من أشهر التعليقات التي تناولت حرب أكتوبر 1973، خصوصاً معاركها الرئيسية في عبور مانع قناة السويس، واقتحام مواقع العدو الإسرائيلي الحصينة على امتداد الضفة الشرقية للقناة وفي العمق، والمعروفة بخط بارليف، كانت المقولة التي أطلقها الخبراء والمراقبون العسكريون في العالم، وهي أن المفاجأة الحقيقية للحرب كانت المقاتل المصري.
ولم تأت تلك المقولة من فراغ، أو جاءت عفواً، ولكنها كانت تعبيراً عن واقع حقيقي، حيث دارت معارك فريدة من نوعها في تاريخ الحروب. الفرد المشاة المقاتل في مواجهة الدبابة، وفي مواجهة الطائرة، ويقتحم مواقع محصنة، وينتصر. أولئك كانوا العساكر، والذين استحقوا، عن جدارةٍ، أن يصفهم الخبراء والمراقبون بأنهم المفاجأة الحقيقية للحرب، وليسوا الغلابة.
ليست هذه المقدمة رداً على فيلم حمل اسم “العساكر”، تناول جوانب سلبية في الحياة العسكرية للمجندين في بعض أماكن الخدمة، وليست أيضاً تعليقاً على أفلام وبرامج قدمتها إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، تعرض المستوى الراقي لظروف الإعاشة للمجندين. ولست في مجال الرد أو التعليق على ما سبق عرض الفيلم من ضجيج إعلامي في مصر، ولا على ما جاء في الفيلم نفسه، ولا على غيره من أفلام وبرامج تناولت الموضوع، أعني موضوع العساكر، على الرغم مما لدي من تحفظات عديدة على ذلك كله. ولكن، دفعتني إلى ذلك عدة أسباب.
يتعلق السبب الأول بي شخصياً، لأنني ممن ينطبق عليهم صفة العساكر، فكل من يلتحق بالخدمة العسكرية هو عسكري، أياً كانت درجته أو رتبته العسكرية التي يصل إليها. وبالتالي، الأمر يعنيني بشكل مباشر، و هذا أمرٌ أعتز به.
والسبب الثاني أن الحياة العسكرية، والمجتمع العسكري عموماً، من الأمور المسكوت عنها في بلادنا العربية، وغير متاحة للنقاش العام، حتى أنها تبدو وكأنها محظورة، فيمثل تناولها علناً حساسية مبالغاً فيها، في أحيان كثيرة، كما أن الغموض الذي يحيط بها يجعل هناك فرصة لنسج مغالطاتٍ كثيرة، وأحيانا ما يشبه الأساطير بشأن الحياة داخل أسوار معسكرات الجيوش، ما يتيح لبعضهم اختلاق صور انطباعية مشوهة عن تلك الحياة، بقصد أو بدونه، على الرغم من أن تلك الأمور متاحة في معظم الدول، خصوصاً المتقدمة التي نتطلع إليها، والتي تعنى أيضاً بدراسة العلاقات المدنية-العسكرية من الجوانب كافة.
والسبب الثالث، أهمية عرض الصورة من كل جوانبها، فيما يتعلق بطبيعة الحياة العسكرية، بصفة عامة، وخصوصية المجتمعات العسكرية في كل بلد، طبقا لطبيعة تكوين الجيش، والقواعد التي تحكم تركيبه التنظيمي، والتقاليد العسكرية الراسخة والمتوارثة، والعقائد العسكرية والقتالية التي تضبط نشاطه.
والسبب الرابع أهمية التفريق بين طبيعة وأشكال أداء الخدمة الوطنية للمجندين، طبقا للقانون في كل بلد.
تتصف الحياة العسكرية، بطبيعتها، بالصعوبة والقسوة، والمجتمع العسكري تحكمه قواعد انضباطية صارمة وتراتبية قيادية محكمة، ويحكمه قانون خاص، لتنظيم (وضبط) العلاقات داخل ذلك المجتمع، والحقوق والواجبات، وحدود السلطة المنوطة بكل مستويات القيادة بكل دقة.
وهذا ينطبق على كل من في الخدمة العسكرية، سواء كانت دائمة بالنسبة للضباط وضباط الصف المتطوعين، أو مؤقتة بالنسبة للمجندين إجبارياً، أو المتعاقدين المؤقتين في الدول التي لا تطبق نظام التجنيد الإجباري. لذلك، لا تختلف نظم التعليم والتدريب العسكري في الكليات والأكاديميات والمعاهد العسكرية التى تُخرّج الضباط، وضباط الصف ذوي الخدمة الدائمة، كثيراً من دولة إلى أخرى، كما أن نظم التدريب في مراكز التدريب والتعليم الأساسي للجنود أيضاً، تتشابه إلى حد كبير، حيث الهدف عادة هو تطويع الشباب المقبل على الانخراط في ذلك المجتمع مع الحياة العسكرية ومتطلباتها. تلك هي القواعد والضوابط المتعارف عليها في علم الاجتماع العسكري، وهي دائماً محل المراجعة والدراسة في مراكز البحث المعنية بالعلاقات المدنية – العسكرية، والتي نفتقر إليها في بلادنا العربية للأسف.
بشأن جوهر الموضوع، أي خصوصية المجتمع العسكري المصري، وطبيعة تكوين الجيش المصري الحديث، وتطوره، منذ بدأ الوالي محمد علي منذ قرابة مائتي عام، وبعد أن استقر له الحكم، في تكوين جيش على النسق الحديث، يعتمد فيه على تجنيد المصريين، بعد انقطاع طويل عن الخدمة العسكرية النظامية، ولم يكن الأمر في بدايته سهلاً على المصريين من أبناء الفلاحين الفقراء الذين كان ينطبق عليهم القرار، حيث كان يتم إعفاء أبناء مشايخ البلد والمقتدرين في مقابل مبلغٍ، كان يُعرف باسم “البدلية”، كما أن مدة التجنيد كانت غير محدّدة. كان المجند هو من يمكن أن يُطلق عليه “العسكري الغلبان”، حتى أن محمد علي أطلق على التجنيد اسم الجهادية، في محاولة لإعلاء شأن المجندين والترغيب في التجنيد، وقد شهدت قوانين التجنيد تطويراً كبيراً، خصوصاً بعد معاهدة 1936، وإلغاء نظام البدلية.
ثم حدثت طفرة في تلك القوانين، بعد ثورة يوليو 1952، لكن التطور الحقيقي في نظم التجنيد كان في أعقاب حرب يونيو 1967، وإدراك أهمية الارتفاع بالمستوى العلمي والتقني للجندي في الجيوش الحديثة، وبدأ يسود مصطلح “الجندي المقاتل”، وهو المقاتل الذي أشاد به كل الخبراء في حرب أكتوبر، وقالوا، عن حق، إنه كان المفاجأة الحقيقية لتلك الحرب. وأصبح المقاتل خصوصاً، والجيش عموماً، محل فخر كل مصري واعتزازه، ولا يزال.
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذاً الحديث عن العساكر “الغلابة”؟ ولماذا كل ذلك الانزعاج من مثل تلك الأحاديث التي تطاول جيشاً هو أكبر الجيوش العربية، والأكثر خبرة وكفاءة قتالية، ويحمل تصنيفاً عالميا متقدماً؟ وهل هؤلاء العساكر “الغلابة “هم من يقودون آلاف الدبابات والمدرعات الحديثة، ويستخدمون أحدث أسلحة القتال المتطورة تكنولوچياً، من مدفعيات وصواريخ ومقاتلات وقطع بحرية ووسائل حرب إلكترونية، أم هناك أشياء ما جعلت الأمور تلتبس على بعضهم، أيا كانت نياتهم، أدت إلى الوقوع في فخ التعميم بالنسبة لأخطاء ومخالفات بعض المنتسبين في التعامل مع الرتب والدرجات الأدنى، وهي جرائم عسكرية، لا يجب التهاون معها؟
والشيء الثاني، وكان له الأثر الأكبر فى ذلك الالتباس، هو عدم الإلمام بالقوانين المنظمة للخدمة العسكرية والوطنية في مصر، وما يرتبط بها. ومنها القرار بقانون رقم 32 لسنة 1979، وأصدره الرئيس أنور السادات، بإنشاء جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في وزارة الدفاع، وجعل تبعيته لوزير الدفاع مباشرة، وعمل شركةً قابضة، أنشأ عشرات الشركات الإنتاجية والخدمية التي تعمل في القطاع المدني في مجالات عديدة، وبإمكانات هائلة. ولأن الجهاز خاضع لوزير الدفاع الذي هو، في الوقت نفسه، القائد العام للقوات المسلحة، فلم يُوضع حدّ فاصل بين الجهاز ذي الطابع المدني والقوات المسلحة، خصوصاً فيما يتعلق باستخدام المجندين الزائدين عن حاجة التشكيلات المقاتلة في الوحدات الإنتاجية والخدمية للجهاز. وهكذا يفقد المجند صفة المقاتل في الميدان.
وهذا بالطبع لا يقلل من قيمة ما يؤديه من عمل. ولكن، يجب أن يحمل التوصيف الصحيح له باعتباره يؤدي خدمة وطنية، لكنها ليست ذات طابع عسكري، ولا يمكن تعريفه بالعسكري “الغلبان”. ويمكن مناقشة ما إذا كان يتقاضى مكافأة إضافية نظير مشاركته فى عمل إنتاجي أم لا، وهو ما يحدث بالتأكيد.
القانون الثاني، وهو الأصل في الموضوع، القانون رقم 127 لسنة 1980، المعروف بقانون الخدمة العسكرية والوطنية، وجاء فيه إمكانية قضاء فترة التجنيد الإجباري في هيئة الشرطة/ وزارة الداخلية، أو كتائب الأعمال الوطنية، أو المنظمات الوطنية. وهكذا، لا يحمل المجند في تلك الهيئات صفة الجندي المقاتل في الميدان، ويتيح الفرصة لبعضهم لتسميته العسكري “الغلبان”، وهو يؤدي خدمة وطنية، سواء في وحدات الأمن المركزي، أو في مصلحةٍ أخرى من مصالح وزارة الداخلية، ذات الطابع الأمني أو الخدمي، أو كتائب الأعمال الوطنية، تلك هى القوانين المنظمة للخدمة الإلزامية.
ويبقى أن الخدمة الوطنية واجبٌ على كل مواطن مصري، والتجنيد إجباري، بحكم الدستورين، الحالي والسابق، لكن ذلك يحتم أن تكون هناك خطوط فاصلة وواضحة بين كل شكل من أشكال الخدمة الوطنية، طبقا لاحتياجات الأجهزة المختلفة، فهناك من يؤدون واجب الخدمة الوطنية في أفرع القوات المسلحة المقاتلة وتشكيلاتها ووحداتها، وهي العصب الرئيسي للقوات المسلحة، والتي عليها أن تبقى فى قواعدها ومواقعها وثكناتها، بعيداً عن المجال العام. وهناك من يتم تجنيدهم في أجهزة الخدمة الوطنية الإنتاجية والخدمية وشركاتها، ويجب أن تكون لهم شارات مميزة، بحكم تعاملهم مع جمهور المواطنين، ويقضي آخرون فترة خدمتهم في أجهزة هيئة الشرطة، وأولئك تحكم عملهم لوائح خاصة، ولهم زيهم الخاص.
بهذا لن يكون هناك من يُطلق عليه العسكري الغلبان، فهناك الجندي المقاتل في موقعه، أو ثكنته العسكرية، وهناك المجند المهني المنتج، في مصنعه أو منشآته، وهناك جندي الأمن الداخلي في وحدته الشرطية، ولعل هذا التمييز يمنع الالتباس المقيت.
العساكر ليسوا غلابة، لأنهم قوام الجيوش، ولأن الأوطان تحميها الجيوش، والجيوش ملك للشعوب، والشعوب صاحبة السيادة.