ثورة بقلم: الإمام حسن البنا

2 ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (التوبة).

“اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال” (صحيح الإمام البخاري، كتاب الجهاد والسير، وصحيح الإمام مسلم، كتاب الذكر). نموذج من أدعية رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

ألا تراه ثورة على كل مظاهر الضعف في الإنسان: على الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال؟

يتحدثون عن الثورة الفرنسية بالأمس، فيكثرون الحديث عنها، ويقولون إنها قررت حقوق الإنسان، وأعلنت الحرية والإخاء والمساواة ويجعلونها مشرق الشمس ومفتاح التاريخ لنهضة الغرب الحديث.

ويتحدثون اليوم عن الثورة الروسية، فيكثرون الحديث عنها، ويرى كثير من الذين يعلمون أو لا يعلمون أنها انتصفت للفقراء من الأغنياء، وأشاعت معنى المساواة بين الطبقات، وأعلنت العدالة الاجتماعية في الناس.

ويذكرون الإسلام الحنيف، فلا يرى فيه الكثير من الناس إلا أنه “دين”، ويحملون هذه الكلمة من الصور والرسوم والخيالات ما تمليه عليهم ثقافتهم المتباينة، فمنهم مَن يتصور هذا الدين ضعفًا وتخاذلاً، ومنهم من يظنه كسلاً وتواكلاً.

ومنهم من يذهب إلى أنه رقى وتمائم وشعوذات وعزائم، ومنهم من لا يجاوز به معاني العبادات الروحية ، والطقوس الشكلية ، وخيرهم من يراه صلة بين العبد وربه وتطهيراً لروجه ونفسه.

والأقلون عددًا من يدركونه على حقيقته، ويتعمقون في تصور غايته ووسيلته، وحدة في الإصلاح الاجتماعي كاملة شاملة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ( النحل: 89 ).

بل إن من الناس من يذهب به الجهل بالإسلام إلى أغرق المذاهب في الوهم وأبعدها في الضلال، فيظن الإسلام عقبة في طريق الإصلاح، وإضعافًا لروح المقاومة والكفاح، وصرفًا للجماهير عن تعرف حقوقها، ومخدرًا إياهم عن المطالبة بها والجهاد في سبيلها، وهو لذلك يحاربه أشد المحاربة، ويتجنى عليه أعظم التجني، ويصف أهله والعاملين له والداعين بدعاوى الرجعية والتأخر، وخصوم التقدم والتحرر.. إلى غير ذلك من أوصاف ونعوت اخترعوها، ما أنزل الله بها من سلطان ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى﴾ ( النجم: 23 ).

ونسي الجميع أن الإسلام في غايته ووسيلته ثورة كبرى، تتضاءل دونها نظريًّا وتاريخيًّا آثار الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية.

ثورة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى يزلزل الأوضاع الفاسدة، ويحطم صروح البغي والعدوان الشامخة، ويحدد معالم الحياة وأوضاعها، ويقيمها على أثبت الدعائم وأكرم القوائم.

ثورة على الجهل، جهل الإنسان بنفسه، لأنه عرف الإنسان ما الإنسان، وجهل الإنسان بكونه لأنه ربط ما بينه وبين هذا العالم العجيب بأوثق رباط، وجعل دوام النظر والدأب على التفكير طريق العلم والعرفان، وجهل الإنسان بربه لأنه رسم للناس أقوم السبل في معاملة الواحد الديان.

وثورة على الظلم بكل معانيه، ظلم الحاكم للمحكوم لأنه قرر بينهما التكافل والمساواة والتعاون والمصافاة، وعرف كلاًّ منهما حقوقه وواجباته، وفرض عليه أن يكون لها راعيًا وعليها محافظًا، وقضى على كل معاني التعسف والاستعباد والتحكم والاستبداد وظلم الغني للفقير، فالغني مسئول عن أخيه، وله في ماله حق معلوم لا يستطيع أن يجحده أو يتخلف عن أدائه، والقانون والدولة بعد ذلك من ورائه، والخليفة الأول يقول: “والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم متى استمسك السيف بيدي” (صحيح الإمام البخاري، كتاب الاعتصام، وصحيح الإمام مسلم، كتاب الإيمان)، وظلم القوي للضعيف فلا قوة ولا ضعف في الإسلام إلا بميزان الحق، فأقوى الأقوياء صاحب الحق حتى ينتصف له، وأضعف الضعفاء صاحب الباطل حتى ينتصف منه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.

وثورة على الضعف بكل مظاهره ونواحيه:

ضعف النفوس بالشح والإثم.

وضعف الرءوس بالغباء والعقم.

وضعف الأبدان بالشهوات والسقم.

فيا أيها المنصفون، لا تظلموا الحقائق بجهلها أو بتجاهلها، واذكروا دائمًا أنه إذا كانت الثورة الفرنسية قد أقرت حقوق الإنسان، وأعلنت الحرية والمساواة والإخاء، وإذا كانت الثورة الروسية قاربت بين الطبقات، وأعلنت العدالة الاجتماعية في الناس، فإن الإسلامية الكبرى قد أقرت ذلك كله من قبل ألف وسبعمائة سنة، ولكنها سبقت سبقًا لن تلحق فيه في أنها جملت ذلك وزينته بالصدق والعمل، فلم تقف عند حدود النظريات الفلسفية، ولكن أشاعت هذه المبادئ في الحياة اليومية العملية، وأضافت إليه بعد ذلك السمو بالإنسان واستكمال فضائله ونزعاته الروحية والنفسانية، لينعم في الحياتين، ويظفر بالسعادتين، وأقامت على ذلك كله حراسًا أشداء أقوياء من يقظة الضمير، ومعرفة الله وصرامة الجزاء وعدالة القانون.

فهل بعد ذلك من زيادة لمستزيد؟ اللهم لا.

———-

* جريدة الإخوان المسلمين اليومية- السنة الأولى – العدد 117، 4 – 23 شوال 1365 هـ / 19 سبتمبر 1946م.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بالفيديو : من رسائل الإمام البنا ( رجل العقيدة)

بالفيديو : من رسائل الإمام البنا ( رجل العقيدة)https://www.youtube.com/watch?v=3AaYkEcA1UU