العبادات في ضوء القرآن الكريم

3

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى أهله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
1-معنى العبودية وأنواعها: ([1])
إن القرآن يجمع شعب الدين جميعًا، تكلمنا في شعبة الإيمان وما يلحق بها، ثم تكلمنا في شعبة الأخلاق وما يتبعهامن الفضائل والآداب، ونتكلم هنا في شعبة العبادات في ضوء القرآن الكريم وما جاء فيه من تفاصيل كثيرة في هذا الجانب العظيم فنقول -وبالله التوفيق:
إن الكون يضم أجناسًا وأنواعًا وأزواجًا من الخلائق لا نستطيع لها حصرًا ولا عدًّا، ولا يحيط بها علمًا إلا الله -سبحانه وتعالى- ولكننا لو أردنا أن نعطيها جميعًا صفة جامعة تنتظم وظيفتها وحكمة وجودها لكانت هي تلك الكلمة الجامعة (العبودية)، وأصل العبودية الذل والانقياد والخضوع، يقال: طريق معبدة إذا كانت موطوءة بالأقدام ومذللة للسالكين.
والعبودية نوعان:
النوع الأول: عبودية التكوين، وهي عبارة عن ظهور أثر الصنعة الإلهية على الخلق، وهي بهذا وصفٌ لكل مخلوق؛ إذ بمجرد إيجاده صار عبدًا لخالقه عبودية قهر وإذعان لكلمة الله تعالى، ولسننه التكوينية ونواميسه في الأشياء والأحياء لا ينفك كائنعن ذلك أبدًا، ولا اختيار لأحد في ذلك، بل كل ما يتصل بهذا الباب فهو وارد على المخلوق من خارج أقطاره ومن فوق إرادته واختياره.
النوع الثاني: عبودية التكليف، وهي عبارة عن إظهار التذلل والخضوع لرب العالمين وفق شرعه ومنهاجه لعباده، وهذا الإظهار أيضًا ضربان:
الضرب الأول:([2])ضرب اضطراري، وعليه معظم الخلائق لا تملك عنه انحرافًا كالسماوات والأرض والجبال والكواكب والأشجار وغير ذلك، كما قال تعالى: ]ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[(فصلت:11).
والضرب الثاني: ضرب اختياري، وقد منحه الله تعالى للإنس والجن فيما نعلم على سبيل الاختيار؛ ليصح ترتب الثواب والعقاب عليه في الدار الآخرة كما قال تعالى: ]وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا[(الكهف:29).
ثم يقول بعدها: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا[(الكهف:30).
وهذان الضربان يجمعهما قوله تعالى في سورة الحج: ]أَلَمْ تَرَى أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ[(سورة الحج:18) فقد أثبت الله تعالى السجود وهو غاية التذلل والخضوع أثبته للكائنات جميعًا بلا استثناء، إلا الناس فقد انقسموا إلىساجد عابد، أو رافض جاحد؛ لأن لهم في ذلك اختيارًا، ومعنى هذا أن الضالين نشازٌفي الكون، وأن الطائعين لربهم هم الأصلاءفيه؛ لأنهم ينتظمون بطاعتهم في موكب العبودية مع الكائنات جميعًا لله رب العالمين؛ ولذلك كانت عبودية الاختيار أرقى ألوانها،وأحقها بالقبول والثواب والرضوان؛ لما فيها من بذل الجهد، ومراغمة الشهوات، وإيثار ما يحبه الله -تبارك وتعالى- ويأمره به على أهواء النفس ولذاتها، وقد خصت شرعًا باسم العبادة، وهي مرادنا في هذا الحديث.
يقول الراغب -رحمه الله- في كتابه العظيم (مفردات ألفاظ القرآن) يقول: “العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلا من له غاية الأفضال وهو الله تعالى، والناس كلهم عباد الله، بل الأشياء كلها كذلك، لكن بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار”. انتهى كلام الراغب -رحمه الله.
ولما كان الله -تبارك وتعالى- وحده هو المتصف بالغاية العظمى من صفات الود والرحمة والإنعام، والبالغ الغاية العليا في الاتصاف بصفات القهر والجبروت والسلطان؛ لذلك كان -جل شأنه- وحده هو المستحق للعبادة، وكانت عبادته مركبة من عنصرين يشرحهما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله- فيقول في كتابه (رسالة العبودية): “العبادة المأمور بهاتتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء”.
ويقول الشيخ محمد عبده -رحمه الله-: “فما هي العبادة إذن؟ تدل الأسانيد الصحيحة على أن العبادات ضرب وخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود، واعتقاده بسلطة له لا يُدرككُنهها وماهيتها، وقصارى ما يعرفه عنها أنهامحيطة به ولكنها فوق إدراكه” هذا كلام الشيخ محمد عبده في تفسير الفاتحة.
فالحب والذل إذن هما لب العبادة وروحها، وهما معنيان قلبيان يتكرران في وجدان العبد، ويأخذان عليه أقطار نفسه عندما يعرف ربه حق المعرفة، ويقدره حق قدره، ويستشعر شمول قدرته وقهره، وغاية إنعامه وإكرامه، وحينئذٍ يمتلئ قلبه حبًّا وإجلالًا وخشية وإشفاقًا، ومن قدر ذلك تنبعث همتهللطاعة ولأداء النُّسك والشعائر، والفرائض والنوافل وغيرها من جوانب الخير ومظاهر العبادة والطاعة، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- هذه العبادة غاية الوجود للثقلين جميعًا، فقال تعالى: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ$ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ$ إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[(الذاريات 56-58).
وهذا تذكيرٌ بموجبات حقه تعالى في العبادة من نعمتي الخلق والرزق المستوجبتين غاية الشكر والحب، ومن صفتي القوة والشدة المستوجبين غاية الخشوع والخشية، فالآيات الكريمة تشتمل على بيان الغاية وعلى أسباب استحقاقها وما يتضمنه من حقوقها ومقوماتها، وأصل العبودية الاختيارية فطرة وغريزة مركوزة في أعماق البشرية؛ حتى قيل: إن الإنسان متدين بطبعه، أو هو كائنٌ عابدٌ، إلا أن الله -تبارك وتعالى- لم يجعل مناط المسئولية هو الفطرة، وإنما جعل مناطها الرسالة والوحي الإلهي وهذا من رحمته، ولم يكلفها بالعبادة فقط وإنما رسم لنا طريقها، وشرع لنا أحكامها وحدودها على علمٍ وحكمة يتوافق فيهما الشرع والطبع؛ لذلك كان هذا الدين الإلهي بحق هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
والأساس في ذلك هو أن الله -تبارك وتعالى- لا يُعبد إلا بما يشرع للناس، وعلى الوجه الذي شرعه لهم، وقد تضمنت الشهادتان (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًارسول الله)تضمنت هذا الأساس على أوفى وجه؛ ولذلك كانتا رأس العبادات جميعًا؛ لأن معنى أشهد أن لا إله إلا الله هو إقرارٌ واعترافٌ يلتزم به صاحبه بأنه لا معبود ولا مطاع إلا الله.
أما كيفية هذه العبادة فقد جاء بهاالوحي الإلهي عن طريق المعصوم ^ ولذلك كان الشق الثاني المكمل لإسلام الفرد هو شهادة أن محمدًارسول الله، وهكذا كان الدين مع كل رسول منذ آدم ومن بعده -عليهمالسلام- جميعًا. ([3])
2-سعة معنى العبادة: ([4])
ننتقل للعنصر الثاني وهو سعة معنى العبادة:
فالعبادة في الإسلام لها معنى واسع يشمل كل جوانب النفس والحياة والفرد والمجتمع، وقد تُطلق العبادة ويراد بها معناها العام الذي يعني كل انقيادٍ وطاعة لله -عز وجل- ولمنهاجه، فتكون الاعتقادات والأخلاق والمعاملات كلها عبادات من حيث إنها طاعة لله -عز وجل- وقد تطلق بمعناهاالخاص الاصطلاحي، أعني: ما كان أدخل في باب الطاعات العملية كما قيل: عمل المؤمن كله عباده؛ فيدخل فيها الأقوال والأفعال على الوجه التالي:
أولاً: العبادة المحددة من الشارع الجليل -سبحانه وتعالى- على صورة أو هيئة معينة، بحيث لا تصح العبادة إلا بالتزام هذه الكيفية الشرعية المخصوصة فروضًا كالصلاة، لا بد أن يؤدي الإنسان الصلاة كما جاءت عن النبي ^ والزكاة والصيام والحج والوضوء وغسل الجنابة، أو ما كان من جنسها نفلًا محددًا مؤكدًا أو مستحبًا مثل: الوتر، والسنن الراتبة، وصوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة والثلاثة أيام من كل شهر، والعمرة ونحو ذلك، أو كانت نفلًا محددًا في سعة كسائر التطوعات التي ندبنا إليها من صلاة وزكاة وحج وصيام من غير تعيين ولا تقييد بوقت أو عدد، بشرط أن تلتزم حدود الشريعة وشروطها مع هذا الأصل.
ثانيًا: العبادات المطلقة التي وضعها الشارع وندب إليهامن غير تقييد بصورة معينة، أو بكيفية مخصوصة وإن كان جعل لهاآدابًا وشروطًا مثل الدعاء، وقد جاء في الحديث: “الدعاء هو العبادة” رواه أصحاب السنن الأربعة. ومثل التفكر في خلق السماوات والأرض، والتأمل في عظمة المخلوقات، وعجائب الصنعة الإلهية، والذكر المطلق يعني يقول الإنسان: سبحان الله، والحمد لله، تبارك الله، ومدارسة العلم الديني كما قال تعالى: ]وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[(التوبة:122).
وقال تعالى مادحًا أولي العقول والألباب يقول: ]الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[(آل عمران:191) والآية تجمع الذكر والتفكر والدعاء.
ومن العبادات: ما وضع الشارع لفظه ولم يقيد أداءه بكيفية مخصوصة، فكان له جهة اشتراك في النوعين كتلاوة القرآن الكريم، والدعاء المأثور في المناسبات المختلفة الذي يربط مشاعر العبد بحقيقة العبودية لربه ومولاه في نومه ويقظته، ودخول المسجد والخروج منه، وكذلك المنزل، ودخول الخلاء، حتى أصوات الحيوانات ومظاهر الكون من نزول المطر وهبوب الريح جعل الشرعلهادعاءً مخصوصًا وهكذا.
ثالثًا: الأعمال المباحة جميعها إذا اقترنت بنية القربة: الأعمال المباحة الموسعة يفعلها الإنسان بنية العبادة يأخذ ثوابًا كأنه أدى عبادة معينة، وإذا فعلها من غير نية لا حرج عليه إلّا أنْيتعدى حدود الله، كالنكاح ينوي به إعفاف نفسه عن الحرام، أو اتباع سنة النبي ^ وتكثير المسلمين ليباهي بهم النبي ^ الأمم يوم القيامة، وكالرياضة البدنية ينوي بها تقوية الجسم للجهاد في سبيل الله، وكالتجارة ينوي الإنفاق على نفسه ومن يعول امتثالًا لأمر الله، وكمدارسة العلم الدنيوي المحض يقصد بها سد ثغور الحياة في المجتمع الإسلامي كدراسة الكيمياء، وعلوم الطبيعية، والحساب ونحو ذلك.
وهذه الأمور كغيرها من سائر المباحات لا غضاضة ولا حرج على العبد من مزاولتها لذاتها من غير قصدٍ للعبادة، ولا يكون له حينئذٍ الثواب، ولكنه إذا قرنها بنية صالحة تحولت إلى عبادة ينتفع هو في الدنيا بثمارها، ويكون له أجر العبادة وثوابها، وهذا من تمام فضل الله -عز وجل- وجزيل نعمائه؛ وذلك مشروط بإتيانها على وجهها الشرعي مقيدة بشروطه وبعيدة عن محرماته، فالزواج مثلًا مباح مطلق ولو أريد به مجرد تحصيل الشهوة المحضة، ولكنه يصبح عبادة بما قلنا سابقًا من النية، ولكنه لا يكون مباحًا فضلًا على أن يكون عبادة إلا إذا وافق شروط الشرع من الإيجاب والقبول، واجتناب المحرمات كالمشركة وسائر المحارم مثل: الأخوات والعمات. . . إلى آخره، والكتاب والسنة متضافران على هذا، ومنه قوله تعالى على سبيل القاعدة الكلية ]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه[(الزلزلة:7).
وقوله تعالى على سبيل التفصيل: ]وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ الله مِنْ فَضْلِهِ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ$ وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ[(النور:32، 33).
ومن أجمع ما ورد في السُّنة الشريفة حديث الرجل القوي الذي مر بالنبي ^ وأصحابه فقالوا: لو كان هذا الرجل في سبيل الله يا رسول الله؟! فقال ^: “إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان” والحديث رواه الطبراني في الكبير عن كعب بن عجرة وسنده صحيح.
وفي الصحيحين من حديث سعد -رضي الله عنه- لما ذهب النبي ^ يعوده في عام حجة الوداع: “وإنك لاتنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعله في في امرأتك. قال: فقلت: يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازدت به درجة ورفعة” وهكذا وسع الله -تبارك الله- دائرة العبادة؛ لتنتظم كل أعمال المسلمين وكل أقوالهم، وهذا أعجب وأطيب ما يراد من شريعة تصلح الحياة، إذ يجعل الله -تبارك وتعالى- خدمة الناس ومعونتهموصلتهم، وحتى ما يقضون به مصالحهم وحاجاتهم وشهواتهم المشروعة، يجعل ذلك كله عبادة تستحق الأجر والمثوبة، وتمنع البلاء والعقوبة، وتستنزل الرحمة والمعونة.
يقول الإمام ابن تيمية -رحمة الله-: العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك كله من العبادات.
3- موقف القرآن من هذا الجانب تفصيلاً:([5])
ننتقل إلى هذا العنصر الجديد عن موقف القرآن الكريم من هذا الجانب، حين نتأمل حديث القرآن الكريم عن العبودية بمعناها الشامل،وضروبها المتعددة نجده على أعظم قدرٍ من السعة والاستيعاب والبيان، ونوجز بعض ذلك فيما يأتي:
أولاً: يقرر الله تعالى في كتابه أنه رب الكون ومليكه والقوي القادر على كل شيء، ومن ثَمّ فكل شيء داخل تحت قهره وسلطانه كما قال تعالى: ]لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير[(المائدة:120).
ويقول ربُّنا: ]بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ[(البقرة:116) والآية الكريمة شاملة للجماد والأحياء، والقنوت: هو أبلغ ألوان العبودية؛ لأنه بمعنى الذل والطاعة والانقياد والإقرار بالعبودية.
ثانيًا: جعل الله -تبارك وتعالى- العبادة غاية خلق الثقلين -الجن والأنس- وتكفل لعبيده برزقهممعها، وترك لهمالخيار اختبارًا، وفي هذا الحصر الذي جاءت به الآية الكريمة: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون[ دليلٌ على أن ما يزاوله المبطلون من أعمالٍ هو عبث بمهمة وجودهم، وإبطال لغاية خلقهم، وتهديم للقاعدة التي مُنحوا من أجلها الحياة، وأُرسلت من أجلها الرسل، وأُنزلت بها الكتب، وشرعت لأجلها الشرائع والأحكام.
ثالثًا: كانت المهمة الأولى لكل الرسل هي تعبيد البشر لربهم وحده لا شريك له في هذا الجانب الاختياري الشامل، كما في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، وعلى ما قرره القرآن وكرره كقوله تعالى: ]وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ[(النحل:36) ولقد يسبق إلى الأوهام أن الرسل قصدوا بهذه العبادة مجرد أداء الشعائر التعبدية كالصلاة ونحوها،واجتناب عبادة الأصنام فقط، والقرآن الكريم عُني بتفسير وتفصيل المراد من دعوات الرسل، وأنها شاملة لسائر أنواع الاعتقاد والأخلاق والشعائر التعبدية والمعاملات، بل جاء بمنهاجٍ مبينٍ فيه تأصيل أو تفصيل لكل جانب منها، وحسبنا أن نقرأ معركة شعيب -عليه السلام- مع قومه تصحيحًا للمعايير وقطعًا للفساد الاجتماعي والاقتصادي في أمته، كل ذلك مع الدعوة إلى التوحيد، ومع إفراده -جل شأنه- بالعبادة، يقول تعالى في هذا: ]وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[(الأعراف:85)فالآية الكريمة توضح معنى الدين الإلهي وعموم أحكامه، حيث تبدأ بالأمر بعبادة الله تعالى وحده، وأول العبادة اليقين بوجوب طاعة الله في كل جوانب الحياة ومنها توفيةالكيل والميزان، وإنصاف الناس في سائر المعاملات على الإطلاق، والانتهاء من الإفساد في أرض الله بعدما أصلحهاالأنبياء ونظمتها شريعة الله -عز وجل- وهذا العموم في معنى العبادة هو ما سوّغ لهود وصالح -عليهما السلام- أن يتدخلا في حياة قومهما في جوانب المعاملات العامة والتصرفات الشخصية لينزلاها على حكم الله تعالى وشريعته، ومن هذا الجانب كان دعوة لوط قومه إلى الطهارة الخلقية والاجتماعية، واستنكارهعليهم سائر الرذائل التي شاعت فيهم قال تعالى: ]وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ$ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ[(العنكبوت:28، 29).وحسبنا أن نتبع دعوة محمد ^ التي اتسمت بتقرير العموم والشمول من أول عهده، ففي مكة كان القرآن الكريم يتنزل باستنكار الأصنام وطاعة الطواغيت، ويندد بالانحرافات في سائر جوانب الحياة،ويحرمها ويتوعد أصحابها مثل قوله تعالى في الوأد مثلًا: ]وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ$ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ[(التكوير:8، 9) والموءودة التي يقتلها الرجل في الجاهلية وهي بنت صغيرة.
وفي التطفيف يقول تعالى: ]وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ$ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ$ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ[(المطففين:1-3).
وفي الزنى، والربا، والقتل، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، ومنع الماعون، والغدر، والظلم وغير ذلك كثير مما قصه القرآن الكريم واستنكره ودعا الناس إلى تغييره والخضوع لأمر الله تعالى.
هذا عدا الأوامر الشاملة بالعدل والإحسان، وصلة الأرحام، والصدق، والصدقة، والمواساة، وفك الرقاب، وكلها مقررة بصريح النصوص القرآنية الجليلة، وفي المدينة أقام النبي ^ دولة الإسلام لتهيئ المجال التطبيقي لهذه التعاليم، ولتساندها بالسلطان التنفيذي، وقد أمدها الوحي الإلهي بمزيدٍ من الأحكام والحدود، كل هذا تحت اسمه الصريح من توحيد الله تعالى وإفراده بالطاعة والعبادة -سبحانه جل شأنه.
ونقرر هنا إبراز موقف القرآن الكريم من ربط العبودية بجانبها المصيري الأخروي، والتذكير الدائم بأن الدار الآخرة يتقرر مآل الفرد فيها على أساس موقفه من عبادة ربه بمعناها الشامل، ومن ثَمّ فلم يأت الرسل -عليهم السلام- لمهمة تطوير المجتمعات اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو لتحقيق الوفرة المادية، أو المجد القومي أو الوطني. . . أو غير ذلك من أغراض المناهج الأرضية التي تفرغ لها جهدها، بل تعد من العبث الاشتغال بغيرها من أمور الغيب وما وراء المادة، إن هذه الأغراض المادية لا تصلح غايات للحياة، وإنما هي أعراض تبعية فرعية تتحقق في ظل الشريعة الإلهية بأوفى منها في مناهج الناس، ولكن من خلال الغاية العظمى لخلق النوع الإنساني التي جاءت بهاالرسالات تكشفها له، وتعلمه إياها، وتقود خطاه إليها؛ ولذلك كان المدخل للرسل جميعًا دائمًا هو تعبيد الناس لربهم الذي لا إله غيره، وردهم إلى طاعاته ومنهاجه الذي يحقق سعادتهم الأبدية في الآخرة، والذي ينظم حياتهم الدنيا على خير ما يحب الله الرءوف الرحيم بعباده، وهو الأعلم بمصالحهم، وصدق ربُّنا: ]وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[(البقرة:216).
4- وصف الخلق بالعبودية، والتنديد البالغ بعبادة غير الله تعالى:([6])
وتنتقل إلى عنصر جديد يقرر هذه المعاني،من أجل تركيز معنى العبودية كان خطاب الله تعالى للخلق ووصفه لهم ودعاؤه إياهم بهذا العنوان المتكرر ]عِبَادِي[ أو ما ماثله من الألفاظ، وقد وصف الله -تبارك وتعالى- به الكفار، فقال تعالى: ]أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ[(الفرقان:17).
ووصف به المؤمنين، فقال تعالى: ]يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ[(العنكبوت:56).
ووصف به المذنبينمنهم: ]قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[(الزمر:53).
وقد وصف الله تعالى به الملائكة، فقال: ]بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ[(الأنبياء:26).
ووصف به الرسل، فقال: ]وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[(الصافات:171).
والمسيح ابن مريم خاصة وُصِفَ بهذا؛ لأنهم اتخذوهإلهًا من دون الله -عز وجل- فقال تعالى: ]إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ[(الزخرف:59) وقال سبحانه: ]لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ[(النساء:172).
وبالاختصار هو وصف للخلائق جميعًا: ]إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا[(مريم:93).
والعبودية والعبادة لغير الله تعالى هي أمعن أباطيل الجاهليات، وهي ذل ومهانة للإنسان؛ لأنها خضوعٌ لغير من يستحق ذلك، بل هي انقياد للمشترك في الوصف: ]إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ[(الأعراف:194).
ويقول ربُّنا: ]وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ[(النحل:20).
والدعاء في الآيتين بمعنى العبادة؛ لذلك كانت العبودية لله تعالى وحده حقًّا بموجب الخلق والرزق،وشمول قدرته وسائر ما يتفرد به من صفات الكمال والجمال والجلال كما قال تعالى: ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[(الشورى:11).
فعبادة الله تعالى بهذا الوجه هي الكرامة وهي العزة؛ لأنها خضوع في موضعه للمتفرد باستحقاقه، وهو رب الكون وملكيه، وصاحب العظمة والكبرياء، والمتفضل بالعطاء والنعماء؛ ولذلك كان هذا الوصف أجل أوصاف التشريف، وقد اختاره الله تعالى لأكرم رسله في أعظم مواقف تكريمهم، فيقول تعالى عن خاتم رسله ^ في مشهد الإسراء: ]سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى[(الإسراء:1).
وفي مشهد العروج حيث بلغ التكريم أقصاه يقول: ]ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى$ فَكَان قَابَ قَوْسَيْنِ أَو أَدْنَى$ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى[(النجم:8-10)،ورحم الله الشاعر المسلم الذي يقول مشيرًا إلى هذه المعاني:
ومما زادني شرفًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبيا
ومن أجل ذلك كله ندّد الوحي الإلهي أشد تنديد بعبادة غير الله، وقرع العابدين والمعبودين إن رضوا بذلك، وتوعدهم جميعًا بخزي الدنيا والآخرة، ومن ذلك:
أ- تنديده بعبادةأكرم خلقه من الملائكة والرسل، وسؤالهم على رءوس الأشهاد يوم القيامة،عن هذا يقول ربنا: ]وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُم يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ$ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَل كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ$ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ[(سبأ:40-42) والآية تنديد أيضًا بعبادة الجن، وتبرئةللملائكة من وصمة الرضا بما زعمه الزاعمون من مشركي الجاهلية.
ويقول ربنا: ]وَإِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ[(المائدة:116) والآيات في سورة المائدة من 116 إلى 118 بالتفصيل.
ب- من أبلغ ألوان التنديد في القرآن وأشدها زجرًا واستنكارًا ما جاء في شأن الطواغيت الأحياء من سادات الأمم، ورؤساء وكبراء الناس الذين عُبدوا من دون الله،سواء عبادة تأليه، أو عبادة طاعة واتباعٍفي الحلال والحرام على خلاف أوامر الله تعالى مع اعتقاد ذلك، فمن الأول وهو عبادة التأليه ما جاء في شأن فرعون وتقديس قومه له واعتقادهم فيه ما ادعاه من الإلوهية: ]مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي[(القصص:38).
وما ادعاه من الربوبية في نهاية المطاف وهو أفحش، فقال: ]فَحَشَرَ فَنَادَى$ فَقَال أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى[(النازعات:23، 24) ومن أجل ذلك استحق التنديد والعذاب: ]فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ$ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ$ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ[(الزخرف:54- 56) آسفونا: أي أغضبونا
ومن الثاني: وهي عبادة الطاعة والاتباع في الحلال والحرام والتشريعات، يقول ربُّنا: ]اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ[(التوبة:31) وقد جاء في هذه القصة حديث في هذا على لسان عدي بن حاتم لما جاء إلى النبي ^ وهو يلبس صليبًامن الذهب أو من الفضة، فقال له النبي ^: ((انزع عنك هذا الوثن، ثم تلا هذه الآية: ]اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه[فقال عدي: ما عبدناهم يا رسول الله. قال النبي ^ ما معناه: أليسوا قد أحلوا لكم الحرام وحرموا عليكم الحلال فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم.
والقرآن الكريم بعد ذلك مستفيضبتبكيت الذين عبدوا الأحجار، والشمس، والقمر، والعجول، والأبقار، وغيرها من خلق الله -عز وجل- وهو يحدد في غاية الوضوح أن كل عبادة لا يعتد بها، إلا إذا كانت خالصًا لله -عز وجل- وحده لا شريك له،لا يخالطها دنس الشرك أو الرياء، وقال تعالى في ذلك: ]فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[(الكهف:110).
5- المقاصد الأصلية والتبعية للعبادات الشرعية:([7])
ننتقل إلى هذا العنصر المهم وهو تأثير هذا الجانب العبادي في الحياة الإنسانية، القرآن الكريم يبين ذلك باعتباره ركنًا أصليًا من هذه الشريعة الإلهية،التي شرعها الله لعباده على غاية العلم والحكمة، وجعلها بناءً محكمًا يشد بعضه بعض، ويؤدي كل جانب فيه عمله الخاص أو العام على غاية التفرد والتفوق والامتياز، ويظن بعض الناس أن العبادات في شريعة الله هي ضروب من الطقوس، أو المراسم الشكلية فرضت على العباد فرضًا لغاية دينية محضة،هي إظهار الذل والخضوع لله تعالى فقط، وليس لها وظائف عظمى تابعة لذلك، بل لقد فرغها كثير من المسلمين أنفسهم من محتواها الأصيل حينما زاولوها بمعزلٍ عن الروح التيبثّها الله تعالى فيها، وبمعزلٍ عن الأهداف العظمى التي ضمنها إياها؛ فعادت كالجثث الميتة تذكر عدًّا ولا تجدي نفعًا.
والحق أن العبادات التي شرعها الله تعالى لها تأثير شمولي مشرق، ولها أخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالات الإلهية، ولتحقيق الفطرة الإنسانية على وجهها الصحيح المستقيم،طالما تمثلت فيها عناصر الحب والذل والرجاء والخوف لله رب العالمين.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله: “إن للعبادة مقصدًا أصليّاومقاصد تابعة، فالمقصد الأصلي فيها هو التوجه لله الواحد المعبود،وإفراده بالقصد إليه في كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله وما أشبه ذلك، ومن المقاصد التابعة للعبادة صلاح النفس واكتساب الفضيلة، فالصلاة مثلًا أصلٌ شُرع لبيان الخضوع لله تعالى، ولإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، ولتذكير النفس بذكره سبحانه قال تعالى: ]وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[(طه:14) وقال -جل شأنه: ]إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ[(العنكبوت:45) يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله أكبر وأعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر؛ لأن ذكر الله هو المقصود الأصلي، ثم أن له مقاصد تابعة كالاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة، وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة، وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله تعالى”. انتهى كلام الشاطبي.
ونستطيع هنا إيجاز هذه المهمة فيما يلي:
أولاً: تثبيت الاعتقاد
أول فائدة للعبادات الإلهية التي شرعها اللهلنا تثبيت الاعتقاد، فإذا كانت العبادة ابتداءً تُستمد من الاعتقاد اليقيني في الله، فإنها بدورها تعود مددًا دائمًا لتثبيت الإيمان به سبحانه؛ لأن روح العبادة هو إشراب القلب حب الله تعالى وهيبته وخشيته، والشعور الغامر بأنه رب الكون وملكيه، والتوجه إليه دائمًا بما شرع من شعائر ونسك،باعتبارها مظهرًا عمليًا دائبًا لصدق الإنسان في دعوىالإيمان، وتذكيرًا مستمرًا بسلطان الربالأعلى،وإلهابًا متجددًا لجذوة اليقين في ذات الإله ورجاء فضله وثوابه.
ولنأخذ مثالًا عباديًا لتثبيت معنى التوحيد وإجلال الله تعالى، وهو الأذان، وقد شرع للإعلام بدخول أوقات الصلوات المفروضة، فهو يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وينادى به أندى المسلمين صوتًا في كل مكان يوجد به تجمع إسلامي، ولو كان أدنى الجمع من المسلمين، بل شُرع مع ذلك للمسافر والمنفرد ولو كان في بادية؛ لما يمثله من معانٍ أكبر خطرًا من مجرد الإعلام بدخول الوقت، إن المؤذن حين ينادي بصوته الأعلى “الله أكبر الله أكبر”، ثم يكرر ذلك؛ فيطلب شرعًا أن يردده معه كل مسلم ومسلمة حين يسمعون هذا القول الأجل، لينسكب في مشاعر الجميع وفي أوقات متكررة متقاربة معنى الكبرياء المطلق لله رب العالمين، وأنه تعالى فوق كل شيء وأكبر من كل شيء؛ فينبغي أن يعتز المسلم به وحده، وأن يلوذ بحماه وكنفه، ويستعلي فوق أعناق الطواغيت والجبارين بهذا النداء الجهير الذي أراد الله -عز وجل- أن يتواطأ عليه المجتمع كله، وأن يظل حتى المنفرد على صلة دائمة به، فإذا تكرر هذا المعنى عاد النداء الأجل ليملأ الآفاق.
“أشهد أن لا إله إلا الله” وهو تذكير يوميّ متكرر بالعهد والميثاق الذي أعطاه العبد لربه بألا يعبد ولا يطيع إلا هو، المتفرد -سبحانه وتعالى- بالكبرياء في السماوات والأرض.
ثم يأتي الشق الثاني من الشهادة “أشهد أن محمدًارسول الله” وهو إقرار متكرر أيضًا بالطريق التي تؤخذ عنه هذه العبادة المشروعة، والتي لا تصح إلا بالتلقي عنالوحي الإلهي الذي جاء به المعصوم -صلى الله عليه وسلم.
ثم يأتي رابعًا الدعوة إلى الصلاة نفسها في جملتين فقط “حي على الصلاة حي على الصلاة”، وهذا بمعنى أقبلوا على الصلاة؛ لأن الأذان -كما قولنا- أبعد مدًى وأشمل آثارًا.
ثم يأتي خامسًا الدعوة العامة إلى الفلاح المطلق المتمثل في الاستجابة لهذا الدين الإلهي الأغر، وإلى مثله وتعاليمه وفي مقدمتها الصلاة بداهة؛ ولذلك يعود الشارع بالمؤذن إلىنقطة البدء وليكرر في الختام التأكيد على تفرده تعالى بالكبرياء، وإعلان التوحيد بصيغة الإقرار والإثبات بعد صيغة الشهادة السابقة “الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله”.
معنى هذا أن الأذان وحده يجري على ألسنة المؤمنين، ويسكب في ضمائرهم، ويغرس في حياتهم ووجدانهم إفراد الله تعالى بالكبرياء (ثلاثين مرة يوميًا)، وإفراده تعالى بصفة الإلهية الذي يعني تفرده تعالى بالعبادة والطاعة (خمس عشرة مرة)، وهو نداءٌ لا يتقيد بحدود معبد أو مسجد، وإنما ينطلق ليدخل كل بيت وليصافح كل سمع وليطرق كل قلب يريد الهدى -والله تعالى أعلم- وإذا كان هذا شأن الوسيلة في تقرير الأصول العليا، فإن المقصد الذي تؤدي إليه وهو الصلاة أعظم شأنًا وأتم مظهرًا.
وننتقل لنتكلم عن الصلاة وما يلحق بها من العبادات، فقد فرضها الله تعالى على كل بالغ من الذكور والإناث خمس مرات في اليوم والليلة، وهو يبدأها بالتكبير، ويظل كل مصلٍ يكرر هذه الجملة الله أكبر في صلوات الفرض فقط أربعًاوتسعين مرة عدا ما يقرع سمعه بعددها من صلوات إمامه إذا صلى جماعة، فضلًا عن السنن الراتبة والنوافل المطلقة وهي أضعاف ذلك، ثم إن العبد يتلو كتاب ربه في صلاته، ويحني له ظهره راكعًا، ويخرُّ بجبهته ساجدًا، ويناجي مولاه معظمًا ومسبحًا وحامدًا وداعيًا، وليس هناك في الوجود أسمى وأجل من هذه الشعيرة في ربط العبد بهذا السلطان الأعلى، وفي إلهام نفسه بمعاني عظمة الله وسموه وتفرده، وتزكية النفس باطراد تبعاً لذلك، وتذكيرها بجلاله وهيبته التي تخر لها شم النواصي سُجدًا لله رب العالمين.
ولذلك كانت الصلاة عندما تؤخذ على وجهها الصحيح واحة راحة، يسكن إلى ظلها المؤمن كلما مسه لغوب الحياة والناس وتصارع الأحقاد، ويلوذ فيها بكنف ملك الملوك فيستشعر فيها الأمن والإيمان؛ ولذلك جاء في الحديث الشريف: “وجعلت قرة عيني في الصلاة”، رواه أحمد والنسائي وغيرهما،وهذا مصداق قول الله -عز وجل: ]إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا$ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا$ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا$ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ$ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ[(المعارج:19-22).
إن الإنسان لينسى الكثير من قيم الإنسانية ومن مثلها العليا في غمار الحياة وصراعها، ولكنه هنا هيهات أن ينسى، وصوت المؤذن يملأ الآفاق حوله، والصلاة تلو الصلاة تجذبه كل بضع ساعات إلى دائرة العقيدة العليا، وتجدد في نفسه آثارها، ثم الجماعة والمسجد والإمام والوقت المحدد المتكرر كلها حوافز وضمانات حتى لا يترك الإنسان نفسه لهواها، بل تدمجه هذه الشعيرة الكريمة في وسط حيّيتفاعل معه،يذكّر ويتذكر من خلاله.
وعلى هذا المنوال يأتي الدعاء والضراعة واللجوء إلى الله تعالى بلا رسوم ولا هياكل ولا كهان، فتظل تبعًا لذلك جذوة العقيدة متّقِدَة تضيء صدر الإنسان وحياته وتمدها بنور لا يخلو من فضل الله، وكم هو حكيم وجميل أن يأتي في القرآن الكريم تعقيبًا على المثل الذي ضربه الله تعالى لنوره الأسنى، ذلك القول الجليل عن بيوت العبادة والذكر والرجال الكرام الذين لا يشغلهم شيئ عن ذكر مولاهم وعن الصلاة والزكاة، كما قال ربُّنا: ]الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ[(النور:35) ثم بعد الآية يقول: ]فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ$ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار[(النور:36، 37).
ثانيًا: تأسيس وتثبيت القيم الأخلاقية:
إذا كانت العبادات تؤدي إلى تثبيت العقائد، فهي أيضًا تثبت القيم الأخلاقية في النفوس مع أنها عبادات محضة، فقد جاء هذا المنهاج الإلهي ليتمم مكارم الأخلاق، وليرسي في الناس أسمى أمثال المثل العليا والفضائل السامية كالصبر، والمثابرة، والسماحة، والسخاء، والصدق، والتراحم، والمواساة، والأمانة… وغير ذلك من القيم التي تقوم عليها عظمة الفرد والمجتمع، والتي تحقق للإنسان سعادته في الدنيا فضلًا عن الآخرة.
وللعبادات بأنواعها مهمة تأسيسيه في تثبيت هذه الأخلاق وفي تدعيمها وبذر بذورها في نفس المؤمن ووجدانه دائمًا.
فالصلاة مثلًا تعود المؤمن الصبر، والدأب، والإخلاص، والنظام، حتى تصبح جميعًا خلقًا راسخة في النفس يطبع سلوكها من حيث تشعر أو لا تشعر، فالمسلم النائم حين يقوم من لذة النوم على نداء المؤذن: الصلاة خير من النوم، وكذلك حين ينسحب من زحمة الأسواق وهوشاتها، ولغط المجتمعات إلى من يناديه: حي على الصلاة، ثم لا يزال دأبه هكذا عبر الساعات والأيام والأعوام، فهذا وأمثاله لا بد أن تتربى فيهم هذه المعاني الخلقية العالية.
والزكاة التي أخذت من معنى الزيادة والنماء والتطهير،لهاهي الأخرى أكبر الأثر في تنقية الخلق من زخم الشح والبخل والإمساك، وفي طبعه بطابع البذل والعطاء والسخاء، كذلك تستل سخيمة صدور المحتاجين، وتبدل به شيئًا من خلق الحب والمودة، أو على الأقل سلامة الصدور؛ فتشع في المجتمع تبعًا لذلك كل علائق التداني والتقارب، وتترطب صلات الناس بمشاعر الألفة، وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ[(التوبة:103).
والصوم له عمله الأساسي في تربية الإرادة الإنسانية، والضمير الحي اليقظ الذي يتعامل على أساسٍ من رقابة الله تعالى، واطلاعه عليه فضلًا عن غرس خليقة الصبر والضبط النفسي بالإمساك الطويل عن شهوتي البطن والفرج، وبالكف عن الصخب واللغو، والقدرة على تغيير عاداته حتى لا يتعود الجمود، أو تستبعده عاداته وتقاليده، فيعلمه مثلًا أن يأكل في الليل وأن يستيقظ فيه وأن يقلع عن لذائذ حياته مدة طويلة، وهو الذي لا يستطيع فراقها في الأحوال العادية ساعة من زمان، ويزعم استحالة ذلك؛ فيعلمه الصوم أن ذلك ممكن وواقع وأنه يتربى عليه، وكل هذه آثار خلقية في حقيقتها تتحقق بضروب العبادات الإسلامية.
أما الأثر الاجتماعي لفريضة الحج، فواسع شامل خليق بأن تؤلف فيه الكتب المستقلة، ولا زالت آثاره تتبدى كل يوم بجديد من حكمة الله تعالى في تشريعه، وقد أشار القرآن الكريم إلى كثيرٍ من ذلك قال تعالى: ]لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا الله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ[(البقرة:198).
وروى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في موسم الحج، فسألوا رسول الله ^ فنزلت الآية: ]لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ[.
بل قال بعض المفسرين: إن تسمية التجارة فضلًا ونسبته إلى الله تعالى بقوله: ]مِنْ رَبِّكُمْ[ يشعر بأنه نوعٌ من العبادة له أجره وثوابه على قدر النية فيه.
وقال تعالى: ]وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ$ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله[(الحج:27، 28) والمنافع المشهودة كلمة جامعة تشمل: المنافع الروحية، والمادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية، وسائر ما يطلق عليه اسم المنفعة، وقد جعلتغاية من غايات الحج، وتقديمها على ذكر الله تعالى إيذانٌ ببالغ أهميتها في مراتب المنافع والحكم الشرعية، وإن من أعظم هذه الفوائد جمع أطراف الأمة المسلمة كل عام، وما يحققه من استنفار جزءٍ من كل إقليمٍ سنوياليركبوا الأخطار والأسفار، ويقطعوا السهول والقفار، أو يمتطوا الأجواء والبحار، ويتركوا الأهل والديار؛ ليتحرروا طوعًا أو كرهًا من إسار العادات وجمود التقاليد،ويكتسبواكل جديد مفيد، وأي دين هذا الذي يجعل من فرائضه استخراج الفلاح من عزلته، والنائي البعيد من منقطعة، فتجتمع الأرض من أطرافها ويلتقي الهندي بالشامي، والجاوي بالمصري، والشرقي بالغربي في مؤتمر جامع وفي رحلة مباركة؛ ليحققوا عمليًا دعوة القرآن بالسير في الأرض والسياحة في الآفاق، ومطالعة المشاهد المقدسة، ومنازل الوحي، وآثار النبوة منذ أبي الأنبياء إبراهيم إلى خاتمهم محمد صلى الله عليهمجميعًا، ثم مدارجالصحابة -رضوان الله عليهم- التي تهب على المسلمين منها روح الإخلاص والبذل والانقياد المطلق لله -عز وجل- ويوم يكتب تاريخ المسلمين الحديث من وجهة نظر إسلامية فلسوف يتجلى أن فريضة الحج وشعيرة العمرة كانامن أهم العوامل العملية ذات التأثير البالغ في إحياء مشاعر المسلمين،وتوحيدها واستثارتهم لمقاومة أعدائهم، وللتأبي على مكائد الاستخراب العالمي الحقود حين ضرب نطاقًا حديديًّا من الحدود المصطنعة لعزل الأقاليم الإسلامية بعضها عن بعض، وإغرائها بإحياء تاريخها الجاهلي القديم من الفرعونية والبابلية والآشورية والفينيقية والبربرية وغير ذلك.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...