دروس في التضحية من الأضحية

untitled-1

يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]. نعم إنه ليقص عليه من أنباء الرسل ما يثبت بت فؤاده، ووضع له في هذه القصص الحق والموعظة والذكرى للمؤمنين.

إن الله عز وجل يذكر لنا قصة من قصص القرآن الكريم ويردنا أن نتدبر معناها، ونسبر غورها حتى نفقه مغزاها فنستخرج منها الحكم ونأخذ منها العبر، إن كنا من أولي الألباب كما يقول في ذلك: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].

قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
ومن هذه القصص البليغة قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ابنه إسماعيل، وفيها تبرز لنا أعظم التضحية، تضحية الأب الحليم الأواه المنيب بابنه الصادق الوعد الأمين.

تضحية وأي تضحية، لو عرضت على الجبال الراسيات الشامخات لما أطاقتها ولاعتذرت منها، تصور أيها القارئ الكريم أبا شفوقا كان قد حرم الذرية، حتى إذا بلغ الشيخوخة وكاد أمله ينقطع من الولد، إذا بالذي اصطفاه خليلا في الدنيا يرزقه غلاما زكيا وفيا، حتى إذا بلغ معه السعي، وأصبح يليق بوراثة الحكمة والنبوة، أو بمعنى آخر أصبح الساعد الأيمن لهذا الأب العجوز، يعتمد عليه في المهمات والملمات، فبنى معه أول بيت وضع للناس {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127].

أقول حتى إذا بلغ هذه السن المنتجة النافعة التي تملأ قلب الأب سرورا وبهجة وتكحل عينيه قرة وجمالا، إذا بالذي ينعم عليه يسأله! نعم يسأله إياه تلميحا لا تصريحا ليترك له مجال التهرب إن لم يستطع تحمل المحنة، غير أن اللبيب من الإشارة يفهم، ومن أولى بأبي الأنبياء بهذه النباهة، فاعتبر المنام وحيا صريحا، وعدَّه امتحانا واختبارا للمحبة الإلهية، فما كان منه إلا أن سارع إلى ابنه وحبيبه يعرض الأمر عليه ليرى رأيه فيه، ولكن الابن العليم الحكيم كما وصفه ربه كان عند حسن ظن أبيه كما كان أبوه عند حسن ظن ربه سبحانه، فبادر يقول لأبيه الصديق الوقور: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

يا لله ما أعظم هذه التضحية من الأب .. يا لله ما أعظم هذا البر من الابن .. وهل هناك تضحية أعظم من أن يقدم أحدنا ولده فلذة كبده وحشاشة قلبه قربانا لربه ؟ وهل هناك بر أعظم من أن يقدم أحدنا رقبته لأبيه ليذبحه؟ وهل أبقى هذا الأب الجواد الكريم تضحية تعدل هذه التضحية؟ وهل أبقى هذا الغلام برا على وجه الأرض يعدل هذا البر؟ سجل يا تاريخ سجل! وتكلمي يا أيام!

تعال أيها القارئ العزيز نقرأ معا هذه القصة العجيبة الفريدة من سورة الصافات: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].

لقد كان في وسع الأب أن يغض الطرف عن المنام، ولو أنه وحي بالنسبة للأنبياء، إلا أنه ليس كالوحي الصريح الذي ينزل على الرسل، لا يقبل الشك ولا الالتباس، ولكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام المتفاني في محبة خليله كان يرى التلميح تصريحا، كان يرى كل شيء من الله إلهاما: مناما كان أم يقظة، ابتلاء كان أم أنعاما، فإذا به يلبي دعوة مولاه ويذهب مستشيرا ابنه في رؤياه.

فيجيبه هذا الولد البار: افعل ما تؤمر ولا تتأخر، فإذا كان ذبحي يرضي مولاك فإنه يرضيني، وان كان سفك دمي يسر خليلك فإنه يسرني، فصبر جميل والله المستعان وكلنا لله وكلنا راجعون إليه. وكان لسان حال إسماعيل يقول: “ما هي إلا أمانة طلبها صاحبها فرددناها، فهو المنعم المتفضل وله الحمد في الأولى والآخرة”.

بخ بخ لك يا إسماعيل ابن خليل الرحمن، ومرحى مرحى يا ابن أبي الأنبياء، فلا عجب إذن أن نقرأ هذا الثناء العظيم عليه من العلي العظيم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54-55].

تأملات من القصة
هذه هي القصة العتيدة الغريبة، فما الذي ينطوي تحتها يا ترى؟ ماذا يردي العزيز الحكيم من ورائها؟ هل هي للترنم بالقراءة والتبرك بالمعنى؟ أم هي لسرد حادثة وقعت في الزمن الغابر وانقضى عهدها؟ أم هي قص من القصص التي يتعجب الإنسان لها ثم لا يلبث أن ينساها؟

كلا والله، لا هذا ولا ذاك .. إنما هي تذكرة للمسلمين في كل عام لتقديم أغلى ما يملكون لربهم، هي درس للمؤمنين في التضحية بأعز ما يحوزون، بأغلى من المال والروح اللذين عقد الله عز وجل مع عباده بيعة بشأنهما أن لهم الجنة إن هم باعوهما له عند الطلب وقربوهما ثمنًا حينما يدعو داعي الجهاد، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].

أقول هي أعز وأغلى من هذه البيعة العظيمة، إن أن الإنسان يهون عليه مائة مرة أن يقدم نفسه وماله على أن يقدم ولده، وهذه هي غريزة الرحمة التي وضعها الله في قلوب مخلوقاته من إنسان وحيوان، فنحن نرى الحيوان كيف يقاتل دفاعا عن أولاده حتى يقتل ولا يسلمهم لشيء يؤديهم ما دام فيه عرق ينبض ونفس يتحرك.

إذًا فالتضحية بالروح ليست شيئا يذكر أمام التضحية بالولد، ولكن هناك ما هو أعظم ألف مرة من هذا أيضا، هو أن تقدم ولدك بيدك أنت لا بيد غيرك دون أن تراه، هو أن تأخذ سكينك بيمينك وتذبح بها ولدك، فلذة كبدك فتقطع البلعوم والأوردة جيئة وذهابا، حتى يتدفق الدم على يديك ووجهك، ويلطخ جسدك وثيابك، ثم تبقى بعد ذلك كله واقفا على قدميك، مالكا لوعيك تقول لربك: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك لبيك والأمر كله بيديك

فأي عقل هذا الذي يحتمل هذا البلاء فلا يتصدع؟ وأي قوة هذه التي لا تخور عند هذه الفاجعة فلا تتحطم؟ وأي قلب لا ينفطر حزنا وتصيبه السكتة عند هذه البلية فلا يقف عن الخفقان؟ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] صدق الله العظيم. غير أن رحمة الله قريب من المحسنين، فيستبدل بالابن كبشا عظيما وينادي خليله قائلا: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105].

لقد علمنا أن محبتك لربك هي فوق كل شيء، فوق المال والنفس والولد، وإنما أردناك مثلا للتضحية يفتدى بك، وأسوة حسنة لذريتك المسلمة من بعدك لا تؤثر على ربها أهلا ولا مالا: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} [البقرة: 128].

هذه هي القصة التي لا يستطيع بشر أن يوفيها حقها من الروعة والإجلال والمهابة، إذ لا يشعر بمحبتها إلا من ابتلى بها، ولا يشعر بمرارتها إلا من ذاق حنظلها.

المعنى العميق من القصة
وبعد، فما هو المعنى العميق الذي نستنبطه من القصة العظيمة لأب عظيم وابن عظيم وذبح عظيـم؟

كل سنة تذكرنا الأضحية بسنة أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، تذكرنا بأن المقصود فلذات الأكباد لا الأكباش، حتى تظل على اتصال دائم بهذا المعنى العظيم، معنى التضحية بأعز ما يملك الإنسان، معنى أن محبة الله وطاعته والاستسلام له والانقياد لحكمه فوق المال والنفس والولد، فلا نرغب بأي منها عنه، فإنما هي أمانات عندنا، وهل لأحد فضل أن هو أدى الأمانة إلى أهلها؟ نعم إن فعل ذلك طوعا لا كرها.

هذا هو المعنى الذي نفهمه من القصة، ولو أن المسلمين فقهوه على حقيقته، فحرصوا على الموت حتى توهب لهم الحياة، لما استعمرهم غاصب غشوم، ولما استذلهم طاغ متكبر، ولما وطء أرضهم مستعمر جبار.

وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 130-131].

 

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...