قضية “الوعي” هى معركة الأمة الخالدة

السعيد الخميسي:

 

* قد تمتلك أمة من الأمم مناجم كبيرة من الذهب والفضة , وقد تمتلك آبارا غنية بالبترول , وقد تمتلك ثروات معدنية هائلة , وقد تمتلك موقعا جغرافيا متميزا , وقد تمتلك رصيدا هائلا من العملة الصعبة , وقد تمتلك ثروة شبابية هائلة . ولكن كل ذلك فى لحظة واحدة , ربما يكون هباء منثورا لا قيمة له ولا أثر. والسبب أن كل ماسبق ذكره من ثروات طبيعية وبشرية لا تستفيد منه تلك الأمة ولا يدفعها إلى طريق التقدم والرقى , كالعيس فى البيداء يقتلها الظمأ , والماء فوق ظهرها محمول . وقد تكون هناك أمة لا تمتلك شيئا مذكورا مما سبق ذكره , ولا أصغر من ذلك ولا أكبر , غير أنها أمة غنية قوية يعمل لها العدو قبل الصديق ألف حساب . السبب هنا أن تلك الأمة تمتلك الكنز الاستراتيجي الذي لا يفنى ولا يعطب ولا يصدأ بمرور الزمان وتوالى الأيام , إنه كنز ” الوعى “. هذا الكنز أكثر قيمة من الذهب والفضة . سلاح الوعي أقوى تأثيرا من كل الأسلحة الحديثة . أمة تمتلك سلاح الوعي , أمة لا تهزم ولا تقهر ولا تحتل ولا تتأخر ولا تتسول رغيف خبزها من أحط الأمم وأضعفها . أمة واعية مدركة للأخطار التي تحيط بها , هى أمة صلبة متماسكة ليس فى بنيانها ثقوب , ولا فى حياتها كروب , ولا فى شمسها غروب , الوعي فى حياة الأمم والشعوب كشجرة الزيتون لاينمو سريعا , ولكنه يعيش طويلا . فهيا جميعا نهيأ التربة الخصبة لغرس هذه الشجرة الذهبية المورقة المثمرة فى أوطاننا .

* إن الوعي  هو الصفة التى يتميز بها الإنسان عن الحيوان. الوعي  كما قيل هي كلمةٌ تعبر عن حالة العقل والإدراك . ونوافذ الوعي عند الإنسان السليم هى حواسه  الخمس . والوعي مرتبط بسلامة وصحة هذه الحواس . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :” نضر الله امرأً سمع مَقالَتي فوَعاها، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوعى من سامِع” ويقول الحق عز وجل :” لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ” يقول قتادة : أذن سمعت وعقلت ماسمعت . وقال الضحاك :” سمعتها أذن ووعت أى من له سمع صحيح وعقل رجيح وهذا عام فى كل من فهم ووعى . ” . فلا يمكن للإنسان أن يعقل ويفهم دون أن يسمع بوعي كامل وإدراك شامل . نحن فى حاجة ملحة إلى الوعي الديني الحقيقي وليس المزيف ,الوعي الذي يحمل المرء على العمل والتفاؤل وعمارة الوجود انطلاقا من قول الحق عز وجل ” أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم ألينا لا ترجعون ” فالله لم يخلقنا عبثا دون هدف معلوم . إن الوعي الديني يجعل المرء يدرك أن الله خلقه للبناء والإصلاح وليس للفساد والإفساد والطغيان فى الأرض . الوعي الدينى يجعل المرء يفهم حقيقة رسالته فى الحياة وكيف يحققها بتقديم الأهم على المهم , والممكن على المستحيل , والسهل على الصعب . الوعي الدينى ليس شعارات ترفع , أو يافطات تعلق , أو منشورات توزع , أو خطبا تلقى , إنما هو منهج حياة وخطة عمل ودراسة عميقة لمنهج الإسلام قولا وعملا ,نافلة وفريضة , فقها وشريعة . الوعي الديني مسؤول عنه الجميع من خبراء وعلماء ومفكرين ومشايخ ودعاة وكتاب ومعلمين وكل مؤسسات الدولة التى تعى وتدرك حقيقة رسالة الإسلام

.

* إن أول خطر يهدد أمن وسلامة واستقرار وتقدم ورقى أى مجتمع هو الوعي الزائف . أصبح هذا الوعى الزائف له مجتمعه وأهله وخبراؤه وعلماؤه ووسائل إعلامه ومؤسساته  .  قد يتم صناعة هذا الوعي الزائف وتضليل العقول والإفهام  باسم الدين والدين منه براء , فضلا عن المناهج الدراسية والتربوية التى تدرس فى المدارس والمعاهد والجامعات لتضليل الأجيال, جيلا تلو الآخر لتخريج جيلا لاعلم له ولا ثقافة ولادارية حتى يسهل التحكم فيه . يكون الوعي وعيا زائفا، وذلك عندما تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع من حوله، فهو فى جانب والمجتمع فى جانب آخر , هو فى حال والمجتمع فى حال آخر . إن الأدوات والوسائل القمعية تلجأ فى الغالب إلى خلق حالة من الخوف والرعب داخل أى مجتمع لتفكيكه دينيا وسياسيا وذلك لتسهيل مهمتها فى إحكام قبضتها على رقبة المجتمع حتى لايتنفس هواء نقيا . ففى النظم المستبدة على مدار التاريخ يكون الشعب هو الضحية وهو المجنى عليه . يسمع فى الصباح أرقاما ثم يسمع فى المساء ما يناقضها ويخالفها . وهكذا يعيش الشعب أو الأمة فى حالة شتات عقلى , لايعلم الصواب من الخطأ والحق من الباطل . إن نشر الوعي الزائف يفكك المجتمع إلى طبقات متناحرة، متشككة، متحاربة على المصلحة الخاصة، وتفسد لديها روح الأمل والعمل . والوطن فى النهاية هو الذى يدفع الثمن باهظا من تاريخه ودمه وثرواته .

* وهناك وعى لايقل خطورة وأهمية عن الوعي الديني , ألا وهو الوعي السياسي . ذلك النوع من الوعي يجعل الفرد يشعر بذاته وأنه مواطن من الدرجة الأولى وليس عبدا مملوكا تابع لسيده , يسمع فيطيع ولايملك حق المناقشة فضلا عن الاعتراض . يشعر بهذا الوعى أن كل المواطنين متساوون فى الحقوق والواجبات لا فرق بين غنى وفقير أو وزير وغفير أو حاكم ومحكوم . وأن حق المواطنة مكفول بالقانون والدستور . وان كل المواطنين لهم حق معلوم من الدخل القومى للبلاد لاينفرد به نفر قليل من الشعب . هذا الوعى يجعله يعلم أن له صوتا انتخابيا , وأن تزوير هذا الصوت جريمة يحاسب عليها القانون . إن أهمية الوعي السياسي تنبع من أهمية وخطورة ” السياسة ” في حياة البشر . إن ثقافة أي مثقف لا تكتمل إلاَّ باكتمال وعيه السياسي.  وان الثقافة الدينية والسياسية  لهما خطورتهما فى تشكيل وعى المجتمع . فكلما كان الوعي السياسي العام في المجتمع قويا، كلما كان الفساد ضعيفا أو منعدما . فالفساد السياسي كالحوت الذى يبلع ثروات البلاد وخيراتها , لذلك فى الدول المتقدمة تجد أدوات الرقابة والمحاسبة قوية , ولا أحد فوق القانون والنا س سواسية كأسنان المشط . أما فى عالمنا الثالث المتخلف فتجد المجتمع غارقا حتى أذنيه فى مستنقع الفساد والمحسوبية والمجاملة ونهب الأموال وسرقتها , فضلا عن الغش والتزوير والكذب والنفاق والشقاق وانتهاك حقوق الإنسان .

* لقد عبر التاريخ الإسلامي عن وعي رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله . وقال علماء السيرة أن ذلك الوعى  يتمثل فى وضوح الهدف في كل خطوة من خطواته , فصاحب الرسالة , يحمل أمانة , ولم يكن ليفرط في ذلك في لحظة من اللحظات . فلم يكن يوما مغامرا طائشا يندم على سلوك تعجل فيه , ولم يكن يوما مستكينا مترددا حائرا يطمع أعداؤه في إفنائه والقضاء عليه , بل كان محركا للأحداث أجمعها , مستفيدا من أخطاء أعدائه , صاحب تصورات جديدة في الإدارة والتنظيم والتخطيط .   كذلك الوعي فيما يخص المعرفة الدقيقة والشاملة بقوة فريقه الذاتية , من حيث العدد والعدة , والإمكانات والظروف , ومدى طاقتهم وقدراتهم , حتى لا يبنى خطته في لحظة من اللحظات على معطيات خاطئة أو ناقصة فيتعرض للفشل . كما وعى الأخطار التي ينتظر أن تواجهه , والعقبات التي ربما تعترض سبيله ومن ثم أعد لها ما يناسبها من خطط. لقد كان حليما حكيما , يكثر الاستماع والتفهم والإدراك , ذكيا عبقريا , يحسن التفسير والاستيعاب , فكان يضع المعلومات كلها بجانب بعضها البعض , الصغير منها والكبير حتى تتضح له معالم الخريطة كاملة فيقرر مايريد وفق معلومات دقيقة وصحيحة . وليس وفق عاطفة هوجاء عاصفة تقود إلى اتخاذ مواقف  متسرعة ضررها أكثر من نفعها .

* لقد كان وعى الرسول صلى الله عليه وسلم شاملا ومتكاملا , يتمثل فى عدة محاور يكمل بعضها البعض . منها الوعي بالخطط البديلة وقت المعارك والأزمات , والوعي بنفوس الأفراد , والوعي ببناء المكان , والوعي ببناء المجتمع , والوعي بمخاطبة الملوك والرؤساء . وتمثل الهجرة للحبشة قمة الوعى بالخطة البديلة ,  ونقطة هامة تمثل أعلي درجات الوعي واليقظة عند رسول الإسلام . فلم يكن الهدف منها هو التخلص من الإيذاء فحسب . ولكن الأمر كان أبعد من ذلك وأعمق , وإلا لهاجر الضعفاء والعبيد , كأمثال بلال وخباب وصهيب وعمار وغيرهم, ولكننا نجد أن المهاجرين كان معظمهم من السادة من أبناء البيوت العريقة , مثل الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وأبي سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وأبي طالب بن عبد المطلب وسعيد بن العاص , وهؤلاء هم سادة قريش وصفوتها , إن اختيار المهاجرين كان وفق قاعدة معلومة ومحددة سلفا وليس عملا عشوائيا غير منظم . وحرص صلى الله عليه وسلم أن يشارك بأبنائه في الهجرة , فالقائد لا يلقى بأتباعه في الأزمة ويخرج منها سالما , بل سافرت معهم ابنته رقية وزوجها عثمان بن عفان  . لقد كان الهدف الأول  من هجرة الحبشة هو إقامة قاعدة أخرى للدعوة في مكان غير مكة ,تحسبا لاحتمالية تعرض القاعدة الأولى له في مكة لخطر الاجتياح ومن ثم الإبادة الجماعية .

* ثم كان هناك وعى من نوع آخر يتمثل فى وعى البناء . بناء المجتمع الجديد على أسس متينة وقوية . كانت المدينة عند الهجرة قليلة الموارد , وبعد الهجرة وفد عليها أضعاف عدد سكانها ليقيموا مع أهلها بصورة دائمة     ,   فكان لابد من بناء اجتماعي محكم لكى يتجنب ويتحاشى كل ما يتوقع من مشكلات , فحقق نظام ” المؤاخاة ” بين المهاجرين والأنصار الذي أذاب الفوارق بين الفريقين وجعلهم لحمة واحدة , بل وأمة واحدة يتقاسمون فيما بينهم  ما يملكونه من مال وعقارات وزوجات دون شح متبع أو هوى مطاع . أى وعى اجتماعي أعظم من هذا ؟ . ولم يكتف بهذا بل حقق قيمة العدل والتى لا يمكن التنازل عنها في بنائه للدولة , وخاصة أن الدولة منقسمة أصلا إلى فئتين أصحاب الأرض , والوافدين ,  و أية محاباة لطرف على طرف ستؤدي حتما إلى انهيار الدولة , والى تفجر صراع داخلي فيها وقد تصل إلى حرب طائفي لا تبقى ولا تذر . والذي يعصم من ذلك كله هو إقامة العدل بين أبنائها , فالعدل أساس الملك كما يقولون . إنه الوعي الذي يتمثل فى تأسيس صرح العدالة عاليا خفاقا . وقبل ذلك بنى المسجد ليكون البوتقة الإيمانية التى تنصهر فيها كل الفوارق الفردية ليكونوا صفا واحدا .
*    ولا نتجاهل أو ننسى الوعي بالنفوس البشرية  . ففى غزوة مؤتة حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر علماء السيرة ترتيب القادة , فقال : إن قتل زيد فالأمير جعفر بن أبي طالب ,  ثم قال : فإن قتل جعفر فالأمير عبد الله بن رواحه ,  فان قتل فليختر المسلمون منهم رجلا , إنه لم يذكر خالدا حتى بعد أن قال إن قتل ثلاثة أمراء وكأن خالدا ليس في الجيش  .  فهل يتحمل ذلك الفارس القائد أن يكون تابعا لثلاثة أمراء هم أقل منه كفاءة وخبرة وشهرة وقدرة ؟ وحتى لم يذكر اسمه بعدهم ؟! وتحمل خالد , وأثبت أن ولاءه للإسلام أعظم من ولائه لنفسه , وأنه قد تغيرت أفكاره , وتبدلت أحواله , وقد هذب أخلاقه الإسلام , وبالفعل قتل الأمراء الثلاثة , واخذ الراية رجل , ودفعها لخالد , فأبي .. فقال له والله ما أخذتها إلا لك , وقام الرجل خطيبا في الجيش يحثهم على اختيار خالد , فاستجابوا له واجتمعوا عليه , وقاد خالد الجيش في خطة عسكرية باهرة للعودة للمدينة , العودة بثلاثة آلاف من بين براثن مائتي ألف من جنود الروم , ولم يقتل من المسلمين إلا إثنا عشر رجلا .  إنه الوعي الاستراتيجي بنفوس أصحابه واختيار الرجل المناسب فى المكان المناسب بلا محسوبية أو مجاملة لأحد على حساب أحد .
* ثم كان هناك الوعي فى خطاب الملوك والزعماء, فيرسل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء في العالم من حوله داعيا إياهم إلى الإسلام , ولكنه تخير أولا من يرسل له , فاختار النصارى , لأنهم أهل كتاب , يؤمنون بالله واصل دينهم الحق يتفق مع الإسلام , ولهذا من الممكن أن ينطلق من أرضية واحدة مشتركة وهي عبادة الإله الواحد , فأرسل إلى النجاشي رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام . بدأ بالملوك الذين بينهم وبينه عوامل مشتركة أو أرضية إيمانية مشتركة ألا وهى عبادة الله . إن ثقافة ومنهج الوعي أمر جد خطير وعميق ولا يتحقق بين عشية وضحاها . بل يحتاج إلى صبر كبير ونفس طويل  وقادة عظام.  إن أمة تعانى من نقص الوعي أفرادا وقادة , أمة متناحرة متأخرة عن ركب الحضارة والتقدم . وإن أمة واعية بأفرادها وقادتها هي أمة لا تغلب ولا تهزم ولا تقهر ولايقدر عدوها على إذلالها فضلا عن احتلالها واستحلال عرضها . إن الوعي هو الكنز الاستراتيجي الذي لا يفنى بأى حال من الأحوال مهما طال الزمان .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...