كتب: أسامة حمدان
لم يكن يعلم الجد “علي أحمد أبو النصر” العالم الأزهري، والشاعر الأديب وأحد رواد النهضة الأدبية في مِصْر في عصر الخديوي إسماعيل، عندما اشترك في التجهيز للثورة العرابية، وحتى عندما قرر الخديوي توفيق تحديد إقامته في منزله بمنفلوط، أن جينات الحق ستقفز وتتخطى الزمن وتنبعث من جديد في عروق حفيده، المرشد الرابع لجماعة الإخوان المسلمين “محمد حامد أبو النصر”.
ظن الباطل أنه تخلص من الجد بعدما دس السم له فمات في أواخر عام 1880م، وكان المعروف آنذاك أن الشنق للعلماء ذوي النفوذ والجاه، يثير غضب الشعب على حكامه الديكتاتوريين، ولكن الله أراد ان يخرج من صلب الحق حقًّا جديدًا؛ لأن الحق باق في الأرض لا يموت.
هكذا كانت بيئة (محمد حامد أبو النصر) مزيجًا من الدين والأدب والسياسة يترجم ذلك اشتراكه في تأسيس الجمعيات الدينية، والمحافل الأدبية، والاشتراك في الأنظمة السياسية إذ كان أمين صندوق جمعية الشبان المسلمين، ورئيسًا لجمعية الإصلاح الاجتماعي، وعضوًا بلجنة الوفد المركزية بمنفلوط.
المرشد الراحل في سطور
– ولد (6 من ربيع الآخر 1331هـ الموافق 25 من مارس 1913م) بمنلفوط التابعة لمحافظة أسيوط.
– وهو سليل أسرة كريمة تعود إلى الشيخ علي أحمد أبو النصر من رواد الحركة الأدبية في مصر.
– تلقى تعليمه مدنيًا في المدارس، وحصل على شهادة الكفاءة سنة 1933م.
– تميز في مطلع عمره بالمشاركة الاجتماعية والعمل الإسلامي، فكان عضوًا في جمعية الإصلاح الاجتماعي في منفلوط سنة 1932م، وعضوًا في جمعية الشبان المسلمين سنة 1933م.
– انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين سنة 1934م.
– اختير عضوًا في مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين.
– تعرض للمحنة العاصفة التي حلت بالجماعة سنة 1954م، فقبض عليه مع زملائه من مكتب الإرشاد وغيرهم من أفراد الجماعة، وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
– ظل في المعتقل حتى خرج في عهد الرئيس محمد أنور السادات.
– بعد خروجه من المعتقل عاود نشاطه الدعوي في جماعة الإخوان.
– اختير مرشدًا عامًا للإخوان بعد وفاة الأستاذ عمر التلمساني في سنة 1986م.
– في فترة توليته مرشدًا للجماعة دخل أكبر عدد من الإخوان في مجلس الشعب المصري، وشهدت الجماعة نموًا مطردًا.
– توفى سنة 1996م عن عمر يناهز الثلاثة والثمانين.
البيعة الأولى
بدأ تعرفه على جماعة الإخوان المسلمين، من خلال الصداقة التي نشأت بينه، وبين فضيلة الشيخ المرحوم/ محمود سويلم الواعظ السلفي الأزهري الذي كان يحدثه بين ألفينة والأخرى عن الإمام الشهيد”حسن البنا” – رحمه الله – وعن جهاده في سبيل رفعة الإسلام، والمسلمين، إذ ربي كثيراً من الشباب في مختلف البلاد، ابتغاء تحقيق هذا الهدف العظيم.
وفي عام 1934 – 1935م أخبره صديقه الأستاذ المرحوم”محمد عبد الدايم بوجود فضيلة الإمام الشهيد بجمعية الشبان المسلمين بأسيوط، فنتناول الهاتف وطلبة في ذاك المكان، فتفضل –رحمه الله– واستجاب إلى ندائه، ودار الحديث الآتي بينهما:
فضيلة الأستاذ “حسن البنا” قال: نعم.. قلت له: لقد أنار الصعيد بزيارتكم فهل لمنفلوط أن تحظى بمثل هذه الزيارة؟ فقال فضيلته –رحمه الله–: هل الأرض صالحة؟ فقلت بملء فمي: نعم تنتظر البذر.. فسر لهذه الإجابة.. فقال: إذن سنلقاك باكرًا بمشيئة الله –تعالى– في منزلكم قبل الغروب.
يحكي الأستاذ قائلاً:
“عندما انتهى الحفل الذي حاضر فيه الأستاذ البنا بمنفلوط، وانصرف الجميع، وفي نفس كل منهم تقدير، وإكبار، وإعجاب بالإمام الشهيد، مؤملين النفس أن يلتقوا به مرة أخرى فيستزيدون من معينه الذي لا يغيض، ومن روحه الفياضة، ثم انتقل إلى داري مرة أخرى حيث هُيئت له حجرة خاصة للنوم، ودخلها باسم الله، وجلس على الفراش متربعًاوقال: هيه.. هيه يا سيد محمد اجلس، ماذا أعجبك الليلة؟”.
فقلت له ما يجول بخاطر كل شاب في ذاك الوقت من حسن خطبته، وجمال توقيعها، وموقفه كخطيب فقال لي يمكن ما رأيك في المعاني التي ذكرت؟ قلت له: إن المعاني التي ذكرتها فضيلتك كثيراً ما تجري على ألسنة الخطباء، والوعاظ والعلماء… لكن ليس هذا هو السبيل للرجوع بالمسلمين إلى عهدهم، وأمجادهم السالفة. قال إذن ماذا ترى؟ وكنت في ذاك الوقت متوشحاً مسدسي الذي لا يفارقني في مثل استقبال ذلكم الزائر الكريم الذي أحببته قبل أن أراه. فقلت له: إن الوسيلة الوحيدة للرجوع بالأمة إلى أمجادها السالفة هو هذا… وأشرت إلى مسدسي فانبسطت أساريره كأنما لقي بغيته، وعثر على مطلبه، وقال لي: ثم ماذا؟.. تكلم… فعشت في هذه الكلمات برهة قطعها فضيلته باستخراج المصحف الشريف من حقيبته قائلاً: هل تعطي العهد على هذين مشيرًا إلى المصحف والمسدس؟ فقلت: نعم بدافع قوي أحس به، ولا أستطيع أن أصفه، اللهم إلا الفيض الإلهي الغامر، والسعادة الأبدية التي أرادها الله لي في سابق علمه.
وبعد أن تمت البيعة بهذه الصورة، قال فضيلته مهنئناً: مبارك إنها الأولى في صعيدكم.
ومن ذلك الحين ارتبطت بالرجل ارتباطاً خاصاً وثيقاً… ارتباطاً نسيجه الحب والوفاء، وفيه كل معاني الرجولة الصادقة. ومن هذا المنطلق ابتدأت أعمل في محيط الإخوان كأحدهم، وفي حقل الدعوة كأحد عمالها الذي أرجو أن أكون من الصادقين منهم. وبهذه المناسبة أحب أن نوضح أنه ليس المقصود من وجود المصحف بجوار المسدس هو القتل والاغتيال، إنما هو إشارة إلى حماية الحق بالقوة مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) نسأله تعالى الثبات على الحق، والعمل له غير مبدلين، ولا مغيرين.
تأسيس الشعبة الأولى
يحكي الأستاذ أبو النصر قائلاً:
“وفي اليوم التالي لزيارة الإمام الشهيد لمنفلوط طلب مني فضيلته أن أستدعي له بعض الشباب من الذين حضروا الحفل بدار الشبان المسلمين بالأمس، حتى يلتقي بهم على الدعوة، فقلت له: لا بأس – على أني لا أستطيع أن أترك جمعية الشبان المسلمين التي أعمل فيها الآن، ولا بأس من أن نلتقي بهؤلاء الشباب الذين – سأحضرهم لدى فضيلتكم في حجرة صغيرة ضمن حجرات دار الجمعية فوافق فضيلته وقال هذا يكفي.
المهم اللقاء على الفكرة دون النظر للمسميات وفعلاً دعوت لفضيلته حوالي عشرين شاباً أغلبهم من مدرسي المرحلة الأولية في ذاك الوقت وتناولوا مع فضيلته طعام الغذاء على طريقة مبسطة سعد بها حيث فرش بساط على الأرض واجتمعنا عليه في شكل حلقة ويظهر أن هذا الوضع المبسط وقع في نفسه موقعاً جميلاً مما يدل على أن هذه البساطة مبدأ بارز من مبادئه في تربية النشء وتهيئة الجماعة، وتحدث حديثاً عذباً فياضاً، ونظر إليهم نظرة جعلتهم يكبرون في نظر أنفسهم من حيث إنهم مسئولون عن الإسلام وعن دعوة الناس للنهوض به من جديد، فلما أحسوا بهذا المعنى في أنفسهم تهيأوا لتلقي البيعة في سبيل هذه الدعوة قائلاً لهم يكفي أن نرتبط على هذه المعاني، وعليكم أن تجتمعوا مرة واحدة كل أسبوع وتتذكروا سيرة الرسول والصحابة رضوان الله عليهم وأشار عليهم بقراءة كتاب حماة الإسلام، وقرأ معهم سورة العصر وانفض الاجتماع”.
“ومن ذلك الحين التقت هذه المجموعة في أماكن مختلفة من أبرزها مكتب تحفيظ القرآن الكريم الملحق بمسجد “أبو النص” بمنفلوط. ونذكر أنه عندما زار الإمام الشهيد تلك الشعبة في أيامها الأولى كتب بيده هذه العبارة تسجيلاً لزيارته الكريمة:
(دعوتنا قصة من قصص القرآن الكريم فيها عبرة وعظة وهداية ونور، إن بدا اليوم أحدوثة في أفواه الناس فهي في الغد حقيقة في مجتمعاتهم – وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم نبتت الدعوة الأولى، وفي مثل هذه الدار يعيد التاريخ سيرته، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
(الفقير إلى الله حسن البنا)
من مؤلفاته: حقيقة الخلاف بين “الإخوان المسلمين” وعبد الناصر.
وفاته: تُوفي محمد حامد أبو النصر في القاهرة فجر يوم السبت 20 يناير عام 1996م عن عمر ناهز 83 عاما.