من المؤمنين رجال : المرشد الخامس الأستاذ مصطفي مشهور

1212

 

1- نشأته.
ولد الأستاذ مصطفى مشهور في الخامس عشر من شهرسبتمبرعام1921م في قرية السعديين التابعة لمحافظة الشرقيةبمصر،من أسرة معروفة بتدينها، وفضلها، وكرمها، دخل الكتاب وهو صغير، ليحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية في القرية، وأكمل دراسته الثانوية بالقاهرة، ثم التحق بكلية العلوم التابعة لجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)وتخرج فيها عام1942م وحصل علي بكالوريوس العلوم، وعمل بعد التخرج بوظيفة راصد جوي في مصلحة الأرصاد الجوية.
2- التحاقه بالجماعة والعمل الخاص:
التحق الأستاذ مصطفي مشهور رحمه الله بجماعة الإخوان المسلمين عام 1936م ومنذ ذلك التاريخ لم يفارق الجماعة لحظة واحدة في عسر ولا في يسر، وعاش لها بكل كيانه، وربط مصيره بمصيرها. انضم إلي الجهاز الخاص الذي أسسته جماعة الإخوان المسلمين عام 1940م بهدف مقاومة المحتل الإنجليزي وطرده من مصر وأبلي رجاله أحسن البلاء في مقاومة الإنجليز في القناة حتي أجبروهم علي الجلاء، وأبلوا كذلك أحسن البلاء في جهاد اليهود المغتصبين علي أرض فلسطين الحبيبة، تم القبض عليه وتقديمه للمحاكمة في قضية السيارة الجيب الشهيرة عام 1948م وسجن ثلاث سنوات رغم أن المحكمة ذكرت في حيثيات حكمها ما يثبت عظمة الهدف من إنشاء هذا الجهاز ووطنية أعضائه.
فقد جاء في هذه الحيثيات: “وحيث إنه سبق للمحكمة أن استظهرت كيفية نشأة جماعة الإخوان المسلمين، ومسارعة فريق كبير من الشباب إلى الالتحاق بها، والسير على المبادئ التي رسمها منشؤها والتي ترمي إلى تطهير النفوس مما علق أو عساه أن يعلق بها من شوائب، وإنشاء جيل جديد من أفراد مثقفين ثقافة رياضية عالية، مشربة قلوبهم بحب وطنهم، و التضحية في سبيله بالنفس والمال، وقد كان لا بد لمؤسسي هذه الجماعة لكي يصلوا إلى أغراضهم أن يعرضوا أمام الشباب مثلاً أعلى يحتذونه وقد وجدوا هذا المثل في الدين الإسلامي وقواعده التي رسمها القرآن الكريم والتي تصلح لكل زمان و مكان فأثاروا بهذا المثل العواطف التي كانت قد خبت في النفوس وقضوا على الضعف والاستكانة والتردد وهي الأمور التي تلازم عادة أفراد شعب محتل مغلوب على أمره، وقام هذا النفر من الشباب، يدعو إلى التمسك بقواعد الدين، والسير على تعاليمه، و إحياء أصوله سواء أكان ذلك متصلاً بالعبادات والروحانيات، أم بأحكام الدنيا. ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة، هو جيش الاحتلال الإنجليزي الذي ظل في هذا البلد قرابة سبعين عاماً، تخللتها طائفة من الوعود بالجلاء. كما كان بين المحتل وبين فريق من الوطنيين الذين ولوا أمر هذا البلد مباحثات و مفاوضات ليخلص الوادي مصر لأهله، ولم تنته المفاوضات والمجادلات الكلامية إلى نتيجة طيبة، ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صاحبها من ظروف و ملابسات”.
3- الإعتقال الثاني والثالث
وبعد مسرحية حادث المنشية الذي دبره جمال عبد الناصر عام 1954م بالتنسيق مع المخابرات الأمريكية للتخلص من الإخوان تم اعتقال الأستاذ مصطفي مشهور رحمه الله وحكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن عشر سنوات رغم وجوده وقت الحادث الممسرح في مقر عمله في مرسي مطروح بعيداً عن الإسكندرية كلها، وتم اقتياده إلي السجن الحربي سيء السمعة حيث تعرض مع إخوانه لأقسي أنواع التعذيب من زبانية عبد الناصر وعلي رأسهم حمزة البسيوني ثم نقل إلى سجن ليمان طره ومنه إلي معتقل الواحات الخارجة وكان حينذاك مجموعة من الخيام المحاطة بأسلاك شائكة في قلب الصحراء. وقد أمضى مدة السجن وخرج من المعتقل عام 1964م ليعاد اعتقاله عام 1965م بعد عدة أشهر فقط من خروجه ليتعرض للتعذيب من جديد بتهمة قلب نظام الحكم ويمكث في المعتقل دون محاكمة حتي عام 1971م ولم يخرج إلا بعد هلاك الطاغية عبد الناصر.
4- دوره بعد الخروج
بعد الخروج من السجن تحمل الأستاذ مصطفي مشهور رحمه الله الجهد الأكبر في التأسيس الثاني للجماعة مع الأستاذين عمر التلمساني ومحمد حامد أبو النصر فكان لهما خير معين مع أمثاله من رجالات الدعوة مثل الشهيد كمال السنانيري رحمه الله.
سافر الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله إلى الكويت عام 1981م ومنها إلى ألمانيا، حيث استقر بها خمس سنوات كانت عملاً دائباً لتدعيم وجود الجماعة، حيث تمكن مع إخوانه من إرساء دعائم التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين. ثم عاد إلي مصر عام 1986م ليعمل نائباً للمرشد العام الأستاذ محمد حامد أبو النصر فكان ساعده الأيمن في استكمال التأسيس الثاني للجماعة الذي بدأ في عهد الأستاذ عمر التلمساني، وفي المرض الذي رحل فيه الأستاذ أبو النصر عن دنيانا عام 1996م اختار الإخوان الأستاذ مصطفي مشهور رحمه الله مرشداً جديداً وأعلنوا بيعتهم له علي المقابر في جنازة الأستاذ أبو النصر ثم جدد الإخوان انتخابه مرشداً مرة ثانية عام 2002م.
انفتحت الجماعة في عهده علي العمل العام وتحالفت مع بعض الأحزاب السياسية وحققت نجاحات كبيرة في العمل النقابي والبرلماني. كما ارتقي العمل التربوي بالجماعة في عهده فلم تشغله السياسة والدعوة العامة عن التربية والتكوين وإحكام التنظيم.
5- وفاته
لقد كان رحمه الله مجاهداً حتي النفس الأخير، فقد دخل في غيبوبة أفاق منها فأصر علي النزول لصلاة العصر في المسجد وبعد الصلاة سقط في المسجد وأصيب بجلطة دماغية دخل علي إثرها في غيبوبة لازمته حتي لقي ربه مساء الخميس 14/11/2002م فهو بحق شهيد صلاة العصر، وشيع جثمانه مئات الألاف عقب صلاة الجمعة من مسجد رابعة العدوية إلي مقابر الوفاء والأمل ليرقد إلي جوار صاحبية التلمساني وأبو النصر رحمة الله عليهم جمعاً.

6- من أهم صفاته
أ‌- القدوة التربوية، وقد قبس نورها من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عيله وسلم، وقيام الليل، ومصاحبة المرشد الأول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، ذلك أن الأخلاق الكريمة تكسب من حال الرجال، أكثر منها من التلقين والأقوال وفي هذا المعنى يقول ابن عطاء السكندري ( لا تصحب من لم ينفعك حاله ويدلك على الله مقاله ).. وإن جماعتنا تولي التربية الأهمية الأولى، فهي التي تزكي الأنفس، وتهذب الخصال الكريمة ” والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ” [العنكبوت69].. وقد كان مرشدنا قدوة في أحواله، حكيماً في مواعظه وأقواله، أورث كثيراً من ذلك الشيء الكثير تلاميذه وإخوانه وجلساءه، رحمه الله وأجزل مثوبته.
ب‌- الصبر: ” إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ” .. وكيف لا يوصف من صبر على مآسي السجون وآلامها قرابة عشرين عاماً !! بنفس راضية مطمئنة، لم تخضع لطاغوت ولم تركع، وقد كان مدراء السجون يعرضون على أهل المعتقل حين زيارته الإفراج عنه مباشرة بمجرد توقيعه على نص للولاء للحاكم الظالم، وكانت عزة الشيخ مصطفى وثباته على مبادئه الربانية كانت تأبى عليه أن يتنازل أو يتراجع، وكان في نبل خصاله قليلاً ما يتحدث عن مآسي السجون والصبر عليها حذراً من التباهي والتفاخر.
ت‌- التواضع : قال الله تعالى : ” واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ” [الشعراء21] يشهد كل من عرف الشيخ مصطفى بتواضعه الجم وشدة حيائه، وخفض جناحه لإخوانه، يؤثر إخوانه على نفسه في أسفاره وإقامته، وتلك هي صفات عظماء الرجال وكبار النفوس.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
لقد أكرم الله تعالى شيخنا الجليل بهذه الفضائل الكريمة خلال عمره الدعوي الطويل والتي هي خير ما يجب أن يتحلى بها دعاة الإسلام في كل
زمان ومكان .
7- من أقواله في فقه الدعوة والتربية
كتب رحمه الله العديد من الكتب في فقه الدعوة والتربية و الكثير من المقالات التي حوت ثروة تربوية تحتاج إلي دراسة وهذه طائفة من أقواله رحمه الله:
• “العقيدة مع الإيمان يفجران في النفس كل طاقات الخير والعمل الصالح فيصبح المؤمن كله حيوية ونشاط يحقق الإنجازات الكبيرة في أقل وقت وبأقل جهد مستيعنا بالله دون شعور بعجز أو يأس فتصبح حياته ولو كانت قصيرة حافلة بالعمل والإنتاج المثمر في حقل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله منفذا لإرادة الله وحكمته في خلقه في هذه الدنيا ” (مقومات رجل العقيدة علي طريق الدعوة).
• “ولما كان رجل الدعوة وجندي العقيدة قد التزم طريق الدعوة لتحقيق الهدف الكبير الذي تفرضه طبيعة الفترة التي تمر بها الدعوة الإسلامية والخلافة الإسلامية من جديد فعليه أن يستشعر ضخامة هذا الهدف وما يحتاجه من جهود كبيرة وما يشمله من مجالات عمل متعددة وما يحتاجه من تضحيات وأن يعلم أيضا ما يناله من شرف وأجر عظيم .فالواجبات والأعمال المطلوبة في حقل الدعوة لتحقيق هذا الهدف العظيم كفيلة أن تشغل أوقات كل العاملين بل يضيق الوقت بهم عن أداء تلك الواجبات…والأخ المسلم المخلص لربه لا تفتر همته في بذل الجهد ومواصلة السير على الطريق ولو لم تظهر له النتائج المبشرة بالنصر فالمطلوب منه العمل وبذل الجهد كله دون تقصير مع إخلاص النية أما النتائج؛ فالله سبحانه هو الذي يرتب لها ويختار لها الوقت المناسب”(مقومات رجل العقيدة علي طريق الدعوة).
• “إنه لا يرتفع للطغيان صرح إلا ويدك للحرية صرح مقابل، وإذا تمادى الطغيان في قطر تحول إلى سجن كبير تحوي شعبًا مسلوب الحرية يحكمه مستبد حوله منافقون ومنتفعون، وقد شجب القرآن الكريم هذا النوع من الحكام، وشجب الملأ حول الحاكم المستبد، كما شجب الشعب الذي يستسلم لهذا الهوان، وقصة فرعون التي كررها القرآن في أكثر من موضع خير مثال لذلك…. إن التيار الإسلامي يريد أن يتخلص مجتمعنا من هذه الصورة المشينة، وأن يسعد أبناء وطننا بالحرية والمساواة والأمن والتكافل في ظل الإسلام وشريعة الله، والأمل في الله كبير أن يتحقق ذلك، رغم كيد الكائدين وتشاؤم المتشائمين” ( من التيار الإسلامي إلي شعب مصر).
• “أيها الشباب المسلم المجاهد: قَدِّر ما يلقيه عليك إسلامُك من مهامٍ جسامٍ في هذه المرحلة من عمر الدعوة الإسلامية، وما تعقده الأمة الإسلامية عليك من آمال عظيمة وإنجازات كبيرة، وكن على يقين أن المستقبل لهذا الدين الحنيف الذي ارتضاه الله لعباده، ولتطمئن إلى تحقق وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين. واعلم أن دون تحقق هذه الآمال الكبار جهدًا وجهادًا، وعرقًا ودماء، وأوراحًا وشهداء، وتضحية وفداء، فأعد نفسك لذلك، فطريق الجهاد ليس مفروشًا بالورود، ولكنه طويل وشاق وملئ بالأشواك والعقبات”(الجهاد هو السبيل)..
• “أيها الشاب المسلم على طريق الجهاد: اعلم أن ساحة الجهاد اليوم واسعة، وأن أعداء الله كثيرون، وألوان الحرب متعددة، مما يجعل صراع الحق مع الباطل يتطلب جهدًا ووقتًا، فهيئ نفسك لذلك، وكن من أصحاب النفس الطويل، ولا تكن ممن يأخذون الأمر ببساطة وعدم إحاطة، ويتعجلون النصر، فإذا ما تأخر بعض الوقت وهنت عزائمهم وضعفت همتهم وداخل اليأس قلوبهم، وكن يا أخي على ثقة مطلقة بربك، إنه معك ما دمت معه، فإنه ناصرك ما دمت تنصر دينه.(إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(محمد:7). وكن على ثقة مطلقة بدينك، وأنه الدين الحق المقبول عند الله، وكن على ثقة كبيرة بطريقك وجماعتك وأنك على الطريق الحق، وثق بنفسك وإخوانك أنكم قادرون-بعون الله-على إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو بعد حين … أيها الشباب المسلم: استشعر مسئوليتك عن كل مسلم على أرض الله يتعرض إلى قتل أو إيذاء أو فقر أو مرض أو جهل أو قهر أو تحكم من أعداء الله، تألم لألمهم، وليدفعك الألم إلى العمل والجهاد لإنقاذ هؤلاء جميعًا، واستشعر أيضًا مسئوليتك عن هداية البشرية وإخراجها من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإسلام، استشعر كل هذه المسئوليات الضخمة، وتجمع مع إخوانك تحت راية العمل الإسلامي الجاد، واسلك طريق الجهاد الحق لنصرة دين الله وإعزاز الأمة الإسلامية كي تعود البشرية إلى ما فيه خيرها وفلاحها.” (الجهاد هو السبيل).
• “سيظل الصراع بين الحق والباطل: تتسع ميادينه وترتفع رايات الجهاد، ويتنزل نصر الله على عباده المؤمنين ويتخذ الله شهداء حتى يتنزل نصر الله، ويمكن لدين الله في الأرض بإذن الله. يظن البعض أن شهادة هؤلاء الشهداء خسارة لحقت بالجماعة حيث فقدت شخصيات كان لها أثرها وتأثيرها في ساحة العمل والجهاد، وهذا ظن خاطئ، فإن شهادة الشهيد في سبيل دعوته زاد ووقود للأجيال ورمز للتضحية والفداء في سبيل الدعوة، وقدوة لأبناء الدعوة على طريق الدعوة. ويظن أعداء الله وعملاؤهم أنهم بقتل بعض الدعاة إلى الله سيقضون على دعوتهم وجماعتهم، خاصة لو كانوا من القيادات، وهم في هذا الظن واهمون مخطئون، فإنها ليست دعوة أشخاص أو جماعة أشخاص تنتهي بقتلهم، ولكنها دعوة الله ونور الله ولن يطفئ نور الله بشر، والله سبحانه وتعالى يجمع عليها الصادقين المخلصين يعوض بهم الصف ليواصلوا العمل والجهاد حتى تتحقق الأهداف التي قامت من أجلها الجماعة من إقامة دولة الإسلام وعلى رأسها الخلافة الإسلامية تمكينًا لدين الله في أرض الله(حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه)(الأنفال:39). وليعلم شبابنا المسلم أن المعركة بين الحق والباطل معركة شرسة وممتدة زمانًا ومكانًا لتشمل الساحة الإسلامية، وليعلموا أن الجهاد هو السبيل وأن التضحية بالنفس والمال أمر حتمي، وأن فرصة الجهاد والاستشهاد ستزداد خلال عشرات السنين القليلة القابلة كمقدمات لمرحلة الجهاد والتمكين بإذن الله كما حدث في عهد الدولة الإسلامية الأولى بعد مرحلة الإيذاء والتعذيب” (الجهاد هو السبيل).

 

مشهور مرشداً أو قائداً

كان الشيخ مصطفى يحمل أعباء المرشد ومكتب الإرشاد قبل أن يصبح هو المرشد ، فقد كان المرشد الفعلي أيام سلفيه الشيخ أبي النصر والشيخ عمر التلمساني، وكان يتحمل المسؤولية كاملة عن تلك الفترة، وخاصة بعد أن غادر مصر إلى الكويت فألمانيا، ثم بعد تسوية وضعه، وعودته إلى بلاده.

وعندما تسلم منصب الإرشاد ، تابع مخططه الذي رسمه للجماعة مع أعضاء مكتب الإرشاد، وعمل بجد واجتهاد لتنفيذه، وقد لجأ إلى التحالفات السياسية مع بعض الأحزاب وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية والنقابية، وحققت نجاحات رائعة.

لقد اتسم عهده بالعقلانية المفرطة في ابتعاده عن أي صدام مع الدولة، مهما بلغت تجاوزات الحكومة والأجهزة الأمنية، وعده بعض المفكرين السياسيين والإعلاميين كالدكتور عبد الوهاب الأفندي، أفضل عهود الحركة، فلم تعد الإخوان حركة هامشية على الساحة السياسية ، ولم تدخل في مواجهة شاملة مع الدولة ، ولم تتعرض قياداتها للقتل و الإعدام والتشريد و السجن ، فقد كان دائماً يرفض الاستدراج إلى المواجهة الشاملة.

إنه سياسي محنك، و داعية حكيم يضبط نفسه و نفوس إخوانه، مع أنه كان في خط المواجهةالأول، منافحاً عن مبادئه و جماعته باليد واللسان والقلم .

لم تشغله السياسية عن الدعوة و التربية ، كما لم تبعده الدعوة و التربية عن العمل السياسي ، فقد كان يكتب في هذه المجالات كلها، ويصول ويجول في ميادينها بحنكة تدل على تجاربه العميقة في هذه المجالات التي كان يوازن بينها، بحيث لا تغطي إحداها على الأخريات، وإن كان العمل التربوي هو المقدم عنده، لأنه أمضى سنوات مديدة مع طلبة الجامعات ، يربيهم ويغرس غراس الإيمان والتضحية والبذل في نفوسهم، ليكونوا مؤهلين لتسلم العمل المناسب لكل منهم، وليكونوا قادة المستقبل وحملة الراية من بعد.

كان يعتبر تغليب العمل السياسي على العمل الدعوي و التربوي انحرافاً عن مسار الجماعة نحو أهدافها وغاياتها، مع أن العمل الدؤوب لإقامة الدولة التي تحكم بما أنزل الله ، لم يغب عن باله قط.

ويرى الدكتور الأفندي أن الجماعة في عهده صارت المعارضة الأولى في البرلمان المصري ، وقد حققت صموداً عجيباً، بل حققت معجزة الانتصار على محاولات الإفناء والتغييب، ولم تكتف الحركة بالمحافظة على بقائها في ظروف صعبة تمثلت في عداء نشط من قبل الأجهزة و الدولة ، ومن المناخ العالمي، بل تفوقت كذلك على كل منافسيها، بحيث أصبحت الحركة السياسية الأولى في البلاد.

والذي يقرأ كتاباته في كتبه وفي الصحافة ، يعرف أي جراءة في الحق كانت تعتمل في نفس الرجل ، فتتفجر على سنان قلمه، فيكتب ما يكتب في نصاعة بيان، ووضح ، بلا جلجلة ولا غموض.

والذي يطالع رسالته التي بعث بها إلى الرئيس الأمريكي بوش الابن، بعيد انتخابه، يعرف أي رجل هذا الشيخ رأيته آخر مرة عام 1988 وهو يمشي على قدميه فوق أحد الكباري الضخمة في القاهرة ، وكان غاصاً بالسيارات وبشمس القاهرة المحرقة، إنه قائد ولديه الكثير من مقومات القيادة الرصينة الزاهدة معاً.

الحق يقال: إن الشيخ مصطفى مشهور صاحب مدرسة فكرية و سياسية و دعوة تحتاج إلى دراسة دقيقة لاستخلاص أطرها وعناصرها ومقوماتها وما فيها من دروس وعبر، وهذا ما سوف أنهض به إن شاء الله تعالى إن فسح الله في العمر ووهب الصحة والفراغ، ولكنني أدعو إخوانه وأولاده وتلاميذه الأقربين، وطلاب الدراسات العليا، أن يسعوا إلى جمع آثاره، فمقالاته منثورة في عدد من الصحف والمجلات التي قد لا تصل إليها أيدينا هنا خارج مصر .. هذه أمانة نضعها في أعناق محبيه ومحبي دعوته وأبناء جماعته.

الرحيل

دخلت عليه ابنته في غرفته قبيل العصر فرأته مرتمياً على الأرض في غيبوبة ما لبث أن أفاق منها، وقام ليتوضأ، رجته ابنته أن يشفق على نفسه ويصلي العصر في البيت، فأبى وخرج إلى المسجد ، وبعد صلاة العصر أصيب بجلطة دماغية ألقته أرضاً، ليدخل في غيبوبة استمرت سبعة عشر يوماً، منذ التاسع والعشرين من تشرين الأول، وحتى وفاته في الساعة السادسة مساء الخميس التاسع من رمضان المبارك 1423هـ الرابع عشر من تشرين الثاني2002م.

شيع جثمانه الطاهر عقب صلاة الجمعة (15/11/2002) من مسجد السيدة رابعة العدوية بمدينة نصر في القاهرة .

صلت عليه جموع غفيرة، أمهم المستشار الشيخ محمد المأمون الهضيبي ، ثم حمل جثمانه في صندوق خشبي متواضع وضع في سيارة ميكرو باص، وسار خلفه المشيعون، وكانوا مئات الآلا ف وصل تقرير بعضهم إلى نصف مليون، وقال آخرون: كانوا مليوناً يسيرون في موكب مهيب، يبكون في صمت وحزن وخشوع.

وشارك في التشييع عدد من رؤساء الأحزاب المصرية، وأساتذة الجامعات ، والعلماء ، والشخصيات الاعتبارية، وأعضاء مكتب الإرشاد، ونواب الإخوان في البرلمان ، وكان حضور الصحافة العالمية كبيراً.

وكان شباب الإخوان يرفعون المصاحف إلى الأعلى من حين خروج الجنازة من المسجد إلى أن ووري في مثواه الأخير، وفي مقابر (الوفاء والأمل) التي تضم جثماني المرشدين السابقين التلمساني وأبي النصر ، رحمهم الله رحمة واسعة، وقد استغرقت الجنازة مدة ساعتين من المسجد حتى القبر.

وألقى المستشار الهضيبي كلمة وداع ووفاء على قبر الفقيد الغالي.

وفي المساء تقبل الإخوان العزاء الذي حضره عشرات الآلاف، تحدث الأستاذ مأمون الهضيبي عن مسيرة المرشد الفقيد في ميادين للعمل الدعوي طوال خمسة وستين عاماً، تحدث عن نضاله وعن فترات السجن الطويلة، وما لقي فيها من ألوان العذاب، كما تحدث عن جهوده في إعادة الجماعة إلى الحياة المصرية، وتعاونه مع الأستاذ عمر التلمساني في سبيل ذلك.

حضرت العزاء شخصيات سياسية وفكرية مرموقة ومعروفة، مصرية وعربية، وكان الحضور (الناصري) كثيفاً ولافتاً للأنظار، ونعى رئيس الحزب الناصري الأستاذ (حامد محمود)، المرشد الفقيد بقوله: (رحم الله مرشدنا) وأضاف: (يدرك الحزب الناصري أهمية حركة الإخوان المسلمين في العمل الوطني، وإذا كان الشيخ مصطفى مشهور قد فارقنا، فإن إخوانه يحملون الراية).

x

‎قد يُعجبك أيضاً

سيد قطب والعمل مع الله.. سيرة مفكر إسلامي كبير في ذكرى استشهاده

في يوم 29 من أغسطس 1966م قامت السلطات العسكرية بإعدام سيد قطب، والذي تدلّى على ...