أولا : القرآن يطبع قلب النبى ﷺ ونفسه بطابعه :
يروى الإمام مسلم عن سعد بن هشام أنه دخل مع حكيم بن حزام على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فقال: أنبئيني عن خلق رسول الله ﷺ فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال بلي، قالت: “فإن خلق نبي الله ﷺ كان القرآن “، وفي رواية قالت “كان خلقه القرآن” أما تقرأ ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ “ (القلم:4).
وهذا السؤال نفسه سأله إياها الإمام الحسن البصري -رحمه الله- وإمام التابعين مسروق بن الأشجع الهمباني فأجابت بنفس الإجابة.
وسألها أحد التابعين وهو يزيد بن باباينوس عن خلق رسول الله ﷺ فقالت “كان خلقه القرآن” تقرءون سورة المؤمنين, قالت اقرأ ” قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ” فقال يزيد فقرأت قد أفلح المؤمنون إلى قوله ” لفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ “ فقالت رضى الله عنها “كان خلق رسول الله ﷺ” أي كان ما ورد في هذه الآيات الكريمة من توجيهات ربانية هو الخلق الذي عاش عليه النبي ﷺ بل إن سيدنا أبا الدراداء رضى الله عنها سأل عائشة أيضاً هذا السؤال الكريم فأجابت عائشة رضى الله عنها فقالت: “كان خلقه القرآن يغضب لغضبه ويرضي لرضاه” أو هو كما قالت رضى الله عنها .
على أن هذه الإجابة لم تكن إجابة عائشة رضى الله عنها وحدها, بل كانت إجابة سائر أمهات المؤمنين, اللواتي رأين رسول الله ﷺ في مختلف ساعات يومه, وفي مختلف حالاته النفسية والمزاجية, ورأين كيف كان القرآن الكريم خلقه في كل الأحوال, والموجه لسلوكه في كل الساعات.
روى الحسن رضى الله عنها أن رهطا من أصحاب النبي ﷺ اجتمعوا, فقالوا لو أرسلنا إلى أمهات المؤمنين فسألناهن عما نحلوا عليه النبي ﷺ لعلنا أن نقتدي به, فأرسلوا إلى هذه ثم إلى هذه المرأة من أمهات المسلمين فكان جواب الجميع بأمر واحد جاء الرسول بأمر واحد أنكم تسألون عن خلق نبيكم ﷺ وخلق نبيكم القرآن, ورسول الله ﷺ يبيت يصلى وينام ويصوم ويفطر ويأتي أهله, وتقصد أمهات المؤمنين, أن النبي ﷺ كان يمارس ما يمارس سائر الناس إلا أنه كان في كل ذلك متقيد بالقرآن الكريم, ما معني هذا الكلام؟ معني كان خلقه القرآن, معناه كما قالت عائشة رضى الله عنها أنه كان يجعل أخلاقه على مراد الله تبارك وتعالى في القرآن, يغضب لغضبه, ويرضي لرضاه, ما هو من أسباب رضي الله كان النبي ﷺ يرضي به, كما ما هو من أسباب غضب الله كان النبي ﷺ يغضب له.
ثانيا : ما معنى أنه ﷺ كان خلقه القرآن ؟ :
كون خلقه القرآن معناه: أنه كان متمسكاً بآدابه, وأوامره ونواهيه, ومحاسنه ويوضح ذلك أن جميع ما قص الله تبارك وتعالى في كتابه من مكارم الأخلاق, من قصة أو نبيٍ أو وليّ أو ما حث عليه الحق تبارك وتعالى, أو ما ندب إليه كل ذلك كان النبي ﷺ متخلقاً به, وكذلك كل ما نهي الله تبارك وتعالى عنه, أو ذمه في سيرة عدو من أعدائه, فإنه ﷺ كان أبعد الناس عنه, ولا يحوم حوله.
ومعني يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه؟ أنه كان ينظر فيما مدحه القرآن فيفعله, وفيما ذمه القرآن أو كان فيه سخط الله تبارك وتعالى فيجتنبه ويذب,وكان ﷺ مع القرآن, وقافاً عند حدوده, متأدبا بآدابه, عاملاً بأخلاقه, معتبراً بأمثاله وقصصه, متدبرا لآياته, كثير التلاوة للقرآن الكريم.
ترى من خلال هذا الكلام الذي سقته إليك, أيها الأخ الكريم كيف كان النبي ﷺ صورةً عمليةً واضحةً لما جاء في القرآن الكريم, من مبادئ وأخلاق, وكيف كان أفضل نماذج البشر قاطبةً, مجالسة للقرآن الكريم, وأصلحها جميعاً لتلقي هذا القرآن وتمثيله والتجاوب معه, ” الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ “(الأنعام 124).
ثالثا : حال النبىﷺ مع القرآن فى رمضان :
إذا كان هذا حال رسول الله ﷺ مع القرآن عموماً, فما ظنك بحاله مع القرآن في رمضان, الشهر الذي كان ينزل فيه جبريل عليه السلام فيعارضه ﷺ بالقرآن فيتلقى النبي ﷺ من جبريل ويقرأ عليه ويسمع منه, كان حال النبي ﷺ أفضل من حاله صلوات الله وسلامه عليه في غير رمضان, مع كونه ﷺ في كل الأوقات والأحوال, أكمل حالا وأعظم حالاً, وأعظم خلقاً, روى البخاري وغيره عن عبد الله بن عباس رضى الله عنها قال ” كان رسول الله ﷺ أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن, فلرسول الله ﷺ أجود بالخير من الريح المرسلة”, لا حظ هذه العبارة الأخيرة كان بعد لقاء جبريل له أجود بالخير من الريح المرسلة, وهكذا كان النبي ﷺ في كل رمضان, وكان ينزل جبريل كل رمضان فيعارضه القرآن, ويقرأ عليه القرآن, ويقرأ النبي ﷺ القرآن حتى إذا كان العام الذي توفي فيه النبي ﷺ عرض النبي ﷺ مع جبريل القرآن عرضتين وكان ذلك إيذاناً بقرب أجله ﷺ, كما جاء في الحديث عن فاطمة رضى الله عنها “قالت أسر إلىّ النبي ﷺ فقال إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة, وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي, وعلى هذه العرضة الأخيرة, وصل إلينا القرآن الكريم, محفوظاً بحفظ الله تبارك وتعالى: ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ “ (الحجر:9).
رابعا : واجبنا تجاه القرآن الكريم فى رمضان وغيره :
إذا كان هذا هو حال النبي المعصوم ﷺ مع القرآن, وهو الذي يتلقى من الوحي مباشرةً, فكيف يكون حالنا نحن مع هذا الكتاب الكريم, وبخاصة هذا الشهر الطيب المبارك الذي أنزل الله فيه القرآن ” شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ “(البقرة: 185).
نزل في خير ليلةٍ لقول الله تبارك وتعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ(القدر: 1). بل إن هذا الشهر هو الشهر الذي نزلت فيه معظم كتب الله تبارك وتعالى على الأنبياء, في هذا الشهر الكريم نزل جبريل بالقرآن إلى سماء الدنيا جملةً, ثم نزل به شيئاً بعد شئ على رسول الله ﷺ مفرقاً كما في قول الله تبارك وتعالى وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً(الإسراء:106).
أقول: كيف يجب أن يكون حالنا مع القرآن الذى نزل في هذا الشهر الكريم؟
إذا كنا نرى رسول الله ﷺ يفعل هذا مع كتاب الله تبارك وتعالى, إن سلفنا الصالح وهم قدوتنا وأسوتنا, كان لهم في هذا الشهر مع القرآن حالٌ, يختلف عن حالهم مع القرآن في سائر العام, مع كونهم لم يكونوا يتركون القرآن في يوم من الأيام, لا في هذا الشهر ولا في غيره, لكن لرمضان مزية على غيره, كانت تجعلهم يهتمون بقراءتهم وتلاوته وتدبره, والعمل به بصفة خاصة في هذا الشهر الكريم.
خامسا : بين الواقع والمأمول :
ثم خلف من بعدهم خلفٌ, أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات, واتخذوا القرآن مهجوراً, فتاه طريق العز من أقدامهم, وضرب الله عليهم الخزي والهوان, وسلط عليهم شداد الآفاق, هاهي الأمة تزداد كل صباحٍ, يقينا بأن هجرانها للقرآن هو سر تخلفها وتسلط الأمم عليها, فيجب على هذه الأمة أن توقن بأنه لا سبيل لها, لكي تتبوأ مكانتها اللائقة بها, ولكي تسترد سالف مجدها وغابر عزها, لا سبيل لها إلا بالرجوع إلى كتاب الله, تعلماً وتعليماً, وتلاوةً وتدريساً, وعملاً وتحقيقاً, وتطبيقاً وتنفيذاً, وتحكيماً للقرآن في حياتها على مستوى الفرد, وعلى مستوى الأسرة , وعلى مستوى الدولة, وعلى مستوى الأمة, وعلى مستوى العلاقات البينية بين الأفراد,والعلاقات العامة بين الأسر, والعلاقات بين المجتمعات, والعلاقات بين الأمة الإسلامية كدول مختلفة, والعلاقات بين الأمة وغيرها, يكون القرآن هو المنهاج الذي تسير على ضوئه لتصل إلى المجد الذي أراده الله لها, والعزة التي تطلبها, وصدق الله مولانا العظيم: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَ* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى(طه: 123, 127).
وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يعيد القرآن إلى حياة الناس واقعاً وتطبيقاً وشرعةً ومنهاجا,وأن يعيد الأمة إلى كتاب ربها وسنة نبيها عملاً وتحقيقاً وتطبيقاً ومنهاجا, وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا إلى العمل بالقرآن, ليكون شافعاً لنا يوم العرض عليه والوقوف بين يديه, وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم , وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
سؤال : أكمل الحديث «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ ……..» البخاري .
وصية عملية : اجتهد في تلاوة جزء من القرآن يوميا على الأقل .