هذا لهو فضل العقيدة في الله في كل كفاح . فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة ، ويربو الألم على الاحتمال ، ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد . هنالك يأتي المدد من هذا المعين ، ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم . ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة مُتكافئة . معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل . ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة ، ولكن القاعدة لا تتغير . فالباطل لا يكون بعافية أبداً ، حتى ولو كان غالباً ! إنه يلاقي الآلام من داخله . من تناقضه الداخلي ، ومن صراع بعضه مع بعض . ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء . وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار . وأن تعلم أنها إن كانت تألم ، فإن عدوها كذلك يألم ، والألم أنواع ، والقرح ألوان ” وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ” وهذا هو العزاء العميق ، وهذا هو مفرق الطريق .
– ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى الله أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضاً ، وأنه لا يجديهم فتيلاً أن يتقوها ويتجنبوها . فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية ، ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم الله منها . وقد نجاهم الله منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية لله وحده . فلا مفر من خوض المعركة ، والصبر عليها ، وانتظار فتح الله بعد المفاصلة فيها .
6 – ويقول سيد قطب -رحمه الله – في موضع آخر : ” إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده – مهما عظمت وشقت – أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت ! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة – مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق !
– إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة ! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته ، فهذه الإنسانية لا توجد والإنسان عبد للإنسان ، وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان ؟!
– وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به ، ورضاه أو غضبه عليه ؟!
– وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته ؟!
– وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان ؟!
– إن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة ؛ إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس – في حكم الطواغيت – أموالهم التي لا يحميها شرع ، ولا يحوطها سياج ، كما يكلفهم أولادهم ، إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات ، والأخلاق والتقاليد والعادات ، فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها ، فيذبحهم على مذبح هواه ، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه ! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية ، حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت ، سواء في صورة الغصب المباشر – كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ – أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبًا مباحًا للشهوات تحت أي شعار ! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار . والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله ، إنما يعيش في وهم ، أو يفقد الإحساس بالواقع ! إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال . ومهما تكن تكاليف العبودية للّه ، فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة . فضلاً على وزنها في ميزان اللّه .
7 – ويقول سيد قطب – رحمه الله – أيضاً : ” إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض اللّه لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام . فكل من يؤمن باللّه ورسوله ويدين دين الحق ، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام ، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب ، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون اللّه ، ويرجون حسابه ، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند اللّه الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها ” .
– إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله للّه ، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد ، كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم . إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت – تحت رايته – بكل ما فيها من تضحيات ، ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول ، كما أنها أذل وأحقر ! . . إنه يدعوهم للكرامة ، وللسلامة ، في آن .
– وأخيراً : إن الآلام والجراح وُجدتا بمجرد وجود الخير على الأرض ، ولن تتوقف هذه الآلام ، ولن تندمل هذه الجراح ، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها .
– نزفت الجراح عندما عزم قابيل على قتل هابيل وقتله .
– نزفت الجراح عندما بعث الله تعالى الأنبياء والرسل وتسلطت عُصبة الشر على الأنبياء وأتباعهم .
– تنزف الجراح مع كل مُؤذن للخير في أي مكان وفي كل زمان ، وهذه هي سُنة الله تعالى الماضية إلى يوم القيامة . والسلوى لأهل الحق هي قول الله تعالى : ” وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ” .
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدى بها قلوبنا ، وتجمع بها أمرنا ، وتزكى بها أعمالنا ، وتلهمنا بها رشدنا ، وترد بها الفتن عنا ، وتعصمنا بها من كل سوء .