الحمد لله والصلاة على رسول الله وبعد
قال الله تعالى { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقال :
{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه } .
وفى الحديث : أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً لا حساب عليهم ، ثم قال
( هم الذين لايكتوون ، ولا يسترقون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون ) أخرجاه فى الصحيحين .
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً ) وكان من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم ? اللهم إنى أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال ، وصدق التوكل عليك ، وحسن الظن بك ) .
و التوكل ينبنى على التوحيد و التوحيد طبقات :
منها : أن يصدق القلب بالوحدانية المترجم عنها قولك : لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، له الملك و له الحمد وهو على كل شىء قدير ، فيصدق بهذا اللفظ لكن من غير معرفة دليل فهو اعتقاد العامة .
الثانية : أن يرى الأشياء المختلفة فيراها صادرة عن الواحد وهذا مقام المقربين .
و الثالثة : أن الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أنه لا فاعل سوى الله لم ينظر الى غيره ، بل يكون الخوف منه و وله الرجاء وبه القثقة و عليه التوكل ، لأنه فى الحقيقة هو الفاعل وحده ، فسبحانه و الكل مسخرون له ، فلا يعتمد على المطر فى خروج الزرع ، ولا على الغيم فى نزول المطر ، ولا على الريح فى سير السفينة ، فإن الاعتماد على ذلك جهل بحقائق الأمور ، ومن انكشفت له الحقائق ، علم أن الريح لا تتحرك بنفسها ولابد لها من محرك .
فالتفات العبد فى النجاة الى الريح يضاهى التفات من أخذ لتضرب عبقه فوقع له الملك بالعفو عنه ، فأخذ يشتغل بذكر الحبر و الكاغد و القلم الذى كتب به التوقيع ، ويقول : لولا هذا القلم ما تخلصت ، فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم ، وهذا غاية الجهل ومن علم أن القلم لا حكم له فى نفسه ، شكر الكاتب دون القلم ، وكل المخلوقات فى قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم فى يد الكاتب ، فسبحان مسبب الأسباب الفعَّال لما يريد .
اعلم أن التوكل مأخوذ من الوكالة ، يقال : وكَّلَ فلان أمره الى فلان ، أى فوَّض أمره إليه واعتمد فيه عليه .
فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكل ، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء : الشفقة ، القوة ، و الهداي ، فإذا عرفت هذا فقس عليه التوكل على الله سبحانه وتعالى ، وإذا ثبت فى نفسك أنه لا فاعل سواه ، واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم و القدرة و الرحمة وأنه ليس وراء قدرته قدرة ، ولا وراء علمه علم ، ولا وراء رحمته رحمة اتكل قلبك عليه وحده لا محالة ، ولم يلتفت الى غيره بوجه ، فإذا كنت لا تجد هذ الحالة من نفسك فسببه أمرين :
– إما ضعف اليقين بأحد هذه الخصال .
– وإما ضعف القلب باستيلاء الجبن عليه ، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه ، فإن القلب قد ينزعج ببقاء الوهم وطاعته له من غير نقصان فى اليقين ، فإنه قد يتناول عسلاً فيشبه بين يديه بالعذرة ربما نفر طبعه منه وتعذر عليه تناوله
ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت فى قبر أو فراش أو بيت ، نفر طبعه من ذلك ، وإن كان متيقناً كونه ميتاً جماداً فى الحال ، ولا ينفر طبعه عن سائر الجمادات وذلك جبن فى القلب ، ونوع ضعف قلما يخلو الإنسان منه ، وقد يقوى حتى يصير مرضاً ، حتى يخاف أن يبيت فى البيت وحده مع غلق الباب وإحكامه.
فإذاً لايتم التوكل إلا بقوة القلب ، وقوة اليقين جميعاً ، فإذا انكشف لك معنى التوكل ، وعلمت الحالة التى تسمى توكلاً ، فاعلم أن تلك الحالة لها من القوة و الضعف ثلاث درجات :
الأولى : ما ذكرناه وهو أن يكون حاله فى حق الله تعالى كالثقة بكفالته وعنايته كحاله فى الثقة بالوكيل .
الدرجة الثانية : وهى أقوى ، أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه ، فإنه لايعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها ، ولا يعتمد إلا إياها ، وإن نابه أمر كان أول خاطر يخطر على قلبه ، وأول سابق الى لسانه : يا أماه ، فمن كان تألهه الى الله ، ونظره إليه ، واعتماده عليه كلف به كما يكلف الصبى بأمه فيكون متوكلاً حقاً .
والفرق بين هذا وبين الأول ، أن هذا متوكل قد فنى فى توكله عن توكله ، إذ لا يلتفت الى غير المتوكل عليه ، ولا مجال فى قلبه لغيره .
وأما الأول فهو متوكل بالتكليف و الكسب ، وليس فانياً عن توكله ، بل له التفات إليه ، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده .
الدرجة الثالثة : وهى أعلى منهما ، أن يكون بين يدى الله تعالى مثل الميت بين يدى الغاسل ، لايفارقه إلا أنه لايرى نفسه ميتاً ، وهذا يفارق حال الصبى مع أمه فإنه يفزع الى أمه وييصح ويتعلق بذيلها .
وهذه الأحوال توجد فى الخلق ، إلا أن الدوام يبعد ولا سيما المقام الثالث .