بدأ التدخل الحقيقي من قبل الجيش المصري في الحياة الاقتصادية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978، التي خلصت إلى إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، وإقامة علاقات ودية بين الطرفين، كما تضمنت الاتفاقية بنودًا في مجملها تقلص المهام القتالية للجيش، وتحد من عمله العسكري. من ثم نتيجة لهذا الأمر تحول اهتمام الجيش إلى الأنشطة الاقتصادية، وخصوصًا في العقد الأول من حكم حسني مبارك؛ حيث أُنشئت الأذرع الاقتصادية الرئيسية للجيش المصري، وتنوعت الشركات التي يملكها الجيش في مصر.
كانت المرحلة الثانية في ازدياد النفوذ العسكري في الحياة الاقتصادية في العام 1990، حينما بدأ نظام مبارك في تطبيق خطة للتحرير الاقتصادي الكامل وفقًا لمتطلبات كل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. حينها توسع الجيش في إنتاج السلع والخدمات المدنية بشكل أكبر، كما أقام المزيد من الشركات والمصانع الجديدة، والمزارع الشاسعة، واغتنم حصصًا كبيرة من القطاع العام باعتبارها جزءًا من عملية الخصصة حينذاك.
توسع جديد
وجاء إصدار المنقلب عبد الفتاح السيسي، يوم الأحد الماضي، قرارا جمهوريا بتشكيل لجنة لتعديل قانون قطاع الأعمال العام لإعادة هيكلته ، ليفصح عن توسّع النظام الحاكم في الاعتماد على الأجهزة السيادية والأمنية، ممثلة في المخابرات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني، وقبل كل ذلك الجيش، في مباشرة المشاريع ذات الصفة القومية، على حساب الأجهزة الحكومية المدنية. وهي السياسة التي كرستها دائرة السيسي خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بصور شتى.
وبرغم النشاط الذي تم خلال الأسابيع الماضية، بعدما فضح المقاول والفنان محمد علي هيمنة الجيش على المشاريع الاقتصادية، وكشف كم الفساد المستشري بين قادته، إلا أن السيسي لم يكف عن الاستحواذ والهيمنة الاقتصادية على أصول الدولة العامة والخاصة.
وتمّ تشكيل اللجنة الجديدة برئاسة شريف إسماعيل، مساعد السيسي للمشاريع القومية والاستراتيجية، والذي سبق له أن شغل منصب رئيس الوزراء السابق، وعضوية وزير قطاع الأعمال هشام توفيق، وممثلين عن وزارتي المالية والتخطيط، مقابل حضور مكثف للأجهزة السيادية بممثلين عن المخابرات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني. يحدث ذلك في ملف من المفترض أن يكون اقتصاديا بالدرجة الأولى، وكان بعيدا تماما عن تدخلات تلك الأجهزة منذ استحداث ذلك القطاع بداية التسعينيات من القرن الماضي كخطوة أولى لخصخصة القطاع العام وإدخال المستثمرين كمساهمين فيه.
وقالت مصادر حكومية: إنّ هذه الخطوة لا يمكن فصلها عن إرادة السيسي بإسناد جميع الملفات السياسية والاقتصادية الحساسة إلى دائرته الخاصة، المكونة من المخابرات العامة والرقابة الإدارية تحديدا، وكذلك الاستعانة بخبرة الأمن الوطني في التعامل مع المواطنين، لا سيما أنّ اللجنة الجديدة ستهتم أيضا بدراسة أوضاع العاملين في ذلك القطاع وما سيترتب عليهم جراء إعادة الهيكلة، فضلاً عن التعامل الإعلامي مع القرارات الجذرية التي سيتم اتخاذها.
وأضافت المصادر أنّ جميع اللجان التي شكّلها السيسي بين عامي 2017 و2019 برئاسة رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم محلب ثمّ شريف إسماعيل، لتقييم شركات القطاعين العام والأعمال العام، ومتابعة ودراسة المشاريع الحكومية المتعثر إنهاؤها، والمرغوب حاليا في إعادة استثمارها وتسويقها، يهدف تأسيسها بهذه الصورة إلى إضعاف الأداء الحكومي المدني وتقييد سلطات الوزراء، وفرض رقابة من أجهزة مختلفة عليهم، وتعظيم الاعتماد على تلك الأجهزة ذات الطابع النظامي. وذلك إلى جانب منح الجيش والأجهزة السيادية التي دخلت على خط الاستثمارات والمشاريع الهادفة للربح، كالمخابرات العامة والرقابة الإدارية ووزارة الداخلية، أفضلية على حساب الوزارات المعنية بالمشاريع القومية، للسيطرة عليها، وإعادة التعاقد بشأنها وهيكلتها بما يتماشى مع الاتجاه الجديد للنظام.
خطة “قطاع الأعمال العام”
ويبدو أن الجيش عازم على اقحام نفسه في ملكية وإدارة شركات قطاع الأعمال العام، بدعوى تطويرها والارتقاء بأدائها وزيادة أرباحها واستغلال مواردها المهملة أو المجمّدة، وتوسيع نطاقها لتشمل الدفع بالمخابرات، التي تنوي منافسة الجيش في بعض المجالات. وتأتي على رأسها محطات الوقود، وكذلك الشرطة التي ما زالت مشاريعها قليلة الانتشار، وذلك كله بإشراف الرقابة الإدارية.
تقوم الخطة على أن تتشارك الجهات السيادية مع وزارة قطاع الأعمال العام لتملّك وإدارة عدد من الشركات التابعة للشركات القابضة، الناشطة في مجالات ليس للجيش أو المخابرات أو الشرطة شركات تعمل فيها، خصوصا صناعة الغزل والنسيج والأدوية والسياحة والنقل واللوجستيات، بشرط أن تكون غير خاسرة، ولكنها متعثرة في تحقيق أرباح تتناسب مع مواردها وأملاكها الحقيقية. كما سيتم استثناء الشركات القائمة في المجالات التي ينشط فيها جهاز مشاريع الخدمة الوطنية التابع لوزير الدفاع أو المخابرات والشرطة.
وقبل أعوام وتحديدا بعد الانقلاب،سعت حكومة العسكر لتشكيل لجنة لإعداد قائمة كاملة بالأصول الحكومية غير المستغلة، تمهيدا لضمها بقرار جمهوري لصندوق مصر السيادي الجديد، الذي صدر قانون بإنشائه في أغسطس 2018، لاستثمار الأصول غير المستغلة، ونقلها من مجال المال العام إلى مجال المال الخاص بالدولة القابل للاستثمار بالبيع أو التأجير. تبين فيما بعد أن معظم الأملاك غير المستغلة عبارة عن عقارات وأراض فضاء، كانت تحت إدارة شركات قطاع الأعمال العام، فضلاً عن مصانع ومعامل تم تكهينها (إخراجها من الخدمة) منذ بدء برنامج خصخصة القطاع العام في تسعينيات القرن الماضي.
ماذا خسرت مصر من التغلغل؟
ورغم غياب الشفافية حول الأرقام الحقيقية لحجم الشركة العسكرية في مصر؛ حيث إنه وفقًا لمؤشر مكافحة الفساد في قطاع الدفاع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية في شهر سبتمبر من العام 2015، فقد جاء ترتيب مصر من بين الدول التي تواجه مخاطر الفساد في قطاع الدفاع في تصنيف “حرج” وهو التصنيف الأسوأ في المؤشر، كما يقول التقرير عن مصر “أن ميزانية الدفاع التي تقدر بحوالي 4.4 مليار دولار تعتبر سرًا من أسرار الدولة ولا تتوافر هذه الميزانية بأي صيغة من الصيغ للجمهور أو للسلطة التشريعية”.
ورغم الغموض الذي يكتنف الحجم الحقيقي للأنشطة الاقتصادية للجيش المصري لانعدام منظومة الشفافية والرقابة والمساءلة، فإنه قد ذهبت بعض التقديرات إلى أن حصة القوات المسلحة من الاقتصاد المصري تبلغ 40% على الأقل، فيما تشير تقديرات أخرى إلى أنها أقل من هذه النسبة.
التكلفة الاقتصادية للإعفاء الضريبي والجمركي
ذكرت “بي بي سي” على موقعها، في التاسع من مارس 2015، أن الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار، يرى أن حصة اقتصاد الجيش من الناتج المحلي الإجمالي في مصر، لا تتجاوز 18% في الوقت الراهن. بفرض دقة هذا الرقم، فإن ذلك يعني أن اقتصاد الجيش يساهم بـ60 مليار دولار تقريبًا في الناتج المحلي الإجمالي لمصر البالغ 330 مليار دولار للعام 2015 وفقًا لبيانات البنك الدولي؛ ما يعني أن الأذرع الاقتصادية الأربعة للجيش المصري قامت بإنتاج ما قيمته 60 مليار دولار في العام 2015، ما يعني أن باقي القوى الفاعلة في الاقتصاد المصري كالقطاع الخاص وقطاع الأعمال الحكومي قام بإنتاج ما قيمته 270 مليار دولار من نفس العام.
وإذا كان إجمالي الإيرادات الضريبية في الموازنة العامة المصرية للعام المالي 2015/2016 بلغت 362 مليار جنيه، وإذا كانت أنشطة الجيش الاقتصادية معفاه من الضرائب ومتطلبات الترخيص التجاري وفقًا للمادة 47 من قانون ضريبة الدخل لعام 2005. وعند احتساب قيمة الضرائب التي كان من المفترض أن تُورَّد للخزانة العامة للدولة من قِبل اقتصاد الجيش بالنسبة إلى حجم مشاركته في الناتج المحلي الإجمالي، يتضح أن الرقم التقريبي هو 65 مليار جنيه حُرمت منها الخزانة العامة للدولة بسبب امتياز واحد من امتيازات اقتصاد الجيش وهو الإعفاء الضريبي والجمركي لأنشطته.
تأثير العمالة المجانية على الاقتصاد الكلي
تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن عدد المشتغلين من قوة العمل في مصر للعام 2015 بلغت 24.8 مليون عامل، تتنوع هذه النسبة بين المشتغلين بأجر والمشتغلين لحسابهم الخاص.
وبالتالي فهناك تكلفة فرصة بديلة باهظة الثمن تم تفويتها على الاقتصاد المصري جراء هذا الامتياز الثاني للجيش، فلو افترضنا أن نصف عدد المجندين على أقل تقديرات هم من يعملون في الأنشطة المدنية الاقتصادية للجيش المصري، وهو ما يعني أن لدينا نصف مليون عامل، وبفرض أنهم سيتقاضون الحد الأدنى للأجور الوارد في قانون الخدمة المدنية المطروح على البرلمان، والذي يحدد 1200 جنيه حدًا أدنى للأجر شهريًا، وبالتالي فإن إجمالي ما سوف يتقاضاه هؤلاء المجندين هو 600 مليون جنيه شهريًا أي 7.2 مليار جنيه في العام حدًا أدنى للأجر. وهو ما يعني أن الاقتصاد المصري حُرم من فوائد ضخ هذا المبلغ الكبير في شرايين الاقتصاد كما أسلفنا وليتم تحسين الأحوال المعيشية لنصف مليون فرد في المجتمع، وتشجيع القطاع الخاص والحكومي وكذلك اقتصاد الجيش على توسيع القاعدة الإنتاجية لهم ومن ثم زيادة الناتج الإجمالي المحلي وما يعود على مؤشرات الاقتصاد الكلي بالإيجاب جراء هذه الزيادة.
ماذا عن استغلال الأراضي؟
بحسب بحث أعده أحمد مرسي لمركز كارينجي للشرق الأوسط في يونيو 2014 فإن “الجيش هو أكبر قيم على الأراضي الحكومية في البلاد؛ حيث منح قرار رئاسي صدر في عام 1997 الجيش الحق في إدارة جميع الأراضي غير الزراعية وغير المستثمرة، والتي تشير التقديرات إلى أنها تصل إلى 87% من مساحة البلاد”.
2% وفقًا لرئيس الدولة.. ماذا يعني ذلك؟
وإذا افترضنا أن حجم الأصول والموجودات التي يستغلها الجيش في الإنتاج المدني تبلغ 40% مثلما قدره البعض. وأن حجم الاقتصاد الذي تديره المؤسسة العسكرية أي نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لعبدالفتاح السيسي في حواره مع وكالة رويترز إبان ترشحة للرئاسة في مايو 2014 والذي قال إنها لا تتجاوز 2% فقط. فإنه وفقًا لهذه الأرقام فإن هناك فشلًا ذريعًا من قِبل المؤسسة العسكرية في إدارة هذه الأصول التي تنتج فقط 2% وفقًا لرئيس الدولة، فكيف لقوى تمتلك 40% من الأصول المستغلة مع مالها من هذه الامتيازات، أن تنتج 2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعني تفويت الفرصة على الاقتصاد الوطني لإستغلال هذه الموجودات، وإهدار الموارد والطاقات التي يمكن أن تساهم بنسبة 40% على الأقل في الناتج الإجمالي المحلي.