أجر المهاجر عظيم

elmohajer

الهجرة قدر الله لأنبيائه ورسله، ولقد أُخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم مع بدء نزول الوحي، وحين ذهبت به زوجه أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – إلى ورقة بن نوفل وقالت له: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله : أوَ مُخْرجِيّ هم؟ قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحي .
يقول ابن حجر: واستبعد النبي أن يخرجوه؛ لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي وصفته به خديجة – رضي الله عنها: ” إنك لتصل الرحم، وتحمل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق” . وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج. فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم .
1 – نماذج من هجرة المرسلين:
ما من نبي إلا وكانت له هجرة، حيث كانوا يدعون قومهم إلى الإيمان ويسوقون لهم كل الحجج والبراهين ويستخدمون كافة الأساليب والوسائل، وفي ظل مبدأ الحكمة والموعظة الحسنة، ومع ذلك كان يضيق بهم قومهم ويصمون آذانهم، ويغلقون عقولهم عن دعوة الرسل، مما كان يضطر الرسل إلي تركهم والهجرة من بينهم بحثا عن أرض طيبة تقبل بذور الخير، وتعلوا فيها شجرة الإيمان، وتؤتي ثمارها، ومن هؤلاء الرسل:
أ – نوح عليه السلام: حيث أعيته الحيل بعد أن دعا قومه ليلا ونهارا سرا وجهارا، ومع ذلك لم يستجيبوا بل ازدادوا إصرارا على الكفر وفرارا من الإيمان، فكانت السفينة التي حملت المؤمنين حيث استقرت على الجودي بعد أن أهلك الله الكافرين وأغرقهم.
ب – إبراهيم عليه السلام: حيث هاجر من أرض العراق إلي أرض الشام، وكانت حياته سلسلة من السياحات حيث رحل من الشام إلي مصر، ثم عاد إلى فلسطين، ثم رحل إلى مكة معه وليده إسماعيل، وأمه هاجر في واد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام.
جـ – لوط عليه السلام: حيث رفض قومه دعوته لهم بالتطهر من الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، فأمره الله بالخروج من تلك القرية التي كانت تعمل البائث قبل أن ينزل بها عذاب الله، وفيه وفي إبراهيم عليهما السلام يقول الله تعالى: ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين .
ويقول الله تعالى: ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فسقين. وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .
د – موسى عليه السلام: وهجرنه بقومه معروفة، والقرآن الكريم قصها في أكثر من موضع، حيث عبر البحر هو وقومه وأهلك الله فرعون وجنده.
هـ – وخاتم الرسل والأنبياء محمد : تضيق مكة بدعوته، وينزلون به وبأصحابه صنوف العذاب، فيأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، ويمكث هو في مكة إلى أن يأتيه الأمر من السماء بالهجرة إلى المدينة، والتي نحن بصدد الحديث عنها.
2 – أنواع الهجرة:
قال ابن العربي: قسم العلماء – رضي الله عنهم – الذهاب في الأرض قسمين: هربا، وطلبا.
فالأول ينقسم إلى ستة أقسام:
الأول: الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلي دار الإسلام، وكانت فرضا في أيام النبي  وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي  حيث كان، فإن بقي في دار الحرب عصي، ويُخْتَلف في حاله.
الثاني: الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف.
قال ابن العربي: وهذا صحيح؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فَزُل عنه، قال الله تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين .
الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام؛ فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
الرابع: الفرار من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه، فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه؛ ليخلصها من ذلك المحذور. وأول من فعله إبراهيم عليه السلام؛ فإنه لما خاف من قومه قال: إني مهاجر إلى ربي وقال: إني ذاهب إلى ربي سيهدين . وقال مخبرا عن موسى: فخرج منها خائفا يترقب (8)وقال تعالى: ففررت منكم لما خفتكم .
الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النّزِهة.
وقد أذن النبي  للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا. وقد استُثني من ذلك الخروج من الطاعون، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه .
السادس: الفرار خوف الأذية في المال؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد.
وأما قسم الطلب، فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام:
الأول: سفر العبرة، قال الله تعالى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . وهو كثير.
ويقال إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها. وقيل: لينفذ الحق فيها.
الثاني: سفر الحج. والأول وإن كان ندبا فهذا فرض.
الثالث: سفر الجهاد وله أحكامه.
الرابع: سفر المعاش؛ فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه، من صيد أو احتطاب أو احتشاش؛ فهو فرض عليه.
الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم .
يعني التجارة، وهي نعمة مَنّ الله بها في سفر الحج، فكيف إذا انفردت.
السادس: في طلب العلم، وهو مشهور.
السابع: قصد البقاع، قال : ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” .
الثامن: الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها.
التاسع: زيارة الإخوان في الله تعالى: قال رسول الله : ” زار رجل أخا له في قرية فأرصد الله له ملكا على مدرجته، فقال: أين تريد ؟ فقال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تَرُبُّها عليه قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه” .
3 – جزاء المهاجرين في القرآن الكريم:
وقد جاء في الذكر المجيد الجزاء الحسن الذي وعد الله به المستضعفين في الأرض، الذين يحرمون من حق الإقامة في أوطان ولدوا فيها، وتربوا في أحضانها.
لقد وعد الله هؤلاء بجزاء في الدنيا عاجل وثواب عظيم مدخر في الآخرة، قال الله تعالى: والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوِئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون .
والحسنة في الدنيا جاء في تفسيرها أقوال ستة:
الأول: نزول المدينة.
الثاني: الرزق الحسن.
الثالث: النصر على عدوهم.
الرابع: إنه لسان صدق بالثناء الحسن في الآخرين، بمعنى دعاء إبراهيم عليه السلام: واجعل لي لسان صدق في الآخرين .
الخامس: ما استولوا عليه من فتوح البلاد، وصار لهم فيها من الولايات.
السادس: ما بقي لهم في الدنيا من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف.
وكل ذلك اجتمع لهم بفضل الله، والحمد لله.
وروي عن عمر بن الخطاب، أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول: خذ… بارك الله لك، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .
وعن جزاء المهاجرين المرابطين في سبيل الله يقول الله تعالى: والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين. ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم .
وسبب نزول هذه الآية أنه لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه؛ فنزلت هذه الآية مسوية بينهم، وأن الله يرزق جميعهم رزقا حسنا. وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول أفضل.
وقد قال بعض أهل العلم: إن المقتول في سبيل الله والميت في سبيل الله شهيد، ولكن للمقتول مَـزِيّـة ما أصابه في ذات الله.
وقال بعضهم: هما سواء، واحتج، وبقوله تعالى: ومن يجرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره علي الله .
وبحديث أم حرام، فإنها صرعت عن دابتها فماتت، ولم تقتل، فقال لها النبي : “أنت من الأولين ” .
وبقول النبي  في حديث عبد الله بن عتيك: “من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله – عز وجل – ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث الوسطي والسبابة والإبهام فجمعهن، وقال: وأين المجاهدون، فخر عن دابته ومات، فقد وقع أجره على الله تعالى، أو لدغته دابة فمات، فقد وقع أجره على الله، أو مات حَتْفَ أنفه فقد وقع أجره على الله عز وجل، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله  فمات فقد وقع أجره على الله تعالى، ومن مات قَعْصا فقد استوجب المآب” .
عن سلمان الفارسي: سمعت رسول الله  يقول: “من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر، وأجري عليه الرزق، وأمن الفتانين، واقرأوا إن شئتم: والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا .
وعن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي: – إنه كان برودس – فمروا بجنازتين: أحدهما قتيل، والآخر متوفي. فمال الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي أري الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا: هذا لقتيل في سبيل الله. فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اسمعوا كتاب الله: والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا .
وقال الله تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة .
المراغم التحول من أرض إلى أرض، والسعة الرزق .
ويبقى وعد الله بالجزاء الحسن لمن ضاقت بهم بلادهم وأوطانهم، وعجزوا فيها عن تحقيق العبودية لله، فأخرجوا منها طوعا أوكرها. . .
يبقى وعد الله لهؤلاء بأن يرزقهم السعة والرغد في هذه الحياة، مع عظيم ما ادخـر لهم في الآخرة…
ويتحقق وعد الله لهؤلاء فبعد أن كانوا لا يجدون الكفاف في بلادهم، إذا بهم يحيون في رغد من العيش في البلاد التي هاجروا إليها وعد الله حقا إنه لا يخلف الميعاد.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...