بقلم : مجدي مغيرة
تصيبك الدهشة حينما تقرأ عن قائد مسلم كبير تميز بالذكاء الحاد ، والطموح العالي وسعة الحيلة وعبقرية التخطيط ، والشجاعة المفرطة ، والتأني في الأمر حتى يصل إلى مبتغاه ، والسعي الدؤوب ليصبح العالم كله تحت قيادة واحدة وهي قيادته ، حيث كان يردد دائما :” أنه يجب ألا يوجد سوى سيدٍ واحدٍ على الأرض طالما أنه لا يوجد إلا إلهٌ واحدٌ في السماء” .
لكنه في المقابل لم يمتلك رؤية واضحة يخدم بها إسلامه وأمته ، ولا يفكر في إقامة نظام دائم يستمر بعد وفاته ، ويقوده خلفاء له ليحققوا أحلامه الكبيرة ، وهذا القائد العجيب هو الشخصية التاريخية المعروفة باسم “تِيمُورلنك” الذي حكم مساحة ضخمة من العالم الإسلامي امتدت من سمرقند حتى بغداد وبلاد الشام على مدى ستٍ وثلاثين عاما بدءا من عام 1369م ، و حتى تاريخ وفاته عام 807 هجرية الموافق ١٨ فبراير ١٤٠٥م .
وفي مقابل هذا النموذج كان يعاصره نموذج آخر يسعى أيضا لجمع العالم الإسلامي تحت زعامة واحدة ، والانطلاق إلى نشر الإسلام في كافة ربوع الأرض وخصوصا في قارة أوربا ، لكنه لا يعتمد على الأشخاص قدر ما يعتمد على المؤسسية والتخطيط طويل الأمد بحيث يكمل اللاحقُ ما بدأه السابقُ ، وهذا النموذج هو نموذج الدولة العثمانية التي أسسها عثمان الأول بن أرطغرل ، واستمرت قائمة لما يقرب من 600 سنة ، وبالتحديد من 27 يوليو 1299م حتى 29 أكتوبر 1923م .
اعتمد تيمور في بناء دولته على إراقة دماء المسلمين بوحشية منقطعة النظير دون الحاجة الفعلية إلى إراقة الدماء ، وخيانة العهود التي قطعها على نفسه ، والتفنن في أساليب القتل ، والتمثيل بالجثث بعد إزهاق أرواحها ، وقد حدثتنا كتب التاريخ بولعه الشديد ببناء أبراج عالية من رؤوس قتلاه الذين كانوا بمئات الألوف ، وبدفن الجنود الذين استسلموا له وهم أحياء بعدما أعطاهم الأمان ، ثم غدر بهم ، ولم يسلم من سيفه ملوكٌ ولا أمراءُ ولا جنودٌ ولا أطفالٌ ولا نساءٌ ولا شيوخٌ ، كما حدثتنا كتب التاريخ عن هدمه لكثير من المدن العامرة بعد الاستيلاء عليها ، ولم تُعَّمرْ بعض هذه المدن بعد خرابها على يديه إلا بعد 150 عاما .
بينما اتصف قادة الدولة العثمانية بالرحمة والرأفة وكثرة العفو عن الخصوم ، والقتل للضرورة القصوى في أقل الحدود الممكنة ، وبحرصهم على تعمير المدن وبناء المدارس فيها والمعاهد والمستشفيات والمساجد ، وبحرصهم الكبير على نشر الإسلام مهما كلفهم ذلك من مال وتعب ونصب وجهاد شاق عسير .
وقد حدث صدام كبير بين “تيمورلنك” والسلطان العثماني “بايزيد” الملقب بالصاعقة ، وذلك في عام 804هجرية ، الموافق 1402م ، نتج عنه هزيمة كبيرة للعثمانيين ، ووقوع سلطانهم “بايزيد” أسيرا في قبضة “تيمورلنك” ، ووفاته بعد عام في الأسر حزنا وكمدا بسبب مالحق به ، وظلت الدولة العثمانية ما يقرب من 10 سنوات وهي في حالة اضطراب داخلي واقتتال أشعله “تيمورلنك” فيما بين أمرائهم حتى استطاع السلطان العثماني “محمد الأول” المعروف باسم “محمد جلبي ” إعادة نهضة الدولة العثمانية واستئناف ما بدأه آباؤه وأجداده من جهاد ونشر للإسلام في أوربا مرة أخرى .
وقد أحدثت هزيمة “بايزيد” على يد “تيمورلنك” فرحة كبيرة وسرورا بالغا للأوربيين الذي امتلأت قلوبهم رعبا من “بايزيد” الذي هزمهم في كثير من المعارك الكبرى ، وفتح كثيرا من أراضي أوربا وأخضعها للسيطرة العثمانية .
لقد نشأت في ذلك العصر عدة مشاريع ضخمة لخدمة الإسلام والمسلمين ،
فقد قامت الدولة السلجوقية بصد الغارات الأولى للفرنجة المعروفين حديثا بالصليبيين ،
ثم ظهر مشروع الدولة الزنكية بقيادة عماد الدين زنكي ، ثم ابنه نور الدين محمود لإكمال تلك الرسالة ولتحرير قلب العالم الإسلامي منهم ،
وقد أكملت الدولة الأيوبية هذه الرسالة ، وكانت أكبر انتصاراتها هي موقعة حطين ، ثم جاء المماليك الذين حكموا مصر وبلاد الشام ما يقرب من 400عام للقضاء على بقايا الصليبيين وتطهير أرض المسلمين من شر المغول والتتار ،
أما العثمانيون فقد أخذوا على عاتقهم توسيع رقعة العالم الإسلامي ونشر الإسلام من ناحية الغرب بالاتجاه نحو أوربا وللقضاء على الخطر الصليبي من منبعه ،
فلماذا لم يقم “تيمورلنك” بمشروع ضخم مثل تلك المشاريع ؟
لماذا لم يتجه شرقا في بلاد الصين وما حولها لنشر الإسلام وتوسيع رقعة دولته مثلما اتجه العثمانيون غربا نحو القارة الأوربية ؟
ولماذا كانت حروبه في معظمها ضد المسلمين وليس ضد الصليبيين إلا في أقل القليل ؟
كان “تيمورلنك” يحب أن يجمع حوله الكثير من علماء الإسلام ليظهر أمام المسلمين أنه محب للشرع ، حريص على إقامة شعائره الظاهرة ، وفي المقابل فتك بالكثيرين منهم وقتلهم شر قتلة ، والأسئلة التي تتبادر للأذهان عند ذلك هي :
كيف كان هؤلاء العلماء يبررون جرائم “تيمورلنك” ضد إخوانه المسلمين ؟
وكيف برروا قتاله ل”بايزيد” الذي كان حريصا على الجهاد في سبيل الله في ربوع أوربا ؟
وكيف برروا قتله للنساء والأطفال والشيوخ الذين لم يحملوا ضده سلاحا ولا يمثلون له أي تهديد ؟
وكيف برروا له تخريب المدن العامرة ؟
وكيف برروا له قتاله للمسلمين وتعطيل مشاريعهم الجهادية بدلا من أن يوجه جهده وطاقته لقتال الصليبيين ونشر الإسلام ؟
لقد قلت مرارا وتكرارا أن مصيبتنا دائما تأتينا من داخلنا أكثر مما تأتي من خارجنا .
إن حب الزعامة ،وشهوة الكرسي ، والحقد ، والطمع والحرص ، وضعف الإيمان كانت دائما هي العقبات الكبار التي حالت بيننا وبين إكمال رسالتنا وتقوية جبهتنا .