الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
أيها الأخ الكريم ….كثيرًا ما افتتح النبي كلامه بسؤال وجّهه لصحابته رضوان الله عليهم، لينبههم ويرشدهم إلى ما يصلح حالهم ومآلهم, وكثيرًا ما كانت الإجابة ( الله ورسوله أعلم ) طلبًا لمعرفة مراد الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقد روى الإمام مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: الغيبة ذِكرُك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال عليه الصلاة والسلام إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه ”
وفي هذا الحديث معالجة لداء خطير وشر مستطير، إذا تُرك بلا علاج انتشرت الفوضى بين الناس, وشاعت الفاحشة في أوساطهم, وصار الناس ينهش بعضهم أعراض بعض..إنه داء الغيبة..الذي عرَّفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ” الغيبة ذكرك أخاك بما يكره”.
والغيبة دليلٌ على نقصٍ كبير في نفسية المغتاب وعقله, لقد عَجِز عن مواجهة صاحبه بما فيه من عيب إما ناصحًا وإما زاجرًا, فإذا به ينفّس عما في صدره بعيدًا عن أخيه الذي يقع في عرضه , وينسى أن الله تعالى مطلع عليه يسمعه ويراه ويكتب ما يقول..
والمغتاب ـ أي الذي يقع في الغيبة ـ ليس وحده الذى يحمل الأوزار؛ وإنما يشاركه في ذلك جليسهُ الذي أصاخ له السمع, وتجاوب معه, ونسى هؤلاء أنهم مسئولون عن جوارحهم ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) [الإسراء 36].
فحين تجالسُ ـ أخي المستمع ـ إنسانًا على هذه الشاكلة فأغلق أمام فمه كلَّ الأبواب المشَرعة للكلام إلا في الخير( فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) ولو علم المغتاب الذي يتتبع عورات المسلمين أن الجزاء من جنس العمل, لَكَفَّ عن هذا الفعل القبيح… فقد ورد في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( يامعشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه, لا تغتابوا المسلمين, ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم, تتبع الله عورته, ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته) أو قال: ( وإن كان في سُترة بيته)(33).
إن من حق المسلم على أخيه المسلم أن يحوطه بسياج من السَّتر وأن يدفع عنه عيون الغدر وألسنة الشر, أما أن يتتبع عورة أخيه وينشرها بين الناس, فلعمُر الله إنه للسَّفهُ بعينه.
أخى الحبيب ..
لقد صور القرآن الكريم الغيبة طعاماً كريهاً من لحم يَعَافُ الأسوياءُ الاقترابَ منه فقال تعالى: (ولا يغتبْ بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه مْيتا فكرهتموه) [الحجرات 12] إنها صورة بشعة منفّرة من الغيبة التى جعلها القرآن بمنزلة أكل لحم الأخ مْيتًا فإذا كان أكل لحم الإنسان مكروها بالفطرة، فإن النفس أشدُّ كراهيةً له إذا كان لحمَ أخ، وتبلغ شدةُ الكراهية مداها إذا كان هذا الأخ ميتاً.
وذكْر الأخوة فى الآية للإشعار بأن المسلمين جميعاً إخوة، فاغتياب أحدهم إنما هو اغتياب أخ، ولما كان المسلمون إخوة كان من اغتاب واحداً منهم كأنما اغتابهم جميعاً.
أخى المستمع الحبيب .. إن أهل الغيبة الذين يخوضون فى أعراض الناس كأنهم لا يجدون لذتهم ومتعتهم إلا فى قرض الأعراض بمقاريض ألسنتهم، فيقضون أوقاتهم فى ذكر معايب الناس، سواء فى الهواتف أم فى المجالس، وهم يغفَلون عن أمور منها:
ـ غفلتهُم عن عيوب أنفسهم.
ـ وغفلتهم عن قدرة الآخرين على أن يقولوا فيهم مثل قولهم.
ـ وغفلتهم عما توعد الله سَبحانه به المغتابين.
فلو أن أحدنا جعل عيوب نفسه بين عينيه كلما همّ بالتحدث عن عيوب الآخرين لزجره ذلك فأمسك لسانه، وقهر شيطانه، فكان ممن قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم ” طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس“. ولم يكن ممن يرى القذاة فى عين أخيه، وينسى الجذع فى عين نفسه.
أخى الحبيب .. لو فطن أحدنا أن للناس ألسُناً كما أن له لسانا، وأعينا كما له عينان، وإن فيه من العيوب بعض ما فى الناس، وأن فيهم من لا يتورع أن يعيبه بما فيه، بل لعل بعضهم يختلق له عيوبا .. لو فطن لذلك لآثر السلامة والنجاة بعرضه من ألسنة ربما كانت ألسنة حداداً.
إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى وذنُبك مغفور وعِرْضُك صَيِّنُ
لسانك، لا تذكر به عورة امرئٍ فَكُلُّـك عَوْرَات وللناس ألسُـنُ
ولله در القائل:
لا تلتمسْ من مَسَاوِى الناس ماسَتَروا فيهتكَ الله سِتراً عن مساويكا
واذكرْ محاسنَ ما فيهم إذا ذُكـروا ولا تَعِبْ أحداً منهم بما فيكا
أيها المستمع الكريم .. لو استحضرنا ما توعد الله به من يقعون فى أعراض الناس لأشفقنا على أنفسنا من سخَط الله وعقابه، قال تعالى: (ويل لكل همزة لمزة) والهمزة اللمزة هو الذى يتناول عيوب الناس بلسانه أو بحركاته وإشاراته.
وقد أعد الله لمن هذه صفته ويلاَّ أى هلاكاً، وهى كلمة شديدة الوقع على النفوس المؤمنة، وانظر إلى استعمالها فى القرآن الكريم تعرف أنها لا تستخدم إلا حيث تبلغ المعصية مدىً من الشناعة والقبح:
(فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) [الماعون 4-5](ويل يومئذ للمكذبين) [المطففين 10] (ويل للمطففين) [المطففين 1] (ويل لكل أفاك أثيم) [الجاثية 7] (ويل لكل همزة لمزة) [الهمزة 1].
… إن الناس فى أمر الغيبة على وجوه ثلاثة، فمنهم من يَعِفُّ عن لحوم الناس فلا يقربها، وينزِّهُ لسانه وسمعَه عن الخوض فى الأعراض، فإذا جالست هؤلاء سمعت منهم الخير، ووُقيت منهم الشر، ولكن هؤلاء قليلٌ عددُهم فى دنيا الناس.
= ومنهم من لا يُرى أو يُسمع إلا ذاماً للناس قادحاً فيهم، لا تسمع منه كلمة طيبة وكأنه لا يعرف فى أحوال الناس إلا الشرور والآثام، أما الحسنات فيدفنها ويخفيها، وشأنه كقول القائل:
إن يسمعوا رِيبَةً طاروا بها فَرَحاً
عنى، وما سمعوا من صالحٍ دَفَنُوا
صُمُّ إذا سمعوا خيراً ذُكِرتُ به
وإن ذُكرتُ بشرٍّ عندهم أَذِنُوا
ويتجاوز الأمر حده عند بعض الناس فيختلقون ويأتون البهتان
إن يَسْمَعُوا الخيرَ يُخْفوُه وإن سمعوا
شرًا أُذيعَ، وإن لم يسمعوا كَذَبوا
وهؤلاء أكثر عدداً من النوع الأول، ولكنهم بحمد الله قليل. أما الكثرة الكاثرة من الناس، فهم الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم.. وإلى هؤلاء نتوجه بكلمتنا ألا يحكّموا غيرهم فى حسناتهم كما ورد عن الحسن البصرى رحمه الله أن رجلا جاءه يعتب عليه أنه اغتابه، فقال له: ما بلغ من قدرك عندى حتى أحكمك فى حسناتى ؟
….وقانا الله شر هذا الداء،
وعافانا من كل بلاء،