الأسوة الحسنة

الحمد لله الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله قال وهو أصدق القائلين: “لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا”.
وأشهد أن حبيبنا ومعلمنا وهادينا محمد ، عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة وأنار به الظلمة وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك.
اللهم صلى وسلم عليه وعلى آل بيته وعلى صحابته والتابعين وعلى كل من تبعهم بإحسان واستن بسنتهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وبعد
مازلنا أيها الأحباب نعيش فى أيام طيبة مباركة تحمل نسماتها ذكرى مولد الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا فى خطبة سابقة الأسباب الباعثة على حب النبى (أو أسباب محبتنا للنبى)، وذكرنا أيضا أن حبنا للنبى يكون بطاعته واتباع هديه والتأسى به ومتابعته فى جميع أمورة، ويكون أيضا بالصلاة عليه فى كل وقت وفى كل حين وحب آل بيته وقرابته وحب أصحابه وحب أسبابه كحب مكة والمدينة والقدس والقرآن والسنة.
وتعالوا معى أيها الأخوة الأحباب فى هذا اللقاء الطيب المبارك، نتأسى برسول الله فى جانب من جوانب حياته، وهى معاملته داخل بيته لكى تكون لنا نبراسا ينير حياتنا فى بيوتنا، ومرجعا لنا عند أخطائنا وزلاتنا، لأن البيت أيها الأحباب هو أهم مؤسسة داخل المجتمع المسلم، ويأتى دوره قبل دور المدرسة والمسجد، فإن كان البيت صالحا ومستقرا وسعيدا؛ فإنه يقوم بتكوين جيل جديد يربى على عقيدة الإسلام الصافية ومبادئه العظيمة، لكى يعيد للإسلام مجده، وأسأل الله العظيم أن ينفعنا بما نقول وبما نسمع.
أخوة الإيمان والإسلام:
ترك لنا رسول الله الأسوة الحسنة فى كيفية معاملة الزوجات، والأبناء، والأطفال: فهاهو مع أزواجه  :
يحرص على إضفاء جو المرح والسرور والبهجة داخل البيت:
تقول السيدة عائشة رضى الله عنها :” كان رسول الله  بيننا، يداعبنا ونداعبه، ويلاطفنا ونلاطفه، حتى إذا نودى للصلاة خرج إليها كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه وتقول أيضا عنه  أنه :” إذا خلا بنسائه كان ألْيَنَ الناس وأكرم الناس ضاحكاً بسَّاماً “
وكان يقوم بشئون المنزل وأعمال البيت:
وهو من هو، هو زعيم الأمة ، وخير خلق الله وأكرمهم على الله، وخاتم رسل الله 
فكان يَخْصِفُ نَعْله، ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته، وكان يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويَقُمُّ البيت (أى يكنس بيته )، وكان فى خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
ويقول  معلما أمته أن مساعدة الرجل زوجته ليس عيبا ولا يتنافى مع الرجولة، بل نوعا من العبادة ينال الزوج بسببها أجرا عظيما، فيقول  : “خدمتك زوجتك صدقة”
وهاهو  يستشير الزوجة ويأخذ برأيها إن كان فيه الخير والمصلحة:
معلما أمته أيضا أن ذلك ليس عيبا ولا يتعارض مع فحولة الرجال، فهاهو يأخذ باستشارة أم المؤمنين السيدة أم سلمة رضى الله عنها وأرضاها، عندما أمر المسلمين بعد كتابة صلح الحديبية أن ينحروا ويحلقوا، فلم يفعلوا، والحادثة معروفة أيها الأخوة الأحباب ولا مجال لسردها الآن، ولكن الشاهد منها أن رسول الله  والصحابة ذهبوا إلى مكة قبل الفتح لآداء العمرة، فأبى مشركوا مكة ذلك، وحدث صلح الحديبية على أن يرجع المسلمون دون عمرة ويعودون فى العام القادم، فأمر رسول الله  الصحابة الكرام بأن يحلقوا رؤوسهم وينحروا بدنهم (هديهم)، فلم يفعلوا، فشق ذلك على النبى  وغضب، ودخل خيمته على السيدة أم سلمة وهو بهذه الحالة فسألته عما به عدة مرات فلم يجبها، ثم قال لها :” هلك المسلمون، أمرتُهم أن ينحروا ويحلقوا فلم، فقالت : يا رسول الله: لا تَلُمْهُمْ ؛ فإنهم قد داخَلَهُم أمرٌ عظيم مما أدخَلْتَ على نفسك من المشقة في أمر الصلح.. ثم أشارت عليه  أن يخرج ولا يكلم أحدا منهم ويَنْحَرَ بُدْنَهُ ويحْلِقَ رأسه.
ففعل النبى  كما قالت .. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وحلقوا .
والشاهد أيها الأحباب: أن رسول الله  سيد الأولين والآخرين ورسول الله إلى الخلق أجمعين  ، لا يستنكف أن يأخذ برأى زوجته، ولا يراه شيئا يعيب رجولته، ولايجد فيه ما يغضُّ من مكانته كنبى عظيم ورسول كريم، وقائد أمة .
أما عن منهجه  مع الأبناء والأولاد:
فكان يظهر العاطفة تجاه أبناءه ويخصص وقت كاف لهم:
وذلك بالرغم من مسئولياته العظيمة ومهامه الجسيمة؛ كحامل رسالة وقائد أمة.
فقد كان  إذا أراد السفر جعل آخر عهده بالمدينة زيارة ابنته فاطمة رضى الله عنها، وإذا عاد بدأ بالمسجد فصلى ركعتين، ثم عمد إلى فاطمة فزارها قبل أىٍّ من أزواجه، وكان يقول :” إنما فاطمة بضعة منى”.
وتقول السيدة عائشة رضى الله عنها :” ما رأيت أحدا من الناس أشبه بالنبى  كلاما ولا حديثا ولا جِلْسة من فاطمة رضى الله عنها قالت:” وكان النبى  إذا رأها قد أقبلت رحَّب بها، ثم قام إليها فقبَّلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يُجلسها مكانه. وكانت إذا أتاها النبى  رحَّبت به، ثم قامت إليه فقبَّلَتْه وأجْلَسَتْه في مجسلها”.
وبالرغم من هذا الحب ، فهو يغرس فى قلب السيدة فاطمة وزوجها الإمام على عليها السلام المساواة بين الناس وعدم الإستفادة من منصب الأب:
ولنتأمل إخوة الإيمان والإسلام، هذا الموقف الذى يحكيه لنا الإمام على ابن عم النبى  وزوج ابنته فاطمة رضى الله عنها والحديث فى البخارى ومسلم عن على بن أبى طالب أنه قال لأحد جلسائه :” ألا أحدثك عنى و عن فاطمة ؟! قال. بلى. قال: إنها جرَّتْ بالرَّحى حتى أثَّرتْ في يدها، واسْتَقَتْ بالقِرْبة حتى أثَّرتْ في نَحْرها، وكَنَسَت البيتَ حتى أغْبَرَتْ ثيابها، وأَوْقَدَت القِدْرَ حتى دَكِنَتْ ثيابُها [ أى: اتَّسَخَتْ حتى مالت إلى السواد ]، فأتى النبىَّ  خدمٌ، فقلتُ: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادما ؟! فأتَتْه فوجَدَتْ عنده حُدَّاثاً، فرجَعَتْ، فأتاها من الغد فقال :” ما كان حاجتك ؟! “، وسكتَتْ، فقلتُ: أنا أحدَّثك يا رسول الله: جرَّت بالرَّحى حتى أثَّرتْ في يدها، وحملَتْ بالقِرْبة حتى أثَّرتْ في نحرها، فلما أن جاء الخدمُ أمَرْتُها أن تأتيك فتسْتَخْدِمَكَ خادما [ أى: تطلب منك خادما ] يقيها حَرَّ ما هى فيه، فقال :” اتَّقى الله يا فاطمة، وأدِّى فريضة ربك، واعْمَلى عمل أهلِكِ، وإذا أَخَذْتِ مضْجَعَكِ فسَبِّحى ثلاثا وثلاثين، واحْمَدى ثلاثا وثلاثين، وكبِّرى أربعا وثلاثين، فتلك مائة، فهى خيرٌ لكِ من خادم” فقالتْ: رضيتُ عن الله وعن رسوله. ولم يُخْدِمْها [ أى لم يعطها خادما] “
وبالنسبة للأولاد، فها هو  يعطى درسا بليغا في إظهار العاطفة وغمرهم بالحنان:
يروى عبدالله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله  في إحدى صلاتَىْ العشِىِّ وهو حاملٌ حَسَناً أو حُسَيْنًا، فتقدَّم النبى  فوضعه، ثم كبَّر للصلاة فأطال سجدة الصلاة، فرفعتُ رأسى فإذا بالصبى على ظهر رسول الله  وهو ساجد، فرجعتُ إلى سجودى. فلما قَضَى الصلاة قيل له: يا رسول الله، إنك سجدْتَ بين ظَهْرَىْ صلاتك سجدة أطَلْتَها، حتى ظننَّا أنه قد حَدَثَ أمرٌ أو أنه يُوحَى إليك، فقال  :” كل ذلك لم يكن، ولكن ابنى ارْتَحَلَنى فكرهتُ أن أعجله”
وإذا كان هذا في الصلاة وتطويل إحدى سجدتيها فقد قطع النبى  خطبته من أجل الحسن والحسين؛ فيحكى لنا الصحابى الجليل بريدة رضى الله عنه هذا الموقف فيقول: كان رسول الله  يخطب إذ جاء الحسن والحسين رضى الله عنهما ، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله  من المنبر وحملها ووضعهما بين يديه ثم قال :” صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة؛ نظرتُ إلى هذين الصبيَّيْن يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعتُ حديثى ورفعتُهما “.
وها هو يحمل فى صلاته أيضا أمامة بنت أبى العاص إبنة السيدة زينب رضى الله عنها وأرضاها، فعن أبى قتادة  قال: رأيت النبى  يؤمُّ الناس وأُمامَةُ بنتُ أبى العاص على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها.
ويزداد عجبنا حينما نسمع ما قالته السيدة عائشة رضى الله عنها : “أهدى إلى النبى  قلادة من جذع معلَّمة بالذهب، فقال :” والله لأضعنَّها في رقبة أحبِّ أهل البيت إلىَّ “، فاستشرف ( أى : تطلَّع ) لها كلُّ نسائه ، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت العاص .
ثم يصل بنا العجب إلى غايته ومنتهاه حينما نجده  يغمر بحبه وحنانه ابنة إحدى زوجاته من زواج سابق. يذكر ابن حجر في الإصابة أن الرسول  كان يداعب زينب بنت السيدة أم سلمة رضى الله عنها ويلاطفها، ويناديها مدلِّلاً بترخيم اسمها.
والنبى  يأمر أمته بتعويد الأطفال العبادات منذ الصغر:
من هنا كان توجيهه  للآباء بقوله :” مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع “.
بل شجع  عبد الله بن عباس رضى الله عنهما على آداء قيام الليل وهو غلام صغير.
والنبى يهتم بتربية الأبناء على القيم والفضائل الخلقية:
فنجده يغرس فى نفوسهم الصدق والوفاء بالكلمة:
فهذا عبدالله بن عامر يقول: دعَتْنى أمى يوما ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أُعْطِكَ، فقال رسول الله  :” ما أَرَدْتِ أن تعطيه ؟ ” قالت: أردتُ أن أعطيه تَمْرا ، فقال لها رسول الله :” أما إنك لو لم تعطيه شيئا كُتبتْ عليكِ كذبة”
ونجده يغرس فى نفوسهم عدم أخذ ماليس من حقه ولو كان يسيرا:
فقد كان يجلس مع حفيده الحسن بن على رضى الله عنهما وهو بعدُ طفل صغير، فمدَّ الحفيد يده والتقط تمرة من تمر الصدقة ليأكلها، فنهره النبى  بشدة قائلا:”كَخْ كَخْ ، اِرْمِ بها، أما علمت أنَّا لا نأكل الصَّدقة ؟!”
والنبى  يحرص على تعليم الأبناء الآداب السلوكية منذ الصغر:
فيعلمهم إلقاء السلام ورد السلام:
حيث كان يمر  على الصبيان وهم يلعبون ويلقى عليهم السلام، فيتعلمون منه التواضع وخفض الجناح والتبسيط فى الكلام.
كما كان  يعلم الأطفال آداب المائدة وتناول الطعام :
وذلك في حديث عمر بن أبى سلمة  ، الذى حظى بشرف التربية في بيت النبوة، يقول: كنتُ غلاما في حِجْر رسول الله ، وكانت يدى تطيش في الصَّحْفَة [ أى: تتحرك في جميع جوانب الإناء ] فقال لى رسول :” يا غلام، سَمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك “
والنبى  حرص على غرس العقيدة فى عقول وقلوب الصغار:
فكلنا يحفظ حديث رسول الله  الذى يلقِّنُ فيه ابن عمه عبدالله بن عباس رضى الله عنهما وهو غلام صغير، والذى أصبح بعد ذلك حبر الأمة، يعلمه رسول الله  مبادئ العقيدة الصحيحة قائلا :” يا غلام، إنى أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك. جفَّتِ الأقلامُ وطويت الصحفُ “. وفى رواية أخرى :” واعلم أن ما أصاب لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا “

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...