الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل من خالف أمره وعصاه، مجيب دعوة الداعي إذا دعاه وهادي من توجه إليه واستهداه، محقق رجاء من صدق في معاملته ورجاه، من أقبل إليه صادقا تلقاه ومن ترك لأجله أعطاه فوق ما تمناه، ومن لاذ بحماه وقاه وحماه، ومن توكل عليه كفاه سبحانه من إله عظيم تفرد بكماله وبقائه، وعم بإحسانه وآلائه، أحمده سبحانه حمدا يملأ أرضه وسماه، وأشكره على سوابغ نعماه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود بحق سواه شهادة أدخرها ليوم لا ينفع فيه والد ولده ولا ولد أباه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه وأسرى به إلى سماه وأراه من عظيم الملكوت ما أراه وقربه وأدناه من القرب والإكرام ما لم ينله سواه، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن نصره وآواه واقتفى أثره واتبع هداه.
أما بعد…….
فيا أيها الأعزاء الكرام:
نعيش مع خلق من أعظم أخلاق الإسلام، ما أحوجنا إليه، ونحن نشكوا ضعفنا، وتفرقنا، وتمزقنا، فالمسلم الحق هو الذي لا يهان ولا يستضعف ولا يستخف به، وأعظم ما يعتز به المسلم دينه وكتاب ربه عز وجل.
وقد حرم الإسلام على المسلم أن يهون، أو يستذل، أو يستضعف، ورمى في قلبه القلق والتبرم بكل وضع يخدش كرامته
وجرح مكانته، فالعزة والإباء والكرامة من أبرز الأخلاق التي نادى الإسلام بها، وغرسها في أنحاء المجتمع، وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسنّ من تعاليم.
العزة من أخلاق الرسول الكريم
العزة من أعظم ما اتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلاق، وقد دلَّ على ذلك مواقفه وكلماته في الموقف
المختلفة، ولكن قبل الحديث عن العزة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم نوضح إشكالاً قد يطرحه البعض وهو:
كيف تكون العزة لله جميعًا، ثم تكون لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؟
عزة الرسول في حمل الرسالة
فقد جاء وفد من كفار قريش لعمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي طالب يستنكرون على رسول الله، وقالوا له: “وَإِنّا وَاَللهِ لا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ فِي ذَلِكَ”.
فبعَثَ أبو طالب إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاءوني، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ، فَأَبْقِ عَلَيّ، وَعَلَى نَفْسِك، وَلا تُحَمّلْنِي من الأمر ما لا أطيق. فَظَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ أنه قد بدا لعمه فيه أَنّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نصرته والقيام معه.
فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمّ، وَاَللهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ».
ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قَامَ، فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: أقبل يا ابن أَخِي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صَلّى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.”[سيرة ابن هشام، وابن كثيرفي السيرة النبوية]
عزة الرسول بعبادته لربه
ثبت في الحديث الصحيح منْ حديث أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يعفِّر مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، ولأعفِّرن وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجأهم مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدقا مِنْ نَارٍ، وهَولا، وَأَجْنِحَةً. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: “لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا”. رواه مسلم .
معاشر المسلمين الأماجد:
ذلة العباد لربهم ذلة بالحق لا بالباطل، أما ذلة العبد للعبد فباطل، فقد حرم الإسلام الكبر وحرم على المسلم أن يكون مستضعفا أو ذليلا، يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].
إن اعتزاز المسلم بدينه هو من كبرياء إيمانه، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10].
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
الأذان في أوله: الله أكبر، لكي يوقن المسلم بأن كل من تكبر بعد الله فهو صغير وأن كل متعاظم بعد الله فهو حقير، ولذلك
اختار الله من أسمائه العظيم والأعلى ليكررها المسلم في ركوعه وسجوده.
من اين نحصل علي العزة ؟
إنها من عند الله وحده فإن العزة والمنعة والنصرة والقوة والغلبة من عند الله إنها لله يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده كل شيء إنه علي كل شيء قدير.
قال تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ آل عمران: 26-27]
، وقال تعالي: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10].
هذا هو معنى العزة وهذا هو الطريق الوحيد للعزة والكرامة للرفعة للقوة للغلبة على أعداء الإسلا، بل لابد أن يعيش المسلم بهذا المعنى ويتربى عليه .
أيها الأحبة الكرام في الله:
إن المسلم إذا اعتز بدينه وشعر بهذه العزة وشعر بهذه القوة ـ والله ـ لو تمكن منه أعداء الإسلام كلهم فلن يستطيعوا أن
يحصلوا منه على شيء؛ لأن هذه العزة موجودة في قلبه، ومهما فُعل به فالوصول إلى قلبه أمر مستحيل، وإن تمكنوا من
جسده، ولو قطعوه إربًا إربًا، أما دينه وعقيدته وعزته فهي في قلبه، لا يخاف أحدًا إلا الله عز وجل.
تعالوا نأخذ بعض النماذج التي تدل علي العزة والكرامة :
خرج عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة
فنزل عنها، وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين
أأنت تفعل هذا؟ تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟ ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك.
فقال عمر أوِّه لو قال ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
وفي رواية قال: يا أمير المؤمنين تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه؟
فقال عمر: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله.
العزة ليست في كثرة الأموال واعتلاء المنصب، وإنما بقدر اتصالك بالله.
فالله هو المعز المذل، هو الذي يؤتي الملك من يشاء ويسلبه ممن يشاء، قال تعالى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
وهو المعز لمن أطاعه المذل لمن عصاه وهو المانح للعز، {وَللهِ العِزةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
ومن أعزه الله فهو العزيز {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18].
عزة ربعي بن عامر
طلب رستم وفدا من سعد بن أبي وقاص في القادسية فأرسل سعد ربعي بن عامر، فدخل على رستم، وقد زينوا مجلسه
بالنمارق، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآليء الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد
جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بترس وفرس قصير، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل
وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، فقالوا له: ضع سلاحك.
فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها.
فقالوا له: ما جاء بكم؟
فقال: ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.