انتعشت حركات الإسلام السياسي عقب اندلاع ثورات الربيع العربي، حتى صعدت إلى سدة الحكم في أكثر من دولة، لتتفاجأ بعد ذلك بقوة ما سُمي بـ”الثورات المضادة” التي قادتها الدولة العميقة ودعمتها دول عربية، وسط إقرار غربي، للإطاحة بصعود الإسلام السياسي، ما أدخل هذه الحركات في حالة صدمة وتخبط وانشقاق.
وبعد مرور أكثر من خمسة أعوام على الإطاحة بحكم حركات “الإسلام السياسي” في مصر، عقب الانقلاب على الرئيس الشرعي لمصر محمد مرسي، ومضي أكثر من أربعة أعوام على “انكفاء” حركة النهضة عن الحكم في تونس؛ هل بات الإسلاميون أكثر خبرة ووعيا لكيفية التعامل مع الواقع السياسي الداخلي والخارجي، أم أن بوصلة العمل السياسي ما زالت ضائعة، ما يبقي هذه الحركات في دوامة من الفشل والتصدع؟
مظاهر التقهقر
يرى الوزير الأردني الأسبق، والقيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين، الدكتور بسام العموش، أنه “لا وجود لثورات مضادة، وإنما هي جماعات تم تحريكها من قبل جهات دولية وعربية لمنع الإسلاميين من تولي الأمور”.
وقال العموش لـ”عربي21” إن هذه الجماعات ومن يقف خلفها، تمكنت من التأثير في بنية حركات الإسلام السياسي، “حيث دخل أبناؤها في حوارات غير علمية، ولّدت انشقاقات كانت بذورها موجودة من قبل، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، فكَمَن بعضهم، وسُجن آخرون، وظن فريق ثالث أن الانشقاق هو الحل، ورأى فريق رابع أن يعتزل كل هذه المهازل، وغابت القيادة الكارزمية المقنعة”.
من جهته؛ قال الكاتب والمعلق السياسي هشام البستاني، إن “حركات الإسلام السياسي كانت المستفيد الأول من الربيع العربي؛ لأنها كانت القوى الأكثر تنظيما، إلا أنها لم تستطع أن تبني تحالفات واسعة مع القوى الاجتماعية والسياسية الأخرى، التي كان من الممكن أن تشكل ضمانة لها لإحداث تغيير عميق”.
وأكد لـ”عربي21” أن هذه الحركات اعتقدت أنها بصعودها إلى السلطة تستطيع أن تغير بنية دول غير قابلة للتغيير، لافتا إلى أن “من أبرز أخطائها؛ رهانها على ما يسمى بالدولة العميقة، ما أدى إلى إضعاف مصداقيتها عند المجموع العام، وإحداث خلافات داخلية استغلتها المجموعات الحاكمة لمزيد من تفتيتها وإضعافها، كما حصل مع الحركة الإسلامية في الأردن”.
ولم تكن الثورة المضادة حركة أو حزبا، وإنما كانت دولا تمتلك أجهزة قمعية عسكرية وأمنية ضخمة، وأجهزة أيديولوجية تتحكم في المؤسسات القضائية والتعليمية والإعلامية وغيرها، كما أنها تمتعت بدعم دولي وإقليمي واسع ونافذ، بحسب الخبير في الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية.
وقال أبو هنية لـ”عربي21” إن “الثورة المضادة بسماتها السالفة الذكر، وَصَمَت حركات الإسلام السياسي بالإرهاب والعنف والتطرف والخروج عن أطر الدولة الوطنية، وفي سياق هذه العملية المنسقة فقدت هذه الحركات الكثير من رصيدها وشعبيتها، وباتت شرعيتها القانونية على المحك”.
وأوضح أن “هذه الحالة أفضت إلى سلسلة من التصدعات والانشقاقات داخل هذه الحركات على الصعيدين الهيكلي التنظيمي والأيديولوجي الفكري”، مؤكدا أن “حالة الاستقطاب البنيوي الداخلي لم تنته بعد، فما يزال الجدل والنقاش لم يحسم حول قضايا عديدة تنظيمية وفكرية”.
أما عضو مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، إبراهيم اليماني؛ فأقر بأن “الثورات المضادة عكست ضيق وضحالة الرؤية السياسية لدى قوى الإسلام السياسي، وعدم فهم طبيعة الدولة الحديثة، وآلية عمل الدولة العميقة داخلها، وعدم إدراك موازين القوى المختلة وتعقيدات السياسة”.
واستدرك اليماني بالقول لـ”عربي21” إن “الثورات المضادة منحت حركات الإسلام السياسي الكثير من الشعبية، حيث أظهرتها في صورة نقيض الديكتاتوريات العربية المستبدة، وإن لم تنعكس هذه الشعبية على الأرض بسبب القمع والملاحقة والظلم المفرط والسجون”.
الإفادة من التجربة
وحول ما إذا كانت حركات الإسلام السياسي قد استفادت من تجربتي ثورات الربيع العربي والثورات المضادة، وخرجت بدروس جعلتها أكثر نضجا وتماسكا؛ ذهب العموش إلى القول بأن “هذه الحركات ما تزال تعيش هول الصدمة، وانتظار ما يفعله الخصوم هو سيد الموقف لديها، في نسيان تام أن الحركات تفعل، ولا تكتفي بتلقي الضربات والتعامل بردود الأفعال”.
وأضاف أن “من ما يزال من هذه الحركات واقفا، مثل حركة النهضة في تونس، فإنها تسير في حقل ألغام تمارس فيه لعبة شد الحبل خوفا من المصير المصري، حتى لو كان الثمن الموافقة على ما يخالف الشريعة”.
من جانبه؛ قال البستاني إن حركات الإسلام السياسي استفادت من تجربة الربيع العربي وما بعده، وأجرت مراجعات مختلفة، وعادت إلى فكرة بناء تحالفات واسعة، كما حصل في الأردن حيث شكلت التحالف الوطني للإصلاح الذي شارك في الانتخابات النيابية من خلال شعارات غير متعلقة بالموضوع الديني، وطرح مواضيع برامجية تمس المواطنين بشكل مباشر.
واستدرك بأن “المراجعات لم تكن كافية، مثلها مثل مراجعات بقية الحركات السياسية، التي لم تعد النظر بموضوع العلاقة مع الحكم القائم الذي تمثله كيانات وظيفية سلطوية”، مؤكدا أن “على الحركات السياسية أن تُنضج حركة مجتمع مسيس، عبر فتح حوارات مع كل القوى، وليس محاولة الاستئثار بالسلطة”.
بدوره؛ أكد اليماني أن مراجعات حركات الإسلام السياسي “قائمة ولكن بشكل بطيء وغير واضح المعالم والمسار، لأنها ما زالت تعاني من فقدان التوازن، إلى جانب انشغالها بالمحافظة على البقاء في المشهد، ومواجهة الحملة الشرسة الموجهة إليها”.
وقال إن الحركة الإسلامية في تونس والمغرب استفادت من تجارب الحركات الإسلامية في المشرق العربي، وخاصة التجربة المصرية، “حيث سعت للمناورة من أجل البقاء وتحقيق بعض المكاسب، دون رفع سقف التوقعات، واضطرت إلى القبول بالديمقراطية الديكورية المبرمجة، التي تعطي التيار الإسلامي حصة محدودة في البرلمانات، دون أن يكون لها دور حقيقي ومؤثر في الإصلاح والتغيير السياسي”.
أما أبو هنية؛ فرأى أن “حركات الإسلام السياسي تخلت ولو مرحليا عن الشعارات والسرديات الكبرى المتعلقة بالدولة والمجتمع، كمسألتي الخلافة وتطبيق الشريعة، وأصبحت مقتنعة بضرورة الاندماج في منظومة الدولة الوطنية الراهنة، وأظهرت قدرا كبيرا من البراغماتية والمرونة حول القضايا المحلية والاقليمية والدولية”.
ما بعد الإسلام السياسي
وعقب إفشال تجربة حركات الإسلام السياسي في الحكم عقب ثورات الربيع العربي؛ ظهر إعلاميا مصطلح “ما بعد الإسلام السياسي” وزعم أصحاب هذا المصطلح أن الواقع تجاوز هذه الحركات التي “فشلت” في تقديم نموذج ناجح يرضي الشعوب ويكسب تأييدها.
البستاني أعرب عن رفضه لمصطلح “ما بعد الإسلام السياسي” الذي “يمثل خطابا دعائيا تديره المجموعات الحاكمة والقوى التي فشلت في الوصول للحكم، ما جعلها تتحالف مع هذه الأنظمة القمعية الشرسة من أجل أن تبقى”.
ورأى أن حركات الإسلام السياسي بجميع أشكالها باقية، “فهي جزء من المجتمع الاجتماعي والسياسي في الوطن العربي”، منتقدا قوى اليسار التي ينتمي إليها كما قال، “لمحاولتها إقصاء أو تجاوز الحركة الإسلامية التي تملك اللغة والمصطلحات ذات العمق التاريخي، التي يتفاعل معها المتلقي بشكل مباشر”.
بدوره؛ أكد اليماني أنه “لا يمكن تجاوز مرحلة الإسلام السياسي ما دام هناك إسلام ومسلمون”، مستشهدا بنجاح الإسلاميين بالانتخابات في كل من الأردن والكويت والمغرب وموريتانيا، “وكل هؤلاء نجحوا بعد الثورات المضادة الفاشلة على المستويين الشعبي الجماهيري والاقتصادي”.
أما العموش، فذهب إلى القول بأن “حركات الإسلام السياسي ليس أمامها خيار سوى أن تعيد نفسها بثوب جديد، بعيدا عن الأسماء وبعض المضامين التي لم تعد صالحة للاستهلاك البشري، في ثورة بيضاء على الذات؛ تفهم العالم والمحيط والواقع، وتعمل بفن الممكن، مع تغيير الخطاب السياسي، وفهم ميكانزم التغيير والمزاحمة والتحالف وفن الشطرنج السياسي”.