الإمام حسن البنا .. الملهم الموهوب

يُعَدّ “حسن البَنَّا” نموذجًا فريدًا للزعيم الروحي والمفكر الديني، والمصلح الاجتماعي، والقائد الجماهيري الذي يمكن أن تلتف حوله مختلف الطوائف والمستويات التي يجمعها اتجاه فكري واحد، وتربط بينها أيدلوجية مشتركة، فقد استطاع “حسن البَنَّا” في سنوات قليلة أن يؤسس أكبر جماعة دينية في القرن العشرين بلغ أتباعها الملايين.

ويمكن اعتبار “حسن البَنَّا” مزيجًا متميزًا من الفكر السلفي والروحانية الصوفية، فقد كان تجسيدًا فريدًا للروحاني الصوفي، والعالم المسلم، والقائد الحركي الذي امتلك قدرة نادرة على تحريك الجماهير، من خلال ترجمة المبادئ العقدية والفكر السلفي إلى عمل اجتماعي.

ميلاده ونشأته

وُلِد حسن البَنَّا بقرية “المحمودية” بمحافظة البحيرة في ضحى يوم الأحد (25 من شعبان 1324هـ = 14 من أكتوبر 1906م).

وكان والده “أحمد عبد الرحمن البَنَّا” مأذونًا وإمامًا لمسجدها، كما كان يعمل بتصليح وبيع الساعات، ولكن دخله من تلك المهنة لم يكن يفي لسدِّ احتياجات الأسرة بعد قدوم الأبناء، وزيادة الأعباء، فزيَّن له البعض أن يفتتح محل بقالة، ولكنها كانت تجربة فاشلة خسر فيها الشيخ معظم ما أنفقه.

وعندما فكَّر الشيخ مرة أخرى في عمل إضافي اختار تجليد الكتب، ولم يكن ذلك يشغله عن القراءة، وكان يمكنه القيام به في ساعات فراغه.

وكان الشيخ محبًّا للعلم والقراءة وقد صرف جُلَّ وقته في الاطلاع والتصنيف، فألَّف عدة كتب، منها “بدائع المسند في جمع وترتيب مسند الشافعي”، و”الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني”، و”بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني”…

في هذا الجو الديني المشحون بالعلم والثقافة نشأ حسن البَنَّا، فأحب العلم، وعشق القراءة، وتشرَّبت نفسه بالتدين منذ الصغر.
نبوغ مبكر وريادة منذ الصغر

وقد اشترك حسن البَنَّا – في وقت مبكر – في بعض الجمعيات الدينية مثل: “جماعة السلوك والأخلاق” و”جماعة النهي عن المنكر”، وتأثر على نحو خاص بالطرق الصوفية وخاصة “إخوان الحصافية”.

وكان من نتيجة تأثره بالطرق الصوفية أن برزت فكرة إنشاء “الجمعية الحصافية للبر” التي نهضت للحفاظ على المبادئ الأخلاقية الإسلامية الأصيلة، كما كان قيامها ردَّ فعل لنشاط البعثات التنصيرية في مصر.

ولم يلبث حسن البَنَّا أن أصبح سكرتيرًا للجمعية وهو في الثالثة عشرة من عمره، وقد أولع – منذ صغره – بقراءة القصص الشعبي، وكان يكثر من الرحلات والرياضة والمشي مسافات طويلة لزيارة المساجد.

وفي سن الرابعة عشرة سنة 1338هـ = 1920م التحق بمدرسة المعلمين الأولية في “دمنهور”، وقد لازمه التدين في تلك المرحلة من عمره، فكان يصوم شهري رجب وشعبان، وكان التصوف والجانب الروحي المشحون بالعاطفة العميقة بارزًا في حياته يملأ عليه نفسه ووجدانه.

وظل حسن البَنَّا مستغرقًا في التصوف والعبادة طيلة إقامته في دمنهور في مدرسة المعلمين، ولكنها كانت صوفية خاصة، تهدف إلى الإصلاح عن طريق الدين.

البَنَّا في “دار العلوم”

بعد ذلك سافر حسن البَنَّا إلى القاهرة ليلتحق بكلية دار العلوم وهو في السادسة عشرة، وكانت دار العلوم نتاجًا للاتجاه الإصلاحي في التعليم الذي ساد في القرن التاسع عشر، فكانت تسعى إلى تقديم العلوم العصرية إلى جوار العلوم الشرعية والمعارف التقليدية التي تقدمها الدراسة في الأزهر.

وفي تلك الفترة اتصل حسن البَنَّا بمحب الدين الخطيب – الذي كان يدير المكتبة السلفية و”رشيد رضا” تلميذ الإمام “محمد عبده”، والمشرف على تحرير مجلة “المنار”.

وعندما تخرج حسن البَنَّا في دار العلوم سنة 1346هـ – 1927م عُيِّن مدرسًا للغة العربية بإحدى المدارس الابتدائية بمدينة الإسماعيلية، فغادر القاهرة في ربيع الأول 1346هـ = 1927م إلى مقر عمله الجديد.

ميلاد جماعة الإخوان المسلمين

كانت الإسماعيلية بداية الانطلاقة الحقيقية لحسن البَنَّا، والميلاد الفعلي لجماعة الإخوان المسلمين، ففي الإسماعيلية بدأ “حسن البنا” يساهم بدور فعَّال في حياة ذلك المجتمع، من خلال جميع الوسائل المتاحة بدءاً من المسجد، وانتهاء بالمقهى، مرورًا بالمدرسة التي كان يمارس فيها أيضًا الدعوة.

واستطاع حسن البَنَّا أن يجتذب إليه الناس بعاطفته الدينية القوية، وإخلاصه في دعوته، وبساطته وتبسُّطه، فكان مصدر إعجاب وإجماع الجميع على اختلاف مستوياتهم الفكرية والعلمية والاجتماعية، وكان له تأثير عجيب على سامعيه بما أوتي من مقدرة بيانية فائقة متحدثًا وكاتبًا وخطيبًا، وبما حباه الله من حافظة قوية، فكان يعرف كل من يقابله ولو مرَّة واحدة، فلا ينسى اسمًا ولا وجهًا ولا مكانًا مهما طالت السنون.

وكان من نتيجة دروسه وخطبه أن حضر إليه ستة نفر ممن تأثروا به وبدعوته من أهالي الإسماعيلية في ذي القعدة 1347هـ = إبريل 1928م، فحدَّثوه في شأن الطريق العملي الذي يجب أن يسلكوه لنصرة الإسلام والعمل لخدمة المسلمين، وعرضوا عليه ما يملكون من مال بسيط، وأقسموا له على الطاعة والولاء، وبعد مشاورة استقروا على تسمية أنفسهم “الإخوان المسلمون”.

وخلال أقل من أربع سنوات كان “حسن البَنَّا” قد تمكن من تأسيس عدة فروع للجمعية على امتداد منطقة شرق الدلتا بالإضافة إلى الإسماعيلية، وبورسعيد، والسويس، وأبو صير، حتى بلغ عدد فروع الجمعية عشرة.

تجربة رائدة للنهوض بالمرأة

وقد عُنِي حسن البَنَّا بالمرأة عناية كبيرة، فقد أدرك منذ البداية أهمية الطاقات الاجتماعية الهائلة للنساء إذا ما تم اجتذابهن إلى جانب الحركة. وقد تجلَّى ذلك بوضوح في حرصه على إنشاء “مدرسة الأخوات المسلمات” التي لم تقتصر على تقديم التعليم العام للفتيات، وإنما اهتمت – إلى جانب ذلك – بتربية هؤلاء الفتيات على القيم الأخلاقية الإسلامية والمثل العليا الإنسانية، والتربية الدينية والاجتماعية والسياسية.

ولعل تلك التجربة كانت أول محاولة جادة في الوطن العربي – في العصر الحديث – للنهوض بالمرأة وتنميتها فكريًّا وتأهيلها اجتماعيًّا وسياسيًّا للمشاركة بصورة واعية وهادفة في الحياة الروحية والاجتماعية والسياسية لأمتها.

قدرات خاصة وعقلية متفردة

كان حسن البَنَّا ذا قدرة عظيمة على العمل، فلم يَكُن ينام أكثر من خمس ساعات في اليوم، وكان واسع الاطلاع بصورة نادرة، فقد كان يحفظ العديد من دواوين الشعراء وعلى رأسها “ديوان المتنبي” عن ظهر قلب، بالإضافة إلى القرآن الكريم، ومحفوظاته من الأحاديث النبوية.

وكان من أبرع الكُتَّاب، ومن أكثرهم قدرة على تصوير ما بنفسه، ومن أشدهم تأثيرًا في النفوس بالألفاظ الكريمة والمعاني المركَّزة، وبلغ من قوة حافظته أنه كان يعرف عددًا كبيرًا من الناس، ويعرف عنهم كل ما يحيط بهم معرفة تامة، ويعرف مدن القطر وقراه، وكل بلد فيه، ونظم أهلها، وعاداتهم وتقاليدهم، وكل ما يتعلق بكيانهم الروحي والاجتماعي والعقلي.

وقد حباه لله بنية قوية كانت سندًا له في دعوته، ومكَّنته من احتمال مشاق الأسفار وأعباء العمل المتواصل ليل نهار
ويجمع الذين كتبوا أو تحدثوا عن “البَنَّا”، مادحين أو قادحين، أنه كان ذا شخصية قويَّة، استطاع أن يمزج شخصيته بالجماعة والدعوة في مختلف أطوارها وأحوالها.

وحرص – في خطبه ومقالاته – على أن يتجنب الجدل الديني الذي يثيره عادة أصحاب العقول الضيقة، فقد كان حريصًا على جمع كلمة المسلمين، ولمِّ شملهم، وتوحيد طوائفهم وفرقهم.

وكان يفهم الإسلام فهمًا معتدلاً، وكان يرى أن تعاليمه وأحكامه شاملة تنظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة، وأن الإسلام عقيدة وعبادة، ودين ودولة، وروحانية ومصحف وسيف.

العودة إلى القاهرة وبداية مرحلة جديدة

وفي جمادى الآخرة 1351هـ = أكتوبر 1932م انتقل حسن البَنَّا من الإسماعيلية إلى القاهرة؛ ليزاول عمله كمدرس بمدرسة عباس بالسبتية، وكان ذلك إيذانًا بدخول الدعوة مرحلة جديدة، فلم ينتقل البَنَّا إلى القاهرة إلا بعد أن اتضحت ملامح الدعوة وأهدافها، وتبلورت غايتها التي تسعى إلى تطبيق فكرة شمول الإسلام.

وبالرغم من إعلان “البَنَّا” أن جماعته ليست حزبًا سياسيًّا، فإن ذلك لم يمنعه هو وأتباعه من العمل لاستقطاب أكبر عدد من المؤيدين، ولا من التظاهر، أو حتى من المشاركة في الانتخابات السياسية.

وقد عاصر حسن البَنَّا اثني عشر رئيس وزارة، وكانت علاقاته معهم تختلف من واحد لآخر، إلا أن أحدًا منهم لم يكن بوسعه أن يتجاهل البَنَّا أو جماعة الإخوان المسلمين.

المؤتمر الخامس يحدِّد معالم فكر الجماعة

وفي الذكرى العاشرة لتأسيس الجماعة، عقد المؤتمر الخامس في (2 من فبراير 1939م = 13 من ذي الحجة 1357هـ)، فكان ذلك إيذانًا بانتقال الجماعة إلى المرحلة الثانية “مرحلة التكوين”، وبداية الإعداد للمرحلة الثالثة “مرحلة التنفيذ”، وقد تم في هذا المؤتمر وضع الأسس التنظيمية للجماعة، وإعلان دخولها إلى معترك الحياة السياسية.

وحدَّد المؤتمر الفكر الذي التزمت به الجماعة، وعملت من خلاله منذ نشأتها، وكان أساس عملها للمرحلة اللاحقة، وقد تبلور ذلك في نقاط ثلاث، هي:

– شمولية الإسلام بوصفه نظامًا شاملاً متكاملاً للحياة.
– المصدر الأساسي للإسلام: القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
– الإسلام قابل للتطبيق في كل زمان ومكان.

الإخوان بين الحرب والسياسة
وبعد حادث 18 من المحرم 1361هـ = 4 من فبراير 1942م، تشكلت وزارة وفدية برئاسة النحاس، وقامت تلك الوزارة بحلِّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة، فأعلن البَنَّا عن رغبته في ترشيح نفسه في دائرة الإسماعيلية كممثل للإخوان، وفور تقدمه بأوراق ترشيحه، استدعاه رئيس الوزراء، وطلب منه أن يعدل عنه وينسحب، وقد استجاب البَنَّا إلى ذلك مقابل بعض المطالب لجماعته التي وافق عليها النحاس.

وكان للإخوان المسلمين دور بارز في حرب فلسطين في 1367هـ = 1948م التي كان للخيانة والعمالة أثرهما الحاسم في إلحاق الهزيمة بالعرب في معركة لم يستعدوا لها جيدًا، وعندما أُعْلنت الهدنة واشتعلت المظاهرات، وحدثت معركة عنيفة بين الطلبة والبوليس، ولقي حكمدار العاصمة “سليم زكي” مصرعه نتيجة انفجار قنبلة ألقاها عليه أحد الطلاب، وعلى الرغم من عدم معرفة الطالب الذي ألقى القنبلة وعدم تحديد الجهة المسؤولة عن ذلك، فقد وجهت الحكومة قرار الاتهام بقتل الحكمدار إلى الإخوان المسلمين، وصدر قرار بإغلاق صحيفة الجماعة، وأعقب ذلك صدور قرار بحل الجماعة بكل فروعها.

وفي يوم 27 من صفر 1368هـ = 28 من ديسمبر 1948 أطلق شاب من الجماعة الرصاص على النقراشي – أثناء دخوله وزارة الداخلية – بعد أن تخفَّى في زي ضابط شرطة، فأرداه قتيلاً، وباغتيال النقراشي بدأت السطور الأخيرة لحياة البَنَّا، وكانت تلك بداية النهاية.

اغتيال الإمام

وفي مساء يوم السبت 14 من ربيع الآخر 1368هـ = 12 من فبراير 1949م عندما كان الإمام حسن البَنَّا يغادر جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس بالقاهرة اغتالته يد الغدر والخيانة، ولكنها لم تستطع أن تغتال أفكاره أو تنال من دعوته التي انتشرت لتملأ ربوع الأرض بنورها، وتهدي قلوب الحائرين بهديها، وتضيء ظلام النفوس بأفكارها وضيائها.

لقد استشهد “حسن البَنَّا”، ولكن أفكاره، ما زالت حية، تنبض بها القلوب وتتوهج بها الأرواح والنفوس.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سيد قطب والعمل مع الله.. سيرة مفكر إسلامي كبير في ذكرى استشهاده

في يوم 29 من أغسطس 1966م قامت السلطات العسكرية بإعدام سيد قطب، والذي تدلّى على ...