ما أجمل الحياة عندما تصفو النفوس

1

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال تعالى “
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
فما أجمل الحياة عندما تصفو النفوس، وتخلو القلوب عن التزاحم في المطامع الفانية، هنالك تكون البركة في الرزق، ويكون التفرغ لإتقان الأعمال، وتقل العلل التي امتلأت بها الأجساد.
سلامة الصدر من الأحقاد:
فإن من أهم المطالب لسعادة النفس ورضاها أن يعيش الإنسان وقد امتلأ قلبه إشراقًا بنور الإيمان، متمتعًا بلذة العبادات، ولا يتم ذلك بدون سلامة القلب، التي هي طريق الخلاص في الدنيا والآخرة، وإذ يقول الحق سبحانه على لسان إبراهيم عليه السلام {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }( الشعراء: 88: 89 ) وسلامة القلب تعني براءته من هفوة تخالف أمره ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره (إغاثة اللهفان1/7) وكذلك أن يخلو القلب من إرادة الشر بعد معرفته فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ قَالَ هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ“(سنن ابن ماجة).
ثانيا: أثر سلامة الصدر على الفرد والمجتمع:
ولسلامة الصدر آثار عظيمة على الفرد إذ تكون سببًا في دخول العبد الجنة ففي الحديث الذي رواه أنس رضى الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ”(مسند أحمد) وهي كذلك سبب لمضاعفة الحسنات فعن سفيان بن دينار قال: قلت لأبي بشير وكان من أصحاب علي رضى الله عنه: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيرا ويؤجرون كثيرا قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم. (الزهد لابن السرى 2/600)، وهي كذلك سبب لتخفيف النوازل، ومعين على عدم الاكتراث بما يصيب العبد من مرض أو غيره فعن زيد بن أسلم: أنه دخل على ابن أبي دجانة، وهو مريض ، وكان وجهه يتهلل، فقال له: ما لك يتهلل وجهك ؟ قال: « ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين : أما أحدهما فكنت لا أتكلم بما لا يعنيني، وأما الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليما »(الجامع لابن وهب).
* وأما أثر سلامة الصدر على المجتمع فيكفي أن نقول فيه إن الأمة الإسلامية في بادئ عهدها ما آتت ثمار جهودها سريعًا إلا بتوفر هذا المعنى، وأذكر قوله تعالى في شأن الأنصار:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}( الحشر: 9)
فقد قامت الجماعة على عواطف الحب والود والتعاون، ولا مكان فيها للتسلط أو الأنانية والأثرة، فكانت النماذج التي مثلت في الحياة عقلا جديدًا وروحًا وثابة انطلقت بهذا الدين محطمة قوى الشرك والوثنية.
والمجتمع الذي يقوم على الأثرة والتقاطع مجتمع متهالك، ينفق جهده فيما لا يفيد، ويغرس دون أن ينتظر ثمرًا لغراسه، لأنه أسلم نفسه للشيطان يخطط لحرق حاضره ومستقبله ونبه رسولنا الكريم إلى ذلك لما قال: “إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ“(سنن الترمذي). والواقع الإسلامي اليوم في غنى عن إسقاط هذه المعاني عليه، فقد أفصح الصبح لذي عينين، ورب رمد تغشت به العيون فلا ترى انعدام آثار العبادات والابتهالات لتقطع الأواصر، وتنازع المطامع، واستدراك مثل هذا الخلل له ميزان كبير في الشرع واذكر سبب نزول مطلع سورة الأنفال عندما أمرت الأمة به حيث يقول الحق سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}( الأنفال: 1) ونبه الرسول إلى ذلك حيث يقول:
“أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ” قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ(سنن الترمذي). فما أجمل الحياة عندما تصفو النفوس، وتخلو القلوب عن التزاحم في المطامع الفانية، هنالك تكون البركة في الرزق، ويكون التفرغ لإتقان الأعمال، وتقل العلل التي امتلأت بها الأجساد.
ثالثا: عوائق سلامة الصدر:
وهناك عوائق كثيرة تحول دون سلامة الصدر منها على سبيل الإجمال طاعة الشيطان والغضب والنميمة والحسد والتنافس على الدنيا وحب الشهرة وكثرة المزاح والمراء في الحق والباطل.
رابعا: عوامل معينة على تحقيق سلامة الصدر:
وهناك عوامل كثيرة تعين على هذا الأمر منها على سبيل الإجمال الرضا بما قسمه الله تعالى للعبد، وقراءة القرآن الكريم، وذكر الحساب والعقاب والدعاء والصدقة وحسن الظن بالله تعالى وإفشاء السلام والابتسام والبشاشة في وجه الآخرين وترك التدخل فيما لا يعنيك، ومحبة الخير لعموم المسلمين والسعي في إصلاح ذات البين وصحبة الصالحين وترك التشاحن وقبول اعتذار المخطئين، والتقليل من العتاب، واستحضار الأضرار المترتبة على فساد ذات البين في الدنيا والآخرة، والزهد فيما في يد الناس.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...