تأليه الناس أسرع الطرق إلى الإفلاس

السعيد الخميسي :

* جرت العادة فى عالمنا الثالث نحن العرب والمسلمين على تقديس المسؤولين لدرجة تصل أحيانا لحد التأليه , سواء كان هذا المسؤول صغيرا أم كبيرا . فبمجرد ما يتبوأ المسؤول مقعده حتى لو كان مديرا لحضانة أطفال صغيرة فى قرية نائية لا تطلع عليها الشمس بنهار ولا يراها قمر بليل , إلا وتجد المنتفعين وشلة المنافقين الذين يرقصون فى كل الموالد ويسيرون فى كل المواكب ويأكلون على كل الموائد يلتفون حول هذا المسؤول – بصرف النظر عن أهمية موقعه- التفاف السوار حول المعصم , يزينون له سوء عمله فيراه حسنا . إذا تحدث فكلامه  إليهم أرفع من السماء  , وأحلى من الشهد وأزكي من الورد, خطؤه صواب , وسيئاته حسنات , وقوله مقبول يرفع مجلسه ولا يمل حديثه . كلامه توصيات , ونصائحه تعليمات , وأنفاسه خطة عمل تحدد ملامح المستقبل وتعالج أخطاء الماضي الذي انقضى وفات . ناهيك عن برقيات التهاني التي تملأ الصحف والشاشات ونواصي الحواري والشوارع والطرقات . وإن تعجب فعجب تصرفهم وسلوكهم إذا خرج نفس هذا المسؤول من منصبه لأى سبب كان , فلا تجد من يصافحه ويلقى عليه السلام ويبادله أطراف الكلام وكأنه من مخلفات الزمان  !. هذه عادات قبيحة ومواقف ذميمة وتصورات دنيئة تفسد المسؤول وتجله ينفش ريشه كالطاووس ينظر إلى من هم دونه فى السلم الوظيفي وكأنهم سقط متاع لاحق لهم غير السمع والطاعة وتنفيذ تعليمات جناب سيادته حتى ولو كانت تافهة وفارغة وخاوية على عروشها .

* وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا أتاه فكلمه فجعل ترتعد فرائصه  فقال صلى الله عليه وسلم له : هون عليك, فإني لست بملك, إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ” أو كما قال صلى الله عليه وسلم . وهذا يدل على قمة تواضع الرسول الكريم مع أنه نبى مرسل من الله عز وجل وليس مجرد شخص عادى تم تعيينه فى إحدى المواقع العامة الهامة فى مفاصل الدولة . يقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : “بلغني أن كثيراً من المدرسين يأمرون الطلبة بالقيام لهم إذا دخلوا عليهم الفصل ولا شك أن هذا مخالف للسنة الصحيحة . وعن  أنس رضي الله عنه قال : ” لم يكن شخص أحب إليهم – يعني الصحابة رضوان الله عليهم – من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا لا يقومون له إذا دخل عليهم لما يعلمون من كراهيته لذلك ”   إن مجرد القيام لشخص ما لتعظيمه وتبجيله أمر مكروه شرعا ولاسيما إذا كان هذا الشخص يحب من يقف له ويعظمه ويغضب ممن لايفعل له ذلك إرضاء لغرور نفسه . فما بالكم بالذين يؤلهون ويقدسون المسؤول لمكانته الوظيفية وليس لشخصه أو مكانته العلمية ؟. إننا نحن العرب والمسلمين نعانى فى كل لحظة من انتشار ظاهرة النفاق انتشار النار فى الهشيم بين طوائف وشرائح المجتمع . ظاهرة تأليه وتفخيم وتعظيم المسؤول حتى ولو لم يكن كفأ فى عمله ومنتجا فى وظيفته . أنها كارثة هبطت على عالمنا الثالث فأصابت المجتمع بالإفلاس والعقم  .

* وهاهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يخرج من المسجد “والجارود ألعبدي” معه، فبينما هما خارجان إذ بامرأة على ظهر الطريق، فسلم عليها عمر فردت عليه السلام، ثم قالت: رويدك يا عمر حتى أكلمك كلمات قليلة. قال لها: قولي. قالت: يا عمر عهدي بك وأنت تسمى عميرًا في سوق عكاظ تصارع الفتيان، فلم تذهب الأيام حتى تسمى عمرًا، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فقال الجارود: هيه، قد اجترأت على أمير المؤمنين، فقال عمر: دعها، أما تعرف هذه يا جارود؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، فعمر أحرى أن يسمع كلامها . ويقول حذيفة : دخلت على عمر فرأيته مهمومًا حزينًا، فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيمًا لي. فقال حذيفة: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك. ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحابًا يقومونني إذا اعوججت  .  وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: رأيت عمر بن الخطاب على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغبي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة؛ فأردت أن أكسرها. وقيل أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فقال : أنى كنت أرعي الغنم لبنى فلان على قراريط  وكنت كذا وكذا ثم بكى ونزل فقال عبد الرحمن بن عوف مازدت على أن أذريت لنفسك قال : إن نفسي حدثتني بالخلافة فأردت أن أؤدبها .

* نحن اليوم فى أوطاننا نعانى أشد ما تكون المعاناة من جرثومة التعظيم والتبجيل والتقديس للأشخاص الذين هم فى موضع المسؤولية , مع أن هذه المسؤولية في الأصل تكليف وليست تشريفا لهم . وقد تغلغلت هذه الجرثومة فى بلادنا فعطلت الإنتاج , وجعلت السيئات حسنات , والناقص كاملا , والأعمى بصيرا , والأعرج سليما , والمريض السقيم صحيحا سليما على غير الواقع الملموس . كما أنها جعلت الناس يشعرون أن رحم المجتمع عقيم وغير قادر على ميلاد كفاءات أخرى أكثر نضجا وفهما وعلما وإنتاجا  . وكأن المجتمع أصيب بالإفلاس .  إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن لينتظر لكى يعظمه الناس تكريما لمنزلته بصفته أمير المؤمنين . بل انه كان يقوم بمبادرة فردية ذاتية من تلقاء نفسه لكسر حدة الغرور وشهوة التعالى وقتل جرثومة الكبر إذا شعر أن نفسه حدثته يوما ما بأنه أمير المؤمنين وأنه فوق البشر منزلة والاهم مكانة ومقاما . وإلا فما الذي يجبره وهو أمير المؤمنين إن يصعد المنبر ويحقر من شأن نفسه ويذكر الناس أنه كان يرعى الغنم ؟ حتى أن الصحابة رضوان الله عليهم استنكروا عليه هذا السلوك  . إلا أن عمر رضي الله عنه ذكرهم بحقيقة النفس البشرية وإنها لابد أن تؤدب بتذكيرها بأصل نشأتها حتى لا تطغى وتنظر من فوق رأس جبل فترى الناس كلهم صغارا .

* إننا نعيش اليوم عصر النفاق الممجوج والمصطلحات الفخمة والألفاظ المهيبة على طريقة : أصحاب الجلالة والفخامة والزعامة والمقام الرفيع وكأنهم أنصاف آلهة . ولعل هذه الألفاظ تطلق على أقوام أرضهم محتلة وأحوالهم مختلة وشعوبهم معتلة  ولا يستطيعون حتى تحرير تراب وطنهم من المحتل الغاصب , فأين إذا الفخامة والجلالة والزعامة ؟. ولعل النفخ الزائد فى النفس البشرية يؤدى إلى هلاكها وفنائها ونهايتها . يقول الشاعر : قد يهلك الإنسان من كثرة ماله .. كالطاووس يذبح من أجل ريشه . فالمال والسلطة والنفوذ والمناصب الرفيعة قد يستغلها المسؤول أحسن استغلال ويوظفها لخدمة قومه وشعبه وبنى وطنه . وقد يسئ استغلالها ويوظفها أسوا ما يكون لصالح فئة قليلة منتفعة ومتسلقة كنبات ” اللبلاب ” لا ترى المسؤول إلا ملاكا طاهرا لا يخطئ ولا يجب أن يخطئ من وجهة نظرهم لان هؤلاء المسؤولين وصلوا إلى درجة الذين لا يسألون عما يفعلون وكأنهم حاشى لله آلهة . ولست فى كل ما سبق ذكره أريد من الناس أن يحتقروا المسؤولين ويقللوا من شأنهم ويحتقروهم , فلست أبغى ذلك إطلاقا . فإنزال الناس منازلهم واجب شرعي وذوق اجتماعي دون مبالغة أو زيادة أو نفاق أو طبل وزمر بغية التقرب زلفى لهذا المسؤول أو ذاك لتحقيق مآرب شخصية ومنافع ذاتية .

* إن المسؤولين كبارا كانوا أم صغارا لم يرثوا تلك المناصب كابرا عن كابر , ولكن بينهم وبين الدولة عقد معقود وشرط مشروط بزمن محدود . هم أجراء عند الشعب وليسوا أمراء عليه . إن أحسنوا شكرناهم وكافأناهم , وإن اساؤوا أقلناهم حتى يخلوا أمكانهم لمن هم أكفأ منهم . إن تقديس وتأليه المسؤولين هو دليل الإفلاس الخلقي والعلمي والمجتمعي   . كما أنه الطريق السريع ذات الاتجاه الواحد لتخريب مؤسسات المجتمع من أى كفاءات وليدة شابة تنتظر دورها فى القيادة والتوجيه . إن النفس البشرية إذا انتفخت وانتفشت وتضخمت أصابها الورم الخبيث فى عقلها فلا تفكر إلا فى ذاتها , ولا تشعر إلا بحالها , ولا تسمع إلا نفسها , ولا ترى إلا حسناتها . ومن هنا تنشأ الديكتاتورية والتسلط والبغي والعدوان والغطرسة والكبر . نريد مجتمعا صلبا قويا متوازنا يعرف كل واحد فيه ماله وما عليه دون زيادة أو نقصان أو تهويل أو تهوين أو تحقير أو تعظيم . يقول ربنا عز وجل ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا ” ما أجمل الوسطية فى حياتنا اليومية . ولكن للأسف افتقدناها اليوم فى عالم غلب عليه النفاق والشقاق وسوء الأخلاق إلا من رحم ربك . الله أسأل العفو والعافية فى الدين والدنيا والآخرة .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...