كلمة سمعتها من اثنين من الناس، دار الحديث بينهما عن كرب نزل على أحدهما، فقال له الآخر هذه العبارة اللطيفة مرطبا بها قلبه.
وإذا وقفنا مع هذه العبارة سوف نتعلم منها الكثير والكثير ونسأل الله أن يشرح صدورنا لها.
1- حاجة الإنسان لمن يحمل معه أثقاله وهمومه :
إن أى إنسان منا يحتاج فى الحياة لأب رحيم يلقى عليه بهمومه، أو لأم حنون يلقى عليها من شجونه، أو لصديق كريم ينتفع بصدقه ومشورته، أو إلى شيخ كريم ينتفع إلى علمه وحكمته.
لكن قد لا يتوفر للإنسان هذا الأمر، وقد لا يجود به الزمان، فالإنسان محتاج إلى من لا يغيب عنه لحظه، يحتاج إلى من لا يغلق بابه مطلقا، يحتاج إلى القريب المجيب الحنان المنان جل وعلى.
فهو الرحيم بك الرؤوف الكريم، أرحم بعبده من رحمة الأم بولدها، لذلك وجدناه جل وعلا يقول عقب آيات الصيام فى سورة البقرة: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ( )
جمال الآية وإذا سألك عبادى الذى أنا ربهم وخالقهم، ورازقهم، والمنعم المتفضل عليهم، والرحيم بهم.
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ولم يقل الله للنبى فقل إنى قريب، إنما أتى بها مباشرة فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ، قل لعبادى: وإذا سألوك عنى فأجب وبين لهم قربى منهم ورحمتى بهم وإحسانى إليهم. وهذا كلام يوضح لنا أننا ليس لنا إلا الله، فنحن بالله نساوى كل شئ، ومن غير الله لا نساوى شيئا.
2- التوجه إلى الله تعالى بالدعاء يزيل الهموم ويخفف الأعباء :
من رحمة الله بنا طلب منا أن نلجأ إليه وأن نرفع أكف الضراعة له وحده، وأخبرنا أنه قريب مجيب سميع بصير.
فعندما ترفع كفيك إلى الله يكون كلك يقين أن ربك قريب وأنه مجيب وأنه سميع يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن المسائل والمطالب والحاجات فلا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين فى سؤاله. بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء مهما تكن فى سهله أو جباله. فالمطلوب أن نتوجه إليه، أن نلقى بكليتنا إليه جل وعلا، وأن ندعوه وأن نسأله فى كل صغيرة وكبيرة فى شئون حياتنا . والحبيب المصطفى ساق إلينا عبارة لطيفة، رغم أن الحديث فى سنده مقال إلا أن معناه رائع: \”سل الله فى كل شئ، سل الله ولو فى ملح طعامك وشسع نعلك وعلف دابتك\”.كل صغيرة وكبيرة لا بد أن تسألها من الله عز وجل، ولا تسأل لمخلوق مثلك، فلا يسأل ضعيف ضعيف، ولا يسأل فقير فقير. لكننا ضعفاء وفقراء فلا بد أن نشكى للغنى القوى؛ فحينئذ يجبر الله كسرنا، وحينئذ نجد ملاذا يؤوينا من الخوف ويملأ قلوبنا أمنا، حينئذ نجد ملاذا يغنينا من فقرنا ويقوينا من ضعفنا. أى أننا يجب أن لا نشكو إلا إلى الله ونرمى همومنا عليه فنجد ربا حنانا منانا غفورا رحيما ودودا كريما جوادا يكتب على خزائنه مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ويقول لك فى أسلوب مملوء بالود والرحمة والحنان وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
3- نماذج مضيئة من حياة الأنبياء فى اللجوء إلى الله :
وهذه نماذج لهذه القضية فى القرآن الكريم:
أنبياء الله عليهم صلوات الله وتسليمه وقعوا فى الكروب ووقعت بهم الهموم، ولكن لجأوا إلى رب كريم، لجأوا إلى الغنى القوى الحنان المنان. الله سبحانه وتعالى فى
سورة الأنبياء ذكر استغاثات الأنبياء :
وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ الفاء حرف ترتيب وتعقيب، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ، وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ، وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ. ياسبحان الله ما هذا الكرم والجود والعطاء والمنة من الله سبحانه وتعالى . لذلك.. يجب أن نفعل ما فعله الأنبياء، نتوجه إلى الله ونشكو إليه ونفرغ إليه همومنا، ويجب علينا أن نحمل الآداب التى حملها الأنبياء ونحن نشكوا إلى الله عز وجل:
فهذا سيدنا زكريا عليه السلام وهو مهموم بخلفة الولد والذرية الصالحة لله وللدين وللرسالة وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ، يريد ولدا مع يقينه أن كل الأسباب المادية تؤكد عدم وجود الولد، لكنه توجه إلى المولى عز وجل بالدعاء بأدب جم.
ويعلمنا أن أول شئ فى أدب الدعاء أن ندخل فى ميدان الرجاء فى ذلك وانكسار رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياًّ * وَإِنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ، رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ انظر إلى الذل والانكسار والمسكنة والإحساس بكمال الافتقار للمولى عز وجل.
وهذا هو سيدنا أيوب يدعو ويقول أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
وهذا هو سيدنا يونس فى بطن الحوت لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
أى يجب علينا أن ندخل على الله بالدعاء بذل وانكسار ومسكنة وكمال افتقار لله جل وعلا.
4- من آداب الدعاء الذى هو وسيلة للفرج وتخفيف الأعباء :
ومن الأدب كذلك أن ندعو الله دعاء مجملا نطلب فيه حاجتنا وأن نعلن فيه أدبنا، كما فى أدعية الأنباء السابقة، فهى أدعية مجملة فيها الأدب فى الطلب من الله.
أحد الصحابة سمع ابنه يدعو: \”اللهم إنى أسألك الجنة التى على يمين الداخل فى جنات عدن\”، فقال يابنى: حجرت واسعا، قل اللهم ارزقنى الجنة وفى الجنة تجد العطاء ما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين\”.
أى يجب علينا أن نطلب من الله عز وجل بأدب فى العبارة، والله كريم يعلم ما فى القلوب ويعطى عطاء مالا يخشى الفقر، حتى ولو لم تسعفنا العبارة. فقد دخل رجل على الإمام الشافعى يعوده وهو مريض فقال للإمام الشافعى داعيا له \”أسأل الله الله أن يُشْفِيَك -أخطأ العبارة؛ لأن يُشْفِيَك تعنى يهلكك – وهو لا يقصد، فالصحيح أن يقول \”أسأل الله الله أن يَشْفِيك\”، فقال الإمام الشافعى: \”اللهم بقلبه لا بلسانه\”.
ومن أدب الدعاء أيضا أن لا يخالط الدعاء شك فى الإجابة.
ومن أدب الدعاء أيضا عدم أكل الحرام.
ومن أدب الدعاء أيضا عدم استكثار الدعاء.
فيجب مراجعة النفس قبل الدعاء، فهذا سيدنا عمر رضى الله عنه يقول: \”أما وإنى لا أحمل هم الإجابة فالله قد تكفل بها، ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا رزقت الدعاء أخذت الإجابة\”.
وهو رضوان الله عليه يقول \”فوالله ما ألهمك الله الدعاء إلا لأنه أراد أن يعطيك\”.
إذا .. فيجب أن نرمى همومنا على الله عز وجل ونقرأ آية الدعاء بتدبر ونتوجه إلى المعطى الغنى القوى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ، وبالمثال يتضح المقال:
الصحابة رضوان الله عليهم يسيرون فى فتح من الفتوح ومعهم رجل من الكرام البررة أصحاب القلوب الموصولة بالله، أصحاب الدعاء المستجاب، لذلك فكان كل قواد الفتوح يريدون شخصا من الأشخاص أصحاب الدعاء المستجاب.
أحد القواد يقول: وجود محمد بن واسع، فى الجيش معى أفضل عندى من اثنى عشر ألف مقاتل.
فمع هذا الغزو العلاء بن الحضرمى رضى الله عنه وهو رجل مقبول الدعاء، رجل قلبه موصول بالله، فلما نفد ماء الجيش، بحث الجيش عن الماء فى كل مكان فلم يجد، وانقطعت الأسباب المادية ولم يبق إلا أن يأخذوا بالأسباب الربانية.
يكن فى السماء أثر لسحابة، فجاءت سحابة فوقفت على الجيش وفتحت ينابيع الخير وأنزلت مياهها شرب الجيش واغتسلوا وملؤوا أوانيهم وشربت مواشيهم وادخلوا مياه عظيمة تنفعهم.
ببركة دعاء رجل صالح موصول القلب بالله عرف الآية واقترب منها وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ .
وفى نفس الغزوة نفد طعام الجيش، فذهب الجيش إلى العلاء بن الحضرمى وقالوا لقد عودك ربك بالدعاء خيرا، فسل ربك، فقال: اللهم أطعمهم، فأرغى البحر وأزبد ورمى بحوت ضخم فى حجم الناقة العظيمة تقوت الجيش به عشرين يوما وعادوا ببعض الطعام منه ليطعموا أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه.
ووقعت الواقعة وجاء القتال واستأسد الأعداء، فقال الجيش ياعلاء لقد عودك ربك بالدعاء خيرا، فارفع كفيك إلى مولاك، فقال: اللهم انصر عبادك واهزم أعداءك واجعلنى أول شهيد فى هذا اليوم، فانتصر الجيش وكان العلاء أول شهيد. وهذه هى الكرب التى نزلت بأمتنا، والغم والهم الذى فرضه الظالمين على أمتنا، فنحن نتمنى بعضا من الحرية، وبعضا من الكرامة، وبعضا من العدل وبعضا من الغنى..
فهيا بنا أن نرفع أكف الدعاء لله عز وجل ونسأله سبحانه وتعالى بأن يعز أمتنا وأن يقيض لها من يجمعها على كتابه وسنة رسوله، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويحكم فيه بكتابه.
اللهم إنا نسألك ربنا أن تغير حال المسلمين إلى أحسن حال، وأن تغير ما حل بهم من أهوال.
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.