الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
إن تذكرنا لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، إنما يكون للعبرة والعظة والتأسي،
لذلك ينبغي علينا أن نحاول جاهدين أن ننزل سيرته صلى الله عليه وسلم
المنزلة المستحقة والواجبة؛ ولنستدعي أحداثها دائمًا لتكون
لنا نبراسًا يضيء الطريق ويهدي الضال
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب).
فمن المعلوم أن من المعجزات التي أعطاها الله تعالى لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم-الإسراء وهو انتقاله من مكة المكرمة إلى بيت المقدس
ثم المعراج وهو عروجه إلى الملأ الأعلى ووصوله إلى الجنة،
والمقصود من هذه الرحلة المعجزة تكريم النبي وإطلاعه على عجائب خلقه.
فحادثة الإسراء والمعراج من أهم الأحداث التي مرت بالإسلام منذ نشأته،
وذلك لكونه حادثًا فريدًا يصعب على العقل البشري المجرد تصديقه..
وإذا لم يكتنف هذا العقل إيمان عميق لصعب عليه استيعاب هذا الحدث؛
لذا نجد أن من الصحابة من فتنوا في هذا الحادث،
وفي المقابل نجد أن من تشبع بالايمان وعاشه وعايشه قد تقبل الأمر ببساطة كبيرة كما فعل سيدنا- الصديق- أبو بكر .
وسنحاول هنا أن نتناول بعض العبر والعظات والتأملات لهذا الحادث الفريد
للذكرى عسى الله أن ينفعنا بها وأن نقتدي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته
ولنأخذ من هذا الحادث الدروس التي تعيننا على طريق الدعوة الطويل الشاق.
1) مكانة المصطفى صلى الله عليه وسلم :
فهذا الحادث قد أوضح وبصورة واضحة جلية مكانة النبي صلى الله عليه وسلم ورقيه لمكانة لم يرقَ لها أحد بهذه المعجزة العالية، ورقى مرقى لم ترقَ إليه الرسل والأنبياء جميعًا، ونال منزلةً لم ولن يحظى بمثلها أحد من أهل السماوات والأرض ، فهو خاتم وسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم .
وكما قال سبحانه وتعالى تكريمًا لنبيه المصطفى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فالعبودية لله هي أرقى درجات الكمال الإنساني، قال القشيري: لمَّا رفعه الله إلى حضرته السنية، وأرقاه فوق الكواكب العلوية، ألزمه اسم العبودية تواضعًا للأمة.
كما أنَّ في إمامته صلى الله عليه وسلم للأنبياء أكبر دليلٍ على مكانته الرفيعة وعلى كونه خاتم الرسل والأنبياء وعلى دور الإسلام وأمته في الشهادة على الناس ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.
وبنظرةٍ أخرى ودرس آخر في أثر هذه المكانة السامقة والمعجزة الفريدة عليه، هل تغيَّر من خُلقه شيء؟؟ من تواضعه.. من أدبه.. من حسن معاشرته للناس.. من تفانيه في الوفاء لرسالته.. هل تعالى على أحدٍ من المسلمين؟؟ هل ركن إلى هذه المنزلة العالية والمكانة الرفيعة السامقة ولم يبذل ويضحي من أجل رسالته ودعوته؟
أعتقد أن إجابة هذه الأسئلة واضحة لكل ذي لب، فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم برغم هذه المنزلة وتلك المكانة في قمةِ التواضع واللين في أيدي الجميع والأخذ بالأسباب وأعطى من نفسه وأهله أروع الأمثلة في البذل والتضحية .
2) الصبر والثبات :
فقد أعطى صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في صبره وثباته على الإيذاء من كفار قريش وجهالتهم عليه وما تضجر، بل صبر واحتسب .. كما صبر على فراق الأحبة الداعمين له ( أبو طالب وخديجة ) .
كما أن هذا الحادث الفريد كان اختبارًا لصبر وثبات وصدق المؤمنين، وتمحيصًا لصفِّهم وامتحانًا ليقينهم، ولثبوت العقيدة في وجدانهم، فالحدَث فوق مستوى العقول البشرية، يحتاج إلى مؤمن صادق الإيمان، لا يُزعزع من يقينه أشد الأحداث ولا أخطرها .. ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾.
3) تنقية الصف :
كما قلنا من قبل فإن الحدَث فوق مستوى العقول البشرية؛ لذلك نجد أن الإسراء والمعراج امتحانًا للمسلمين وتنقيةً للصف؛ استعدادًا لما هو آت .. فقد فُتِن بعض الذي أسلموا وارتدَّ مَن ارتد !
يقول الإمام “ابن كثير” فيما رواه عن “قتادة”: “انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكةَ فأصبح يخبر قريشًا بذلك، فذكر أنه كذبَه أكثرُ الناس، وارتدَّت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصدِّيق إلى التصديق .
فنجد أن الإسراء والمعراج حدث قُبَيلَ الهجرة إلى المدينة، وترك الديار والأهل والوطن؛ وتكوين دولة الإسلام؛ ليكون اختبارًا للمؤمنين وتدريبًا لهم على حسن الاستجابة لله عز وجل، فهي مرحلة جديدة، كلها جهاد وكفاح في سبيل الله، فهي مرحلة تحتاج إيمان ثابت إيمان لا تعبث به الدنيا ولا تزلزله الجبال إيمان قد استقام على حقيقة منهج الله عز وجل.
4) معية الله :
فالله عز وجل أوضح لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه معه وناصره ومعينه في أحلك الظروف وأنه لن يخزيه أبدًا، ففي ذات الرحلة عناية ربانية عظيمة.. وتجلت معية الله لنبيه حين طلبت قريش منه صلى الله عليه وسلم أن يصف لها بيت المقدس الذى جاءه ليلاً ولم يكن قد رآه من قبل يقول صلى الله عليه وسلم : “فأصابني كربٌ لم أصب بمثله قط“، فسوف يتهم صلى الله عليه وسلم بالكذب ولكن حاشا لله أن يترك نبيه ومصطفاه؛ يقول صلى الله عليه وسلم : فجلَّى الله لي بيت المقدس فصرت أنظر إليه وأصفه لهم باباً بابًا وموضعًا موضعًا.. ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ .
5) ثقة الجندي بقائده (موقف سيدنا أبو بكر) :
فقد كانت ثقة سيدنا أبى بكر في قائده ورسوله كبيرة وعظيمة بدرجةٍ لا تهزها أو تنال منها أي أحداث مهما عظمت، ففي هذا الموقف الذي ثبت فيه “أبو بكر” عندما كذَّب أهل مكة ما حدَّث به الرسول عن الإسراء لأعظم دليلٍ على هذه الثقة.
فقد أعلنها أبو بكر صريحة قال: ” أشهد إن كان قال ذلك فأنا أصدقه، إنا نصدقه في أعظم من ذلك، نصدقه في خبر السماء يأتيه وهو جالس بين ظهرانينا ” ، ولذلك كان هذا اللقب العظيم لقب الصديق على مَن يستحق ، وأصبح في أرض الله لا يعرف بهذا اللقب بعد أنبياء الله إدريس ويوسف عليهما السلام إلا أبو بكر الصديق صلى الله عليه وسلم .
6) الدعوة إلى الله أولاً وفي كل الظروف:
فهنا درس لكل صاحبِ هَمٍّ ولكل صاحب قلب مكلوم ألا يلتفت قلبه إلا إلى الله عز وجل ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هم الدنيا كلها ويحمل أمانة تنوء بها الجبال، كان يبحث عن رجال صُدق يعينونه في تبليغ أمر دعوة الله عز وجل بعد فقدان الزوجة الحنون والعم النصير ، ففي أشد فترات الحزن والأسي التي تعرَّض لها النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الطائف ، ليعرض نفسه عليهم ولكنها ردته ردًّا سيئًا ، فنجده يدعو الغلام عداس إلى الله ويعود بمكسب كبير أن هدى الله به واحدًا.. وهذا يذكرنا بموقف سيدنا يوسف داخل السجن، إنها نفس الروح والعزيمة والإرادة التي يبثها أنبياء الله في الأرض ليقتدي بها الناس جميعًا.
إنها روح الإصرار على تبليغ الرسالة مهما كانت العقبات ومهما كان التسفيه والنيل من شخص ومكانة الداعية ، فعلى الدعاة إلى الله عز وجل أن يبلغوا أمانة الله تعالى رضي الناس أم سخطوا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “ ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس” ، وإذا كان أنبياء الله عز وجل اتهموا بالكذب والسحر والجنون فليس غريبا بعد ذلك أن يتهم الدعاة إلى الله في واقعنا بالتطرف بالرجعية والتأخر .
7) وحدة رسالة الأنبياء :
وأنهم جميعًا يدعون لدينٍ واحدٍ ورسالةٍ واحدةٍ وهي الإسلام، فالكل جاء بالتوحيد الخالص من عند الله عز وجل، الأنبياء إخوة ودينهم واحد: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25] ، وكان أكبر رمز لذلك صلاته إمامًا بالأنبياء في المسجد الأقصى ، فلا نبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسالة: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: الآية 40).
8) مكانة الأقصى ودورنا تجاهه :
يجب أن يشغل بالنا اليوم أحوال المسجد الأقصى، وكيف نستعيده مرة أخرى، نستعيد ما ضاع منا من أرض فلسطين بمختلف الطرق والوسائل، هذا هو الأمر الحتم والهمُّ الكبير، فهذا هو بدء الطريق، وكل من سار على الدرب وصل، هذه ذكرى من الذكريات كريمة، وآية من آيات الله عظيمة ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37).