بقلم د. بشير نافع
انفجرت الأزمة الخليجية في 23 مايو / أيار الماضي، متخذة في البداية نمط الحملة الإعلامية، السعودية ـ الإماراتية، غير المسبوقة ضد قطر، لتتطور منذ 5 يونيو/ حزيران إلى جملة من إجراءات القطيعة والحصار. وليس حتى فجر 23 يونيو/ حزيران، وبعد ضغط أمريكي علني ومباشر، أن تقدمت دول الحصار بمطالبها من الحكومة القطرية. كتبت قائمة المطالب الثلاثة عشر، التي سرعان ما تم تسريبها لوسائل الإعلام، بلغة عربية ركيكة، ولكن بلكنة مهينة، إملائية، وتعجيزية، أيضاً. ولا يحتاج الأمر كبير تأمل لإدراك أن من وضع هذه القائمة لم يقصد التمهيد لحل تفاوضي للأزمة، بل لإطالتها. بمعنى، أن المطالب كتبت أصلاً لترفض. والمتوقع، بالتأكيد، أن تقوم الدوحة برفضها، حتى إن صاغت الرفض في إطار رد دبلوماسي.
فإلى أين تمضي الأزمة من هنا؟
ثمة ضرورة في البداية للعودة إلى بديهيات الأزمة، التي لابد أنها أصبحت أكثر بديهية بمرور الأسابيع. في جوهرها، لا تتعلق الأزمة بمسائل خلاف محددة بين دول الحصار وقطر، لا حول ادعاء صلات بتنظيمات إرهابية، ولا حول تدخل قطر في شؤون الدول الخليجية الأخرى. الهدف الحقيقي لإجراءات القطيعة والحصار التي اتخذتها الدول الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين، ضد قطر، هو استسلام الأخيرة، تركيعها، ووضعها تحت الوصاية. وليس في مجال السياسة الخارجية، وحسب، ولكن أيضاً في مسائل متعددة من سياستها الداخلية، سيادتها على مؤسساتها، وكيفية إدارة هذه المؤسسات.
ما توقعته دول الحصار والقطيعة الثلاث، عندما أطلقت الحملة الإعلامية ضد قطر، كان استسلاماً قطرياً سريعاً. ولكن، وبعدما اتضح أن توقعات الاستسلام كانت متسرعة ومبالغاً فيها، أعلنت إجراءات 5 يونيو/ حزيران، التي أسست للقطيعة والحصار. ولم يكن هناك أية خطة في الدول الثلاث لتقديم مطالب محددة من قطر. من كان لديه مطالب، لا يذهب للحصار والقطيعة، أولاً، ثم ينتظر ما يقارب الأسابيع الثلاثة لتقديم هذه المطالب. الحقيقة، أن الدول الثلاث اضطرت لإعداد قائمة المطالب بفعل الضغوط الأمريكية، التي وصلت إلى حد تصريح وزير الخارجية الأمريكي بنفاد صبر واشنطن من أسلوب الدول الثلاث في إدارة الأزمة.
ولم يكن هناك من جهد لإخفاء حقيقة قائمة المطالب: هذه قائمة لم يقصد بها إطلاق عملية تفاوضية لحل الأزمة، بل تركيع الدوحة واستسلامها، الهدف الحقيقي للأزمة منذ اندلاعها.
الآن، وحتى إن تعاملت الدوحة مع القائمة بجدية ورصانة، وقررت أن تقدم ردها للوسيط الكويتي، فلابد أنها سترفض المطالب التعجيزية التي ضمتها، ليس فقط لأنها تمس بالسيادة، وهي كذلك بالفعل، ولكن أيضاً لأن أغلبها غير واقعي، ولا يستند إلى قرائن وأدلة. وهذا ما توقعته، مصيبة هذه المرة، دول الحصار، التي يصر مسؤولون بها على استمرار الأزمة، واستمرار إجراءات القطيعة والحصار. ولكن الواضح أيضاً أن دول القطيعة والحصار لم يعد لديها من أدوات إضافية للتصعيد.
كان الخيار العسكري مستبعداً من البداية، ولكنه أصبح أكثر استبعاداً بعد مرور شهر كامل على اندلاع الأزمة، ومعارضة أوروبا والولايات المتحدة، من ناحية، وتمركز قوات تركية في قطر، من ناحية أخرى. كما أن محاولات تشكيل حشد عربي وإسلامي واسع النطاق في مواجهة قطر قد فشلت، بعد أن رفضت كافة دول المغرب العربي، الكويت وعمان، السودان وأثيوبيا وإريتريا والصومال، إضافة إلى باكستان وإندونيسيا وماليزيا، الالتحاق بمعسكر القطيعة والحصار.
قطر، بالطبع، وبالرغم من الآثار الإنسانية المؤلمة، ستستطيع الصمود في مواجهة الحصار، سيما بعد أن تحركت تركيا، وتبعتها إيران، ثم عدد من الدول العربية، للمساعدة في التعويض عن النقص في بعض السلع الاستهلاكية، سيما تلك التي كانت تستورد من السعودية، أو عبر الحدود البرية معها. بغير ذلك، فحاجة قطر لدول الحصار ليست بالحيوية. ولكن، وإلى جانب الآثار الاجتماعية والإنسانية، ستكون عواقب إطالة الأزمة فادحة، سواء على مستقبل مجلس التعاون الخليجي، على المواجهة مع إيران، أو على الدور الذي تطمح له السعودية في الخليج والإقليم.
ليس ثمة شك أن الكويت وعمان راقبتا الأزمة، منذ البداية، عن كثب وبقدر كبير من القلق. تحركت الكويت بصورة سريعة للتوسط، وحاولت عمان لعب الدور نفسه؛ ولكن الدولتين أدركتا أن قطر ليست سوى هدف أولي، وأن استسلام قطر، يعني أنهما ستكونان الهدف التالي. ولذا، وبالرغم من أن عمان أبدت انحيازاً أوضح لقطر وتعاطفاً أكبر مع موقفها، فالواضح أن مجلس التعاون بات منقسماً إلى كتلتين، السعودية والإمارات والبحرين، في جانب، وقطر وعمان والكويت، في جانب آخر. في ظل هذا الانقسام، سيفقد مجلس التعاون أية فعالية أو قدرة على تنسيق السياسات، كما ستتوقف عجلة التنمية المشتركة في دول المجلس ومعها حركة رؤوس الأموال. إلى درجة كبيرة، يمكن القول أن مجلس التعاون، الذي كان آخر منظومة عربية حافظت على البقاء
والتماسك، يمضي الآن بخطى متسارعة نحو الانهيار. وحتى إن تم احتواء الأزمة الراهنة، بصورة أو أخرى، فمن الصعب استعادة مستوى الثقة السابق بين أعضاء المجلس، سيما أن خلافات السعودية والإمارات أكثر بكثير من توافقاتهما، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن التحالف الحالي بينهما سيستمر طويلاً.
وتتعلق النتيجة الثانية للأزمة بما تراه السعودية، وليس الإمارات بالضرورة، أولوية أولوياتها الإقليمية: التعامل مع التوسع الإيراني في المشرق. وليس ثمة شك أن المهرجان الكبير الذي أحاطت به الرياض زيارة الرئيس ترامب، قبل أيام قليلة فقط من اندلاع الأزمة، كان هدفه الأبرز بناء صورة جديدة لحشد إقليمي ودولي في مواجهة إيران؛ والتوكيد على عودة العلاقات الأمريكية ـ السعودية إلى عهدها الذهبي، والتلويح بالتزام واشنطن لعب دور فعال في المواجهة مع إيران. بانفجار العلاقات الخليجية ـ الخليجية، لم تعد كل من الكويت وعمان فقط الحريصة على توكيد استقلالها عن السياسة السعودية، بل وقطر أيضاً. وإن كان من الممكن، وربما المحتمل، بناء تحالف استراتيجي خليجي للوقوف أمام النشاطات الإيرانية في اليمن، أو البحرين، وإلى حد ما في سوريا والعراق، أصبح الأكثر احتمالاً الآن بحث كل من دول الخليج عن ترتيباتها الأمنية الخاصة، ترتيبات أكثر مدعاة للثقة والاطمئنان، ولا تتعرض لتقلبات ساعات الفجر المفاجئة. في المقابل، لابد أن القلق الذي أحدثه مهرجان القمم الثلاث مع ترامب في طهران قد تبدد الآن كلية.
محصلة ذلك كله ستتجلى في فرض تراجع ملموس على طموحات السعودية في لعب دور قيادي، خليجي وعربي. لا يعني هذا، بالتأكيد، أن السعودية ستفقد ثقلها، الذي يرتكز إلى معطيات الموقع والتاريخ والمقدرات المالية الهائلة. السعودية لن تصبح يمناً، مثلاً؛ ولكن الطموح المتعاظم لدى السعودية، الذي تعتبر الأزمة الراهنة ذاتها تعبيراً عنه، في قيادة الخليج والمشرق العربي، وإعادة بناء النظام العربي من جديد، لم يعد ممكن التحقق. في الخليج، كما في عدد ملموس من الدول العربية، بدت السعودية، في الأسابيع القليلة الماضية، أكثر عدوانية مما يفترض بالشقيق الأكبر، أقل حكمة مما يؤمل من صاحب الأمر، وأبعد عن التوقع مما يجب أن تكون عليه القوة التي تقود.
|