الرسول المعلم

الرسول المعلم يأسف لإنزال العقوبة بأحد من الرعية
كان صلى الله عليه وسلم حين يُضطر إلى إيقاع العقوبة بمسلم ارتكب خطأً أمام الناس فشهد عليه الشهود، يظهر على وجهه الأسف والغضب؛ كما حصل عند أول مرة قطع فيها سارقا، فعن ابن مسعود رضى الله عنه قَالَ: إِنِّي لَأَذْكُرُ أَوَّلَ رَجُلٍ قَطَعَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، أُتِيَ بِسَارِقٍ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ وَكَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ الله كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ! قَالَ: «وَمَا يَمْنَعُنِي؟ لَا تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ! إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ أَنْ يُقِيمَهُ، إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ » (النور22)( ). وفي رواية قَالَ: وَكَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ذُرَّ عَلَيْهِ رَمَادٌ .
صلى الله عليك يا رسول الله! يغضب مع أنه يقيم حدا من حدود الله، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا كقائد أن تكون رعيته على الوجه المطلوب.
وهذا ما كان يفعله كبار الصحابة رضوان الله عليهم من الأئمة الخلفاء: فأبو بكر الصديق رضى الله عنه يقول: «لو أخذْتُ شارباً لأحببتُ أن يسترَه الله، ولو أخذتُ سارقاً لأحببتُ أن يسترَه الله »( ).
10 – قائد ينصف ويدعو إلى القصاص من نفسه:
كان ^ يُعرّض نفسه إلى الاقتصاص منه إذا حصل شيء يوجب القصاص منه، فعن عُمَرَ رضى الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقِصُّ مِنْ نَفْسِهِ( ).
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد معه حنيناً قال: إني والله لأسيرُ إلى جَنْب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقةٍ لي، وفي رجلي نعلٌ لي غليظةٌ، إذْ زحَمَتْ ناقتي ناقةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقع حرفُ نعلي على ساقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوجعه. قال: فقرع قدمي في السوط، وقال: «أَوْجَعْتَنِي، فَأَخِّرْ عَنِّي» قال: فانصرفتُ، فلما كان من الغد إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسني. قال: قلت: هذا والله لما كنتُ أصبتُ من رِجْل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمس. قال: فجئتُه وأنا أتوقع (يعني يتوقع أن يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم)، فقال لي: «إِنَّكَ قَدْ كُنْتَ أَصَبْتَ رِجْلِي أَمْسِ بِنَعْلِكَ فَأَوْجَعْتَنِي، فَقَرَعْتُ قَدَمَكَ بِالسَّوْطِ، فَدَعَوْتُكَ لِأُعَوِّضَكَ» قال: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين نعجةً بالضربة التي ضربني( ).
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بِسْمِ الله، أَوْجَعْتَنِى». يقول هذا الصحابي: فَبِتُّ لِنَفْسِى لاَئِماً أَقُولُ: أَوْجَعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ! قَالَ: فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ الله، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: أَيْنَ فُلاَنٌ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَالله الَّذِى كَانَ مِنِّى بِالأَمْسِ! قَالَ : فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ، فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلي بِالأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ، فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا»( ).
فهل رأيتم مثل هذا الإنصاف- بل الإكرام- لآحاد الرعية أيها العقلاء؟
بل كان صلى الله عليه وسلم في غاية الحرص قبل لحوقه بالرفيق الأعلى أن يقتص منه كل من يرى له حقا عنده، ويكرر ذلك على الناس، ويدعوهم إلى عدم التردد في ذلك بزعم الخوف من أن يتغير عليهم قلبه، ويدعو أصحابه والأمة كلها –وفي القلب منها أمراؤها- إلى ذلك.
فعَنِ الْفَضْلِ بن عَبَّاسٍ رضى الله عنه قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ مَوْعُوكًا قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «خُذْ بِيَدِي يَا فَضْلُ» فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمِنْبَرِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «صِحْ فِي النَّاسِ» فَصِحْتُ فِي النَّاسِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، فَحَمِدَ الله، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرَهُ فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدَّ مِنْهُ، أَلا وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدَّ مِنْهُ، أَلا لا يَقُولَنَّ رَجُلٌ: إِنِّي أَخْشَى الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، أَلا وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِي وَلا مِنْ شَأْنِي، أَلا وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ، أَوْ حَلَّلَنِي فَلَقِيتُ الله وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ، أَلا وَإِنِّي لا أَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي حَتَّى أَقُومَ فِيكُمْ مِرَارًا».
ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ فِي الشَّحْنَاءِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَرُدَّهُ وَلا يَقُولُ فُضُوحَ الدُّنْيَا، وَإِنَّ فُضُوحَ الدُّنْيَا أَيْسَرُ مِنْ فُضُوحِ الآخِرَةِ»، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لِي عِنْدَكَ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ، قَالَ: «أَمَا إِنَّا لا نُكَذِّبُ قَائِلا وَلا نَسْتَحْلِفُهُ، فَبِمَ صَارَتْ لَكَ عِنْدِي؟» قَالَ: تَذْكُرُ يَوْمَ مَرَّ بِكَ مِسْكِينٌ، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: «ادْفَعْهَا إِلَيْهِ يَا فَضْلُ»، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: عِنْدِي ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ كُنْتُ غَلَلْتُهَا فِي سَبِيلِ الله. قَالَ: «وَلِمَ غَلَلْتَهَا» قَالَ: كُنْتُ إِلَيْهَا مُحْتَاجًا، قَالَ: «خُذْهَا يَا فَضْلُ»، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ خَشِيَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَلْيَقُمْ أَدْعُو لَهُ…» الحديث( ).
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أَتَى بَيْتَ عَائِشَةَ، فَقَالَ لِلنِّسَاءِ مِثْلَ مَا قَالَ لِلرِّجَالِ ( ).
أي قائد كان هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم! وأي تعليم للقادة والحكام قدمه توجيها وتطبيقا، حتى لا يكون لأحد على الله حجة من بعده صلى الله عليه وسلم!
تلك كانت بعض أخلاقه وسماته صلى الله عليه وسلم كقائد؛ ولهذا نجح في إقامة أمة عظيمة كريمة استطاعت أن تفتح آفاق الدنيا، وعلى أثره سار الصالحون.. لم تكن القيادة عندهم تحطيما وتدميرا واستبدادا واستكبارا وفرضا للهيمنة بالقوة، بل كانت رحمة وعدلا وأخذا بمجامع القلوب وأقطار النفوس باللين والحكمة.
أختم بتلميذ من تلاميذه.. بعمر بن عبد العزيز رضوان الله تعالى عليه.. هذا النموذج العجيب الذي أخذ هذه القدوة وطبقها، فصلحت الحياة على يديه، وأصلح الله في عامين على يدي عمر ما فسد في سنين كثيرة جدا..
هذا الخليفة الكريم العالم رضوان الله تعالى عليه كان واليا على المدينة للوليد بن عبد الملك، وقد ساس أهلها سياسة حسنة صالحة، وجاء الحجاج بن يوسف الثقفي وكان واليا على العراق، فدخل على أهل المدينة يسألهم عن عمر: كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه هيبةً له. قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا. قال: فكيف أدبه فيكم (يعني تأديبه للرعية وعقابه للمخطئين) قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة. قال الحجاج: هذه هيبته، وهذه محبته، وهذا أدبه؟! هذا أمر من السماء( ).
إن الحجاج القائد الغشوم الذي لا يعرف شيئا أقل من قطع الرقاب، والحبس بلا حساب، يرى نموذجا عجيبا جدا، تخرج في مدرسة القيادة النبوية الحكيمة العادلة، فيقول هذه المقالة. إي والله أمر من السماء.. وكل قائد يتبع هذا القائد القدوة صلى الله عليه وسلم في طريقته يكون أمره مؤيدا من السماء.
نسأل الله العظيم أن يسير بنا على سنته وأن يحينا على ملته، وأن يجعلنا من أهل شفاعته.. إنه ولي ذلك والقادر عليه..

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...